محمد علي عزب - مفهوم التجديد.. وادعاء القطيعة النهائية مع التراث*

التجديد سمة ملازمة للاٍبداع فى كل زمان ومكان, وتأصيل الأشكال الشعرية الحداثية وتوطينها فى بيئة وثقافة الشاعر ليس فيه تعديّا على التراث, بل فيه اٍضافة معاصرة للشعر والأدب عند الأمة التى ينتمى اٍليها الشاعر, ويعتبر تراثها زادا ثقافيا واٍرثا جماليا يتفاعل معه دون أن يستنسخه, وهذا هو الاتجاه المعتدل فى التجديد, وهناك اتجاه أدبى معاصر ينظر للتجديد على أنه قطيعة تامة مع كل معطيات التراث وعدم معرفته ( وهو اتجاه انقلابى لا يرى اٍمكانا للتجديد اٍلاّ بالتخلى كليا عن التراث والانفتاح على الحضارة الغربية ومجاراتها, بل اٍنه يرى فى التخلى عن التراث بابا واحدا لولوج درب الحداثة )1, وكيف تكون هناك قطيعة تامة مع التراث وهو زاد ثقافى وحصيلة معرفية متواجدة فى طبقات الوعى المعرفى والجمالى المتراكمة فوق البعض البعض, ولا يوجد شئ ينبت من الفراغ وينسلخ عن هويته وتراثه, وادعاء أن التجديد قطيعة نهائية مع كل معطيات التراث ادعاء غير حقيقي, فكيف ستعرف أنك مجدد من الأساس اٍذ لم تكن تعرف الانحراف الذى أحدثته عن الشكل والرؤية التراثية ؟, وما هى الاٍضافة التى أضفتها وأنت تدعو أصلا للقطيعة النهائية مع التراث ؟! واٍن كان القصد بالقطيعة عدم محاكاة النموذج التراثى, فاٍن ذلك لا يُسمى "قطيعة" بل يسمى تجديدا, والشاعر المجدد هو الذى يتوسَّل بأحد الأشكال الشعرية المعاصرة "قصيدة تفعيلة, وقصيدة عامية, وقصيدة نثر" فى تجسيد تجربته الشعرية, ملتزما بالشروط الجمالية لهذا الشكل أو ذاك, وأن يوظف الأدوات الفنية المعاصرة بطريقة تخصه عن النمطية ومحاكاة الآخرين .
ومن الملاحظ أنه عند الحديث عن التجديد تجد أن بعض الشعراء والنقاد يضعون متوالية شعرية تحدد مراحل تطور الأشكال الشعرية, وتمر بثلاث مراحل تتمثَّل فى الانتقال من االقصيدة العمودية اٍلى قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر ؟!, وأنا من بين الرافضين لهذه المتوالية ولرفضى ما يبرره, فقصيدة التفعيلة شكل شعرى جديد ومعاصر خرج على عمود الشعر القائم على تساوى عدد التفعيلات فى كل أبيات القصيدة والتزام القافية الواحدة, واستبدلت ـ قصيدة التفعيلة ـ البيت الشعرى بالسطر الشعرى الذى لا يلتزم بعدد معين من التفعيلات, وبذلك تكون قصيدة التفعيلة تطويرا حداثيا للنظم العروضى وتحريرا له من الشكل العمودى, والانتقال به اٍلى أفق أرحب, أما قصيدة النثر فقد فارقت فكرة الاعتماد على النظم كمادة خام للشعر, وراهنت على خامة النثر لصياغة قصيدة جديدة, فالمنبع الذى جاءت منه قصيدة التفعيلة مغاير تماما للمنبع الذى جاءت منه قصيدة النثر, اٍذا كيف تكون قصيدة النثر تطويرا لقصيدة التفعيلة ؟!, ومن المعلوم أن قصيدة التفعيلة فرضت وجودها على الساحة الشعرية منذ بداية الخمسينات وكانت موجودة على استحياء فى الأربعينات, وقصيدة النثر عُرفت فى الشعر العربى منذ سنة 1960م كمصطلح شعرى*(2), وكان أدونيس المُنَظِّر العربى الأول لقصيدة النثر, التى نشأت فى الشعر الفرنسي ثم أصبحت شكلا شعريا عالميا, وعرَّف أدونيس "قصيدة النثر" فى مقال له بعنوان "قصيدة النثر" بمجلة "شعر" اللبنانية بأنها ـ قصيدة النثر ـ شكلا شعريا يعتمد على خامة النثر فى صياغة الشعر الجديد, وبناءا على ذلك فاٍن قصيدة النثر قد جاءت من منبع "البحث عن الشعرية فى النثر"، وهو مختلف تماما عن المنبع الذى جاءت منه قصيدة التفعيلة وهو "البحث عن الشعرية فى النظم الحداثى المتحرر من اشتراطات عمود الشعر", ونظرا لاختلاف المنبع والمسار الذى اختطه كل قصيدة منهما، فاٍن قصيدة النثر ليست تطورا لقصيدة التفعيلة بل هذه شكل شعرى وتلك شكل آخر, وقد تجد شاعرا بدأ تجربته الاٍبداعية بقصيدة التفعيلة ثم انتقل بعد ذلك اٍلى قصيدة النثر, وهذا الانتقال ليس شرطا يتبعه الشاعر الحداثى, فهناك شعراء بدأوا بقصيدة التفعيلة ولم ينتقلوا اٍلى قصيدة النثر, وفى المقابل هناك شعراء بدأوا تجاربهم الاٍبداعية بقصيدة النثر دون المرور على الشكل العمودى أو التفعيلى, والمثال الأشهر فى ذلك هو الشاعر محمد الماغوط, الذى يعد من روّاد قصيدة النثر العربية, اٍن مسألة الكتابة فى شكل شعرى معين أو الانتقال من الشكل التفعيلى اٍلى قصيدة النثر مسألة تتعلَّق بالخيار الجمالى للشاعر وضروراته الفنية, المتعلقة بتجربته الاٍبداعية الذاتية .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المعجم المفصل فى اللغة والأدب ـ د. اٍميل بديع ود. ميشيل عاصى ـ دار العلم للملايين ـ بيروت 1987م المجلد الأول ص 566
2 ـ انظر مقال "قصيدة النثر" أدونيس ـ مجلة شعر ـ بيروت العدد الرابع 1960م
* مقتطف من الفصل الثانى من كتابى النقدى "مقاربة مفهومية فى المصطلح الشعرى المعاصر" ـ قيد الكتابة والمراجعة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى