المقاهي فاروق مصطفى - المقـــاهي الأدبية في كركـــــوك

تعود بدايات ولعي الى المقاهي الى طفولتي المبكرة . فعندما أدركني الوعي والى ما تحيطني من أشياء ، اكتشفت أن المنطقة التي عرفت ملاعبَ لهوي وعبثي مزينة بالعديد من المقاهي التي كانت تسهر حتى الساعات المتأخرة من الليل فمنطقة مثل "جرت ميدان " في خمسينات القرن المنصرم كانت تزخر بمقاهيها التي لا تتعب من سهر روادها ، ومازلت اذكر بضعة منها موزعة على جانبي الطريق الممتد من " ساحة الطيران" وصعودا الى "جرت ميدان" ثم مدخل سوق "القورية" المفعم بالاكتظاظ وأصوات الباعة التي تروج لمعروضاتهم . ولابدّ من التنويه بمقهى والدي المستلقي على حافات "جرت ميدان" كان هو الآخر أجج مشاعر العشق لهذه الأماكن الحسنة الإضاءة والتي تدفع المرء الى الاستلقاء فيها وترك العنان لأحلامه المجنحة ومن مقهانا الناعس والذي احيل الى المعاش أواخر الخمسينات قد ترك بصماتِ هواه على جدران الفؤاد , فخرجتُ ابحث عن ذلك العشق المفقود في زوايا وأركان أخرى علني اعثر على تلك الأحلام التي أعشبها مخيالي وأنا انظر الى الطيور المسافرة بعينين نهمتين الى دفء العلاقات الإنسانية وحب بسطاء الناس والإصغاء الى كلماتهم البيضاء في مودة الحياة والتواصل الإنساني النبيل .
عندما تعرفتُ " جان دمو" في بغداد وجددنا لقاءاتنا بكركوك اذكر احد أيام خريف عام 1964 صعدنا الى مقهى " النصر" " المدورة" وتقدمنا من مائدة كان يجلس عندها القاصان " جليل القيسي" والمرحوم " يوسف الحيدري" انضممنا اليهما وسالت بنا أعناق الأحاديث , وعندما تعرفنا " صلاح فائق " انضم هو الأخر الى المقهى , وكان لهذا المقهى في تلك الأيام نكهة خاصة لأنه يقع في الطابق الثاني وله شرفة خاصة وجميلة تشرف منها على شارع " الجمهورية " أصبحنا أنا وجان وصلاح نلتقي فيه كثيرا وغدا لنا مأوى أنيقا وأمينا نصعد إليه ما بعد الظهائر ونحن نتأبط كتبنا الخوالد نتناشد فيه قصائدنا ونتجادل بصوت مرتفع يغسله الحماس عن قضايا أدبية كانت تشغلنا هاتيك الأيام , ولكننا سرعان ما مللنا الجلوس فيه وشرعنا نبحث عن مأوى أخر نلقي فيه أجسادنا التعبى ووجدنا ضالتنا في العمارة نفسها في مقهى صغير ولكنه مهندم وهو مقهى" جليل " المواجه تقريبا لبناية المتوسطة الشرقية التي فيما بعد وتحولت الى مرآب في الوقت الحاضر, صاحبه رجل طيب أو قل انه فتى بجسده الواهن الصغير ولأدبه الجم لا يسألك عن ثمن الشاي سواء أدفعت له أم لم تدفع ؟ يحترمنا وينظر الينا نظرة ملؤها التقدير وهو يرانا نحمل كل هذه الكتب في حلنا وترحالنا , بدأ المقهى يشتهر بالإضافة الى جماعتنا صار يفد اليه أصدقاؤنا التشكيليون محمد جلال "ممادي" يقيم الان في ايطاليا , والفنان ناصر خلف وآخرون . وبعد ذلك أصبح أصحابنا اليساريون يتقاطرون عليه ويدسون منشوراتهم في جيوبنا من تحت الطاولات او يتبادلونها ثم يتوزعون الى مناطق اخرى من المدينة وحتى"جان" احد الأيام طلب تحميله بحزمة من هذه المنشورات والصعود بها الى " القلعة" وتوزيعها هناك الا انه عندما عاد الينا كان فمه يقذف سيلا من الشتائم ولم يعاود هذا العمل كرة أخرى وفي نفس الوقت لم يفصح لنا عن سبب امتعاضه الشديد .
في هذه الأعوام كان الشاعر " مؤيد الراوي" ينفرد بالجلوس في مقهى " المجيدية " كنا نذهب اليه ونجالسه ونسمعه اشعارنا وبعد الاستماع يشير علينا بملاحظاته برفع هذا السطر وتقديم هذه الكلمة ويدلنا على إيقاع الكلمات وعلى موسيقاها وكيف نتوصل الى تفجيرها و" مؤيد " في مقدمة شعراء كركوك الحداثويين , كان جمرة من الابداع وهو يضم الى موهبته الشعرية مواهب اخرى في الرسم والخط حتى ان احد تخطيطاته في الرسم احتل الغلاف الأخير من احد اعداد مجلة " شعر" البيروتية , ومن مكانه في المقهى يراقب ويتأمل صغار السنونو وهي تطل بأعناقها الصلعاء من أعشاشها في سقائف المقهى , ولن انسى هذا الإنسان عاشق السنونوات الحالمات والذي جسر أحلامه فسالت على برار واسعة وكتب مؤخرا عن كركوك :
مدينة من حجر يفيض كل عام نهرها
ثم يجف
محروسة بهذا الأدمان وبتقادم الزمن
ومرت الأعوام ففي بداية الثمانينات هدمت البناية القديمة لمقهى " المجيدية " وأقيم مكانها بناء جديد ولكن كلما امر من أمام المقهى اسمع صوت الصديق " مؤيد " ينساب من داخله وكأنه يدعوني وصحبي الى منادمة شعرية لم تبدأ بعد الا أننا سكرنا بصهبائها منذ أعوام عديدة احترقت في جنونات تقادم الأزمنة الخائبة .
مقهى آخر كان يستلقي الى جانب محطة القطار القديمة . خيمنا فيه وقتا واخترنا هذا المقهى أنا والرسام المغترب " محمد جلال " لبعده عن ضوضاء المدينة وتمتعه بهدوء شاعري ولقربه من نادي السكك حيث كنا نهاجر بين اقليمي النادي والمقهى وقد استطعنا ان نجذب اليه العديد من الصحب الا اننا مع ذلك لم ننجح في استقطاب الكثير من محبي الأدب لبعده عن وسط المدينة بينما المقاهي القريبة من صالات السينما لها ميزاتها وشعبيتها في جذب الرواد ومع ذلك شهد مقهى المحطة ميلاد عشرات الأحلام التي أسلناها على قوارع الطرقات وجاءت أمطار الشتاء لتغسلها وتجرفها الى برك النسيان.
شددت الرحال الى القطر الجزائري عام 1968 كنت موفدا هناك ضمن بعثة تدريسية وقد مكثت في تلك البلاد ما يقارب ستة اعوام وعندما رجعت الى كركوك صائفة عام 1974 بحثت اول ما بحثت عن اصدقائي ذهبت الى"عرفة " بحثا عن "جان دمو " وجدته قد رحل الى بغداد وسالت عن "صلاح فائق" فوجدت نفس الشئ معه وكان " سركون" و "مؤيد " تركا العراق وخرجا الى بلاد الله الواسعة وعندما عدت الى البحث عن دفء مقاهينا وجدت " مقهى جليل " يحتضر وصاحبه يعاني من مشاكل صحية واما المقاهي التي كانت تجمع الأصحاب فلم يبق فيها ذلك الاشعاع وتلك الحميمية ان الاماكن تكتسب حيويتها واشراقاتها من أناسها الذين يترددون عليها ويتنفسون بين ارجائها وكان من الصعوبة علي ان اعايش هذه الاماكن بعد ان فقدت فيها دف علاقات صحبتي في هذه الفترة كان جيل جديد من ادباء كركوك ينفخ دماء جديدة في جسد الادب والابداع في المدينة كان "حمزة حمامجي اوغلو " قد نضج أكثر وانصرف بكليته الى القراءة والكتابة وصديقه " إسماعيل إبراهيم " يخطو هو الأخر في طريق الكتابة يطرق أبواب الشعر والقصة وتعرفت "نصرت مردان " فوجدته ممتلئا بالحماس والحيوية والبحث عن اغوار الحياة في عيشنا هاتيك الايام والصديق " نصرت " ينحدر من عائلة " اشتهر كل افرادها بحب الكتابة وممارسة الابداع وكان هناك شابان فتيان يشتعلان حيوية واقتحاما و جرأة في ولوج عالم الأدب " عبد الله ابراهيم " و " عواد علي " التقيت بكل هؤلاء في مقاه متفرقة ومع ذلك لم يكن هناك مكان واحد نأوي اليه ليكون بمثابة ملتقى للصحب.
في عام 1979 وجدت نفسي أجالس رفقتي في مقهى "شاكر" المطل ظهره على نهر " الخاصة " والمواجه جانبيا لمقهى " المجيدية " رواده خليط من شتى الملل والنحل تجد فيهم الشغلية والكسبة الصغار وجموع المتقاعدين من مختلف الاجناس والاصناف وفي الايام الماطرة يكتظ المقهى بأهل الاستعطاء وعشاق السكر وبين سويعة وأخرى يطل مجنون عابر او مجذوب مبارك يلقي كراماته في احد اركان المقهى وكلما جاءني الصديق " فؤاد قادر" يدهش لرؤية هذا الخليط العجيب من الخلق وكأن مقهانا يعرض مسرحية عبثية تنتسب الى مسرح العبث واللامعقول ويخبرني بانه سيتخلى عن المجئ اليه ولكن مع ذلك يكرر زوراته اليه من جديد ويمسي جليسا وفيا له قبل ان يغيب عن المدينة في اكتظاظات الايام الا انه ترك ضوعاته في زواياه لتتفتق عن مرايا واشجار ومماش في سهوب الذاكرة وفيما بعد تردد عليه استاذنا الاديب " محمد صابر محمود " والشاعر "عباس عسكر" وظل الصديق "حسن جهاد " مخلصا للمقهى ووفيا لذكرياتنا عنه وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة ظهر " اسماعيل ابراهيم " واصبح هو الاخر يبحث عن الدفء والحميمية داخل جدرانه ويغازل شمس الشتاء التي تسقى واجهته باشعتها العسجدية واخيرا اطل الصديق " مؤيد محمد " وهو قارئ وعاشق للكتب من طراز نادر لينضم الى صحبتي الذين انتظرهم وانا انضج كهولتي قرب مواقد الأيام الشتوية لتغتسل في رذاذات الأحلام ونستعيد وجوه الأصدقاء الذين جالسناهم في مقاهي كركوك وتنادمنا على موائدها وسكرنا باستكانات شايها المعتق اللذيذ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى