ديانا محمود - “الحالة: ليس هناك ما يقال”.. الشكلية في خدمة المضمون الحالة

عندما دخل المعلم العجوز إلى الصف، وقف تلميذٌ كان قد غفى وحيداً بين الطاولة والمقاعد الفارغة وقال: “وقوف!”
ثم قال بعد لحظات وهو شبه نائم: “جلوس!”
وضع المعلم العجوز دفتر التفقد خلف النافذة الخشبية ووضع نظاراته السوداء المكبرة على عينيه وقال:
- “آبنوسي”
رد التلميذ الوحيد في الصف بصوت عال:
- “غائبّ”
- “علي براتيانيّ”
- “حاضر!”
- “جلال الدولئي!”
- “أستاذ من جلال الدولئي حتى آخر القائمة غياب”
سأل المعلم العجوز وهو ينظر إلى دفتر التفقد: “أين ذهبوا؟” كان صوته جافاً وممتداً. تثاءب علي براتياني، التلميذ الوحيد، وقال: “لا أحد يعرف!”
أغلق المعلم العجوز الدفتر ووقف إلى جانب اللوح الأسود وكتب في وسطه: “درس اليوم”
في الخارج، في باحة المدرسة، لم يكن هناك أيُّ تلميذ ليقف أمام العلم المرفوع على سارية من خشب الأثل ويردد “كلنا نعلم أن المعلم الأب الثاني والمدرسة بيتنا الثاني”
علي براتياني، تلميذ الصف الوحيد، تقدم من وسط المقاعد وجلس على أولها مصغياً لمعلمه الذي كان يحرك الطبشورة بين أصابع وهو ينظر إلى السماء من خلف زجاج النافذة المكسرة، ثم التفت إلى تلميذه علي براتياني وقال: لا اعتقد أن السماء ستمطر اليوم”.
اتجه المعلم العجوز نحو السبورة مرة ثانية وكتب تحت عبارة “درس اليوم”: “لا أعلم ما هي مشكلتي!.
وقف المعلم العجوز لبرهة وهو في حالة تأمل ثم سأل تلميذ الصف الوحيد ، علي براتياني، “في أيّ صف أنت؟”
دون علي براتياني في دفتره ما قاله المعلم: “في أيّ صف أنت؟”
قال المعلم العجوز: “أظن أننا في يوم الاثنين، ولا أظن أن المطر سيهطل اليوم”.
ثم وقف قرب النافذة ونظر إلى السماء من شقوق الزجاج وقال: “الاثنين يوم غير مناسب للمطر”
كانت السماء رمادية اللون، من بين شقوق زجاج النافذة يمكن رؤية أشجار الرمث العطشى تنحني أمام نسيم الصبح وهناك ما بعد الشجرة يقف صبيٌ صغير يده في جيب عباءته الطويلة، في فمه صفارة حراسة ينفخ فيها بنفس واحد، على مقربة من الصبي هناك سلة مليئة بالأوراق الممزقة التي كانت واجبات التلاميذ المنزلية، وفي الجهة الأخرى تقف جدران المدرسة، وخلفها طائرة ورقية تحلق في السماء الرمادية يصحبها صوت بكاء طفل من الأزقة البعيدة. نظر المعلم العجوز نحو السبورة السوداء وكتب عليها بالطبشورة البيضاء: “ليس هناك ما يقال”.
في ممر المدرسة، لا يمكن سماع صوت أقدام الناظر العبوس أو ضحكات المجاملة المدير- التي وصفها المعلم العجوز في مذكراته بضحكات المجاملة- لا أصوات تأتي من الصفوف لا أحد يكرر “ماء- بابا- ماء” ولا معلم يقول “يا حمار! أجلس مكانك”. نظر المعلم العجوز إلى الباب المغلق، تذكر أن الباب يغلق تلقائياً بعد دخول المعلم. اتجه نحو النافذة، وضع علي براتياني، تلميذ الصف الوحيد، قلمه على دفتر الواجبات المدرسية وبدأ يغني بصوت خافت أغنية يسمعها وحده “لالالالا يا نعناع”
ألقى المعلم العجوز مرة ثانية نظرة إلى الباحة من بين شقوق الزجاج، السماء كانت رمادية، والصبي لازال يضع يده في جيبه ويطلق صفارته نحو الصف، وأصوات بكاء الطفل من الأزقة البعيدة يتتبع الطائرة الورقية، وأيضاً شجرة الرمث مازالت تنحني أمام نسيم الصباح. عاد المعلم العجوز ووقف امام السبورة السوداء وأراد أن يكتب شيئاً لكنه سأل مرة ثانية: “في أيّ صف أنت؟” كتب علي براتياني مرة ثانية على دفتره “في أيّ صف أنت؟”.
لف الصمت المثير للجنون جو الصف، المعلم العجوز كان يعتقد أن هذا الصمت أطبق على كل المدرسة، فجأة صرخ بوحشية: “أين نحن الآن؟”
لم يكسر علي براتياني الصمت المطبق بل كتب على دفتره: “أين نحن الآن؟”
فكر المعلم العجوز أن السؤال كان غامضاً، فأوضحه بصراخ آخر: “أقصد هل نحن في المدرسة أم في مكان آخر؟”
كتب علي براتياني في توضيحات السؤال “أقصد هل نحن في المدرسة أم في مكان آخر؟”
غضب المعلم العجوز ومضى نحو دفتر التفقد وفتح الدفتر وبدأ بقراءة أسماء التلاميذ: “آبنوسي؟”
وضع علي براتياني قلمه على دفتره وقال: “غائب”
“علي براتياني”
قال علي براتياني: “حاضر”
“جلال الدولئي”
بهدوء قال علي براتياني: “من هنا إلى نهاية الأسماء جميعهم غياب يا أستاذ”
المعلم العجوز سأل مرة ثانية: “أين ذهبوا”
أجاب علي براتياني بهدوء” لا أحد يعلم يا أستاذ”
أغلق المعلم العجوز دفتر التفقد ووقف امام السبورة السوداء، مسحها بممحاة صنعها أحد الطلاب من قبعة أبيه، مسح السبورة. أخرج علي براتياني، تلميذ الصف الوحيد، ممحاته من جيبه ومحى أيضاً كل ما كتبه حتى الآن في دفتره. لا صوت يأتي من بقية الصفوف في المدرسة. فكر المعلم العجوز: استيقظ عند الصباح كعادته مع صوت منبه الساعة، لم يكن هناك إي خطأ حتى هذه اللحظة. ثم تناول الفطور بعد أن قام ببعض الحركات الرياضية الصباحية، ومضى في طريقه المعتاد. عيناه لا تخطأ حتى ولو هو أخطأ وعلي براتياني أيضاً لا يُخطئ. ولو فرضاً أن هذا المكان ليس بالمدرسة فماذا تفعل سارية العلم هنا؟ فجأة صرخ: “هنا مدرسة!”
دون علي براتياني على دفتره ذلك: “هنا مدرسة”
صرح المعلم العجوز: “لو هذا المكان ليس مدرسة فماذا تفعل سارية العلم هنا؟”
كتب علي براتياني على دفتره: “لو هذا المكان ليس مدرسة فماذا تفعل سارية العلم هنا؟”.
لا صوت في المكان، والصمت مستمر، صمتٌ مدهش ومثير للغضب. عاد المعلم العجوز مرة ثانية إلى النافذة نظر إلى الباحة من بين شقوق الزجاج، السماء كانت رمادية ولكن الطائرة الورقية علقت في شجرة الرمث العطشى في نهاية الباحة، علق الصبي صفارته في رقبته وجلس قرب السلة يخرج منها الأوراق الممزقة وينثرها في الهواء واحدة تلوى الأخرى، توقف صوت بكاء الطفل من الأزقة المجاورة، بغضب عاد المعلم العجوز إلى السبورة وكتب: “ليس هناك ما يقال! لا أعلم ما هي مشكلتي!.
لم يعد علي براتياني للكتابة، بل وضع رأسه على دفتره وغط في نومٍ عميق، المعلم العجوز الغاضب كان يمشي في الصف، بعد لحظات طويلة كما وصفها هو سابقاً، لحظات مؤلمة وقاتلة، مضى مرة ثانية نحو النافذة ونظر نظر إلى الباحة من بين شقوق الزجاج: السماء لازالت رمادية اللون، شجرة الرمث العطشى أطلقت سراح الطائرة الورقية، العلم كان يرفرف أعلى السارية، ولا أثر للصبي صاحب الصفارة، فيما تناثرت قصاصات أوراق واجبات التلاميذ المدرسية مكانه.
اتجه المعلم العجوز نحو السبورة السوداء، صوت شخير علي براتياني ، تلميذ الصف الوحيد، كسر صمت الصف بطريقة غريبة ومثيرة للأوهام، دبّ الرعب في قلب المعلم العجوز، فتح الباب ومضى سريعاً عبر الممر، وصل إلى الباحة، عندما أراد الخروج من المدرسة، رأى المستخدمة تقف بقرب الباب والهواء يحرك عبائتها، قالت له: “أيام الجمعة عطلة المدرسة يا سيدي”.
قال المعلم باستغراب: “أليس اليوم يوم الأثنين؟”
أجابت المستخدمة: لا اليوم جمعة”
قال المعلم العجوز: إذاً لماذا جاء علي براتياني؟”
نظرت المستخدمة باستغراب إلى وجه المعلم العجوز وقالت: “علي براتياني أعطاك عمره منذ أسبوعين”.
أصاب المعلم الرعب ومضى نحو الخلف نحو الزقاق وقال: “…”.
الحالة : ليس هناك ما يقال
نشر الكاتب الإيراني المعاصر محمد شريفي نعمت آباد (مواليد 1961 رفسنجان) قصة “الحالة” ضمن مجموعته القصصية “بستان الرمان” الصادر عام 1991 عن دار “غردون” للنشر والطباعة. لفتت هذه القصة ببساطتها نظر أغلب النقاد آنذاك، فالنهاية المفاجئة غير المتوقعة للقصة أضاءت على معنى بقية العناصر.
المعلم العجوز وفضاء القصة هم شكل آخر للموت، فلا آثر للحياة في أسلوب المعلم وتصرفاته اللامبالية لعدم حضور بقية التلاميذ وعدم وجود حراك في المدرسة، تكراره للسؤال عن عدم حضورهم والجواب لا أحد يعرف، نظراته نحو السماء الرمادية والطفل الباكي والآخر ذو الصفارة هي توصيف للحالة الشبه ميتة التي يعيشها الناس، الدليل الوحيد لتواجد المعلم في المدرسة (المكان الطبيعي له) هو العلم الذي يرفرف على السارية. يستعيد المعلم أحداث يوميه ليطمئن أن كل شيء طبيعي، ويقول: لا أعلم ما مشكلتي؟، يشك في المكان وفي الزمان لكنه لا يجد أي شيء ليقال، اكتشاف الموت الذي لم يلاحظه المعلم حتى نهاية القصة هو الأمر المرعب الذي جعله يعود نحو الخلف في الأزقة دون أن يتمكن من قول شيء.



تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الفارسي
المشاهدات
764
آخر تحديث
أعلى