أ. د. عادل الأسطة - أبو رشيد عبد الرازق أبو بكر "مقاربة نقدية"

لا أتذكر أول مرة التقيت فيها بأبو رشيد . هل تم اللقاء يوم زاملته في جامعة النجاح الوطنية في العام ١٩٨٢ أم تم اللقاء قبل ذلك في مناسبات وطنية عامة ؟
ولكن ما أتذكره أن جوا من الألفة والصداقة والمودة والاحترام والتقدير ساد بيننا واستمر حتى نهاية عمله في جامعة النجاح ، وفي الفترة التي تلتها وإن قل اللقاء بيننا وندر .
وما أتذكره أيضا أن الرجل كان حاضرا باستمرار ، بحكم شخصيته وانتمائه الوطني وعمله الوظيفي ، في حياة الجامعة وفي الحياة السياسية والإجتماعية في الوطن كله ، وأنه كان بذرة إصلاح دائما .
ما قلته سابقا عن معرفة شخصية تقوله قصائد أبو رشيد التي كتبها على مدار ستة عقود تقريبا ، فثمة قصائد كتبها في العام ١٩٤٨ وثمة قصائد كتبها في العام ١٩٨٦ وبعده ، وهذا ما لاحظته وأنا أقرأ القصائد في العام ٢٠٢٠ لأتحدث عنها في هذه الندوة التي تأخر موعدها خمسة عشر شهرا ونصف الشهر .
ويستطيع القاريء أن يلحظ هذا بسهولة ودون عناء إذا ما نظر في موضوعات القصائد ومناسباتها .
ستقول لنا القصائد الكثير عن شخصية أبو رشيد وانتمائه المتعدد الذي يفضي كل انتماء فيه إلى الانتماء الآخر .
كان أبو رشيد منتميا إلى أسرته وإلى مكان عمله وإلى وطنه فلسطين وإلى أمته ، وكان منتميا إلى حركة فتح أيضا ولم يخف هذا ، وهذا ربما كان السبب الذي دفع المشرفين على طباعة الديوان إلى اختيار العنوان " أريد " عنوانا للديوان ، فما الذي يريده أبو رشيد ؟
في العام ١٩٨٦ كتب الشاعر قصيدة أمام طلاب جامعة النجاح الوطنية استوحاها من حرب بيروت في ١٩٨٢ ؛ الحرب التي خاضها الفلسطينيون وحيدين والعرب من حولهم يتفرجون ، وجعل عنوانها " أريد " وفيها أفصح عما يريد :
أريد وما عسى تجدي أريد
لعمرك فالاله هو المريد
أريد من الشبيبة أن يكونوا
رجالا عن مرابعها تسود
( لعل ثمة خطأ في الشطر الأخير ، ولعل الأصح هو :
رجالا على مرابعها تسود
أو
رجالا عن مرابعها تذود ) .
ويتابع أبو رشيد قوله :
فلا عيش لرعديد جبان
بل الدنيا لمقدام يجود
ولا أهل لجاسوس عميل
صفيق الوجه منظره القرود
ولا عيش لسمسار خؤون
يبيع الأرض تغريه النقود "
( لعلها :
ولا أهلا لجاسوس عميل )
هذا هو ما يريده ، ومن أجل ما يريده انتمى إلى أسرته ومؤسسته وحركته ووطنه وأمته ، وكانت أشعاره تعبيرا عن انتمائه ، فلا تخلو أشعاره من الكتابة في :
- الأسرة
- المؤسسة
- حركة فتح ورموزها
- فلسطين كلها من شمالها إلى جنوبها
- أمته العربية ورموزها الإسلامية والمسيحية .
ويستطيع المرء أن يفصل في هذا ويستطيع أن يعرفه أيضا من خلال عناوين قصائده والمناسبات التي كتبت فيها .
كتب أبو رشيد قصائد في رثاء أقاربه من أب وإخوة وزوجة توفوا في أثناء حياته ، وكتب قصائد تهنئة بولادة أبناء وأحفاد ، وكتب قصائد في اعتقال أبنائه وأسرهم وحياتهم في السجن وكتب وكتب .
وكتب قصائد في جامعة النجاح الوطنية التي كان ركنا من أركانها وعلما من أبرز أعلامها ، وكتب قصائد خص بها حركة فتح ورموزها المعروفين وعلى رأسهم ياسر عرفات ، وكتب قصائد عن القدس وفلسطين المحتلة في العام ١٩٤٨ ؛ عن يافا وحيفا وعكا والناصرة بلد السيد المسيح ، وكتب قصائد في المناسبات الدينية الإسلامية ، خص بها شخصية الرسول الكريم ، ولطالما تغنى أبو رشيد بأبرز الرموز الإسلامية مثل الصحابة وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وجعل منهم مثالا يحتذى ؛ شأنه في ذلك شأن الشعراء الكلاسيكيين ، وهنا يمكن القول إن أبو رشيد كان شاعرا كلاسيكيا ، فماذا أعني بهذا ؟
الشاعر الكلاسيكي هو الذي يسير على خطى الشعراء الذين سبقوه ويكتب قصائده على منوال قصائدهم ؛ لغة وبناء وموضوعات ، وهو الذي يمجد الماضي ورموزه جاعلا منه مثالا له يحث الأجيال على الاقتداء به - أي الماضي ، ولو نظرنا في لغة الشاعر وطريقة بناء قصائده وموضوعاته لما لاحظنا أن شعره اختلف عن الشعر العربي القديم ، ويستطيع المرء أن ينظر في الصور والاستعارات والتشابيه ليرى أنه في النصف الثاني من القرن العشرين يقرأ شعرا يشبه الشعر الذي كتبه الشعراء العرب القدامى . هنا يمكن التوقف أمام قصيدة أو قصيدتين مثالا .
لو أخذنا قصيدة " في ذكرى مولد الرسول الكريم " التي ألقيت في جامعة النجاح الوطنية فسنلاحظ عليها الآتي :
- إنها قصيدة ذات موضوع مطروق في الشعر العربي القديم وهو شعر المدائح النبوية .
- إنها مكتوبة في شخصية من الماضي يجلها المسلمون ويقدرونها ويفتدون أنفسهم بها ، وتستحضر شخصيات إسلامية أخرى مثل سعد وقعقاع .
إنها سارت على نهج قصائد عربية سبقتها ، فالشاعر يفتتحها بقوله :
" ولد المشرف والملائك تسجد
والطير تشدو والسماء تزغرد "
إنها تذكر بقصيدة شوقي الشاعر المصري الكلاسيكي أيضا " ولد الهدى ":
" ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم السماء تبسم وثناء "
- إنها قصيدة تمجد الماضي وتعلي من شأنه وتتغنى به وتجعله مثالا ، وهي تقارن بين ماض مجيد وحاضر بائس :
" إيه رسول الله أنظر حالنا
حال يسوء وقوة تتبدد
أين العروبة ؟ أين صحب محمد ؟
أين السيوف ؟ أعن التحرر تغمد ؟"
- وانظر مفرداتها وتراكيبها وصورها أيضا :
السؤدد والبطاح ودكوا المعاقل وقعقاع وكسرى وسرمد ومن كل فج وقطعان بهم و... و ..
- إن الخروج من الحاضر البائس لا يتم إلا بالسير على خطى الأقدمين .
ولو نظرنا في قصيدة " سنعود يوما " وهي القصيدة الأولى في الديوان ، للاحظنا :
- من حيث الموضوع لا يختلف موضوعها عن الموضوعات التي خاض فيها الشعراء الفلسطينيون في المنفى ، وعبروا فيها عن مشاعر اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من بلادهم وأقاموا في المنافي ، وهنا أشير إلى قصيدة الشاعر عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) المعروفة " سنعود " التي مطلعها :
" خلعت على ملاعبها شبابي
وأحلامي على خضر الروابي "
.
إن حلم العودة إلى حيفا ويافا وعكا هو الحلم الذي كان يراود اللاجئين وما زال ، وأبو رشيد يدرك هذا ويعرفه .
- صور القصيدة وتعابيرها ومفرداتها ونغمتها هي صور وتعابير ومفردات لا تختلف كثيرا عما شاع في شعر تلك المرحلة .
ويقود ما سبق إلى ظاهرة لافتة في أشعار أبو رشيد وهي أنه متأثر تأثرا واضحا بأساتذته شعراء الجيل الأول ؛ إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود ، فمن مثلا وهو يقرأ أشعاره لا يتذكر بعض قصائد الشعراء المذكورين .
لقد ذكرت قصيدة " سنعود يوما " مثالا لتأثره بأبو سلمى ، وهنا أشير إلى قصيدة لا تعجبن لتغزلي " التي مطلعها :
" ومضيفة في الطائرة
أخاذة كالساحرة "
إنها سرعان ما تذكرنا بقصيدة طوقان " في المكتبة " التي مطلعها :
" وغريرة في المكتبة
بجمالها متنقبة
جلست لتقرأ أو
لتكتب ما المعلم رتبه "
وقصيدته " مصرع هرة " التي مطلعها :
" ابتسامات صديقي قد تلاشت ذات مرة "
فإن عنوانها يذكرنا بقصيدة إبراهيم طوقان " مصرع بلبل " وإن غلب على قصيدة أبو رشيد حس الدعابة ، وحس الدعابة لا يغيب عن روح بعض قصائده كما في قصيدة " إلى غفل لئيم " ، وهي قصيدة طريفة تشير إلى روح المرح لدى الشاعر :
"غفل أتاني زائرا
وأراد مني أن أعينه
ترك الديار وأهله
وأتى ليقطن في المدينة
قال الحياة مريرة
خسئت لعمري من خؤونة
هيا وساعد متعبا
واعطف لحالتي الحزينة
قدمت جهدي طائعا
وأجبت في عملي ظنونه
عاملته كأخي الحبيب
ومسحت في رفق شجونه
أمسكته بدء الطريق
وكان إرشادي متونه
أنا إن بذلت معونة
لا أرتجي رد المعونة
عجبا لعقلي قد غدا
بعد التودد والمرونة
خصما لئيما حاقدا
جمع اللئامة والضغينة
وغدا عدوا غادرا
أكذا يعامل من يدينه
لكن عزائي واحد
غفل له نفس مشينة "
هنا أتوقف أمام ظاهرة لافتة في الأدب الفلسطيني بعامة وهي ظاهرة الوقوف على الأطلال .
إن ظاهرة الوقوف على الأطلال شغلت ذهني وأنا أقرأ الأدب الفلسطيني حتى إنني اقترحتها موضوعا لرسالة ماجستير لإحدى طالباتي .
بدأ الوقوف على الأطلال في الأدب الفلسطيني في فترة مبكرة ، وهنا أشير إلى أربعة نصوص على سبيل المثال لا الحصر :
- على سكة الحجاز لجمال الحسيني . ١٩٣٢ .
- قصيدة أبو سلمى " سنعود " بعد ١٩٤٨ .
- قصيدة فدوى طوقان " على أطلال يافا " بعد ١٩٦٧ .
- قصيدة محمود درويش " طللية البروة " .
وأبو رشيد كتب غير قصيدة وقف فيها على أطلال بيوت أقاربه ومنها قصيدته " دار الأحبة " .
في صباح يوم عيد وقف الشاعر على باب دار أخته ( سعده ) بقلقيلية وكانت قد رحلت إلى عمان ، فتأثر كثيرا على دارها الخاوية ، وكتب :
" مررت بالدار يوم العيد أسألها
أين الأحبة أين الأهل يا دار
أجابتني وجو الحزن يغمرها
إن الأحبة عن الأوطان قد ساروا
قد كان عهدي بالأحبة زاهرا
يرنو ويبسم حولنا النوار
واليوم أضحى لا أنيس بساحتي
لا الصحب تمرح لا ولا السمار
فأجبتها ودموع العين تفضحني
الشوق نار لأهل الدار موار
صبرا جميلا لعل الله يجمعنا
يوما بسعدى فإن الدهر دوار " .
وأعود إلى بعض الجوانب الفنية في الديوان ومنها :
أولا - ترتيب قصائد الديوان :
اللافت للنظر في أثناء قراءة قصائد الديوان أن القصائد لم ترتب ترتيبا عرفناه في ترتيب قصائد الدواوين القديمة والحديثة .
لم ترتب القصائد ترتيبا حسب قافيتها مثلا كما هو حال ديوان المتنبي ، ولم ترتب حسب تشابه الموضوعات كما هو حال ديوان إبراهيم طوقان ، ولم ترتب حسب تاريخ كتابتها - أي ترتيبا زمنيا ، ولم ترتب حسب طولها أو قصرها ، بل لم ترتب حسب جودتها الفنية .
والشاعر المتوكل طه الذي كتب مقدمة للديوان لم يفصح لنا شيئا من هذا ، فقد اكتفى بكتابة مقدمة وجدانية في الشاعر وعلاقته به وبابنه صديقه وزميله في حركة فتح وفي الأسر والكفاح .
كنت شخصيا أتمنى لو رتبت القصائد حسب تشابه موضوعاتها . القصائد الوجدانية وقصائد الرثاء والإخوانيات والقصائد الوطنية وقصائد الحنين وقصائد المديح وهكذا دواليك .
ثانيا - قصيدة " سنعود يوما " .
لفت نظري وأنا أقرأ قصيدة " سنعود يوما " الإشارة الآتية حول زمن نشرها " نظمت مطلع الخمسينيات "، والسؤال هو :
- هل كانت الملاحظة السابقة من الشاعر أم من اللجنة المشرفة على طباعة الديوان؟
إنني أرجح أنها من اجتهاد اللجنة لا من الشاعر للأسباب الآتية :
- هل كانت البلدة القديمة من القدس قبل العام ١٩٦٧ محتلة ؟
- هل كان الفلسطينيون في الضفة الغربية غير قادرين على الوصول إليها ؟
- هل كان الحرم أسيرا ؟
لقد غدت القدس كاملة محتلة بعد العام ١٩٦٧ فكيف نظمت القصيدة في مطلع الخمسينيات إذن ؟ أم تراها نظمت على فترتين ؛ الأبيات السبعة الأولى في مطلع الخمسينيات وبقية القصيدة بعد العام ١٩٦٧ ؟ وهذا ممكن وله مثيل في تاريخ الشعر العربي ، والمتخصصون في الشعر الإسلامي يتوقفون أمام قصيدة حسان بن ثابت الهمزية التي مطلعها :
" عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء " .
لقد نظر دارسوها إلى مضمونها ولغتها ولاحظوا الفرق بين الجزء الأول منها والجزء الثاني .
ويبقى سؤالان مهمان هما :
- كيف كان أبو رشيد ينظر إلى نفسه شاعرا ؟
وهل كان الشعر لديه احترافا أم هواية يكتبه كلما جدت مناسبة تأثر بها وفاضت فيها مشاعره ؟


عادل الاسطة
آذار ٢٠٢٠ ( ندوة نادي حيفا الثقافي ) / نابلس .بناء على طلب المحامي فؤاد نقارة .
الكتابة في يومي
الخميس والجمعة
١ و ٢ تموز ٢٠٢١ .





* "نص المداخلة التي ألقاها د. عادل الاسطة اليوم الجمعة مساء في فندق الياسمين خلال الحفل الذي أقامه نادي حيفا الثقافي لتكريم الشاعر بحضور ابنه السيد عصام أبو بكر "




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى