د. رمضان الصباغ - الشهيد مهدي عامل الذى أرعب الظلاميين بفكره ومواقفه

إذا كان الكاتب الحقيقي ، هو الناقد لعصره ومجتمعه ليرتقي هذا المجتمع سلّم التقدم ، ويتجاوز التخلف والركود والكتاب والمفكرون العظام هم الذين وضعوا هذا المفهوم نصب أعينهم ، وعملوا من أجله ، ودفعوا كل نفيس وغال من أجل ذلك

ولكننا في عالمنا العربي نجد هذا المفهوم مجرّما ، فالخطوط الحمراء كثيرة ، وسقف الحرية قد انخفض إلى حدّ بعيد في كثير من البلدان العربية ، فحرية التعبير ، والنقد ، والتفكير العلمي جميعها من العادات المكروهة ، بل وفي كثير من الأحيان تستوجب العقاب ، الذي يصل إلى قصف الأقلام ، والزجّ في السجون ، وتنتهي بالاغتيال

والذي يواجه حرية الفكر ليس فقط رجال السياسة ، أو الحكام ، بل لقد أعطي رجال الدين ، والمتطرفون الأصوليون أنفسهم الحق في التفتيش في ضمائر الكتاب والمفكرين ، وتأويل النصوص كما يحلو لهم ، والفهم السطحي والظاهري ، دون التعمق والبحث في بنية العمل الفني أو الفكري ، وتسابقوا في العدوان على حرية التفكير ، سواء بالتحريض لدي العامة على المفكرين ، أو تحريض السلطات ضدهم ، وفي أحيان كثيرة ينفذون ما يرغبون بأيديهم ، ورشّاشاتهم وخناجرهم ، وبأدواتهم التي ورثوها عن العصور الوسطي فكانت النتيجة هذا السيل من دماء المفكرين والكتّاب أصحاب الرأي الحر

وفي مثل هذه الأيام ، وبالتحديد في 18 مايو ( آيار ) 1987 استشهد في شارع الجزائر في بيروت المناضل والمفكر "مهدي عامل" الاسم الحركي
لـ "حسن حمدان" أستاذ الفلسفة بالجامعة اللبنانية

ولقد ولد مهدي عامل في بيروت عام 1936 ، وتلقي علومه في مدرسة المقاصد في بيروت ، ثم نال شهادة الليسانس والدكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون بباريس وكان عضواً بارزاً في اتحاد الكتاب اللبنانيين والمجلس الثقافي للبنان انتسب إلى الحزب الشيوعي عام 1960 وانتخب عضواً بالجنة المركزية عام 1987 عام استشهاده

لماذا اغتالت أيدي الجهل والتطرف والطائفية ( مهدي عامل ) ؟
لقد فعلت ذلك لأنها لا تملك القدرة على الحوار مع التفكير العلمي ، ولا تقوي على المواجهة الحقيقية مع فكر مهدي عامل ، وأنها بفهمها المتخلف للتراث والدين ( الذي تحتمي به لتمرير أفكارها المتخلفة ، والرجعية ) تري في حرية التعبير ، والتفكير العلمي نهايتها ، ولذا فإنها تتستر وراء فهم سطحي للنصوص ، وتقوم بعمليات التصفية الجسدية والاغتيالات أملا في الإبقاء على سيطرتها على عقول الجهلاء

لقد كان "مهدي عامل" مفكراً رأي في القلم سلاحاً للدفاع عن الحرية ومواجهة القوي الظلامية التي بدت كخفافيش الليل في أتون الحرب الأهلية اللبنانية فانتقد الطائفية ، وشرّح وحللّ بنيتها فقد رأي أن الطائفية ليست كيانا بل هي علاقة سياسية محددة بحركة معينة من الصراع الطبقي ، ومحكومة بشروط تاريخية خاصة وإذا كانت البورجوازية اللبنانية مصرّة على أن يكون الصراع الاجتماعي صراعاً طائفيا فإنه يؤكد على أن الطائفية هي أساس علاقة التبعية بالإمبريالية ولذا فإن النضال ضد الإمبريالية يجب أن يلتحم أيضاً بالنضال ضد الطائفية فالطوائف ليست وحدات اجتماعية بل هي علاقات سياسية تحددّها حركة معينة من الصراع الاجتماعي كما أن الطوائف ليست طوائف بذاتها بل بالدولة ، ورأي أيضاً أن النظام السياسي اللبناني نظام ديكتاتورية مقنّعة ، واستمراره مرتبط بكونه كذلك ، وإلا فقد شرعيته والديمقراطية الطائفية فاشيّة طائفية 0 ولذا فإن نقيض الفاشية في لبنان ، هو نقيض الطائفية وأن قوى التغيير هي قوى المقاومة ضد الإمبريالية العالمية ، والاحتلال الصهيوني ، أما قوي التأييد الطائفي فهي نفسها قوي التعاون مع العدو الصهيوني، وقد رأي أن طائفية هذه الدولة ليست ضرورة طائفية بل هي ضرورة طبقية

لقد كانت مقولات ( مهدي عامل ) في توصيف البنية الطائفية والدولة الطائفية بالغة الغني وذات أهمية استثنائية في فهم المسالة اللبنانية – على حد تعبير ( مسعود ضاهر ) وقد كان النقد العلمي والصارم للطائفية والنظام الطائفي في لبنان ، وكشف غطاء التيارات الدينية التي تكرس هذه الطائفية ، هو السبب في استشهاده على أيدي حرّاس الظلام ، وقوي التخلف في لبنان.

وقد كان يؤكد باستمرار على أن الفكر العلمي فكر كوني ، ولا يصح فيه القول بأنه شرقي أو غربي أو شمالي أو جنوبي ، إلا عند من ليس له من العلم سوي الجهل به ، بالتالي العداء له ليس مثل هذا الفكر الظلامي وريث التراث ، حتى لو ادّعي ذلك

فالفكر العلمي هو الركيزة الأساسية للتقدم ، والقول – عن جهل – بالأفكار المستوردة ، إنما يؤكد عنصرية وتخلف القائلين بذلك ، فالتاريخ يكذب ذلك والواقع أيضاً

وإذا كان فكر مهدي عامل علميا ، فهو أيضاً فكر نقدي ، وكان نقده – كما يري "كريم مروّه" ، رفيق دربه – ( يطاول الوقائع القائمة ، ولا يستثني حتى مشاريع التغيير ، بما في ذلك المشروع الاشتراكي ذاته الذي كان ينتمي إلى مرجعيته الفكرية - الماركسية)

لقد كان لا يكف عن طرح الأسئلة ، ولا يكف عن محاولة التوصّل إلى الأجوبة التي تنطوي أيضاً على أسئلة وإشكاليات جديدة 0 وكان يرى أن الركون إلى البداهة ، هو النقيض الأساسي لعملية إنتاج النظرية – ويضيف (محمد دكروب ) في كلمته في الندوة الفكرية التي نظمها مركز البحوث العربية عن مهدي عامل فيما بين ( 27 – 29 ) مايو 1988 بمقرة بالقاهرة: ( في مسيرتنا الفكرية والشخصية هذه ، مع مهدي ، وعبر سجالنا المتواصل والخصب هذا ، كنا نكتشف أن هذا المفكر الكبير والطفل الحبيب المحرض والمستفز والودود ، البسيط ، حتى الشفافية ، والمعقد حتى درجة الغليان الداخلي والمكبوت، وكنا نكتشف أن تحديداته الصارمة نفسها كانت تنقلنا ، بهدوء ، ولكن باستمرار ، إلى التخلص التدريجي من الاستخدام العشوائي وغير الدقيق للمصطلحات والمفاهيم ، وإلى التخفيف ما هو جاهز من الأفكار والصياغات رجل يتقن تحريك الفكر ، وتفتيح العيون) 0

وفي إطار نقده لمقولات "إدوارد سعيد" في الاستشراق ، نجده يؤكد على أن الفكر الثوري لا يستطيع أن يقبل النظام البنيوي المغلق لنفيه للتناقض وعدم قبوله للفكر الطبقي ووضعه المفاهيم في نظام بنائي واحد كما أنتقد القول بثنائية الشرق والغرب أو الأنا والآخر لأن هذه الثنائيات – في رأيه – تمنع الفهم الحقيقي للواقع

وقد طرح أيضا في كتاباته مفهوم نمط الإنتاج الكولنيالي والذي حظي بمناقشات عدة من الباحثين وأثار جدلا عميقا ، وحواراً خصباً بين فصائل اليسار ، وناقش الأبحاث التي قدمت في ندوة الكويت ( 1974 ) حول أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي وناقش أفكار زكي نجيب محمود ، ونقولا زيادة ، وأنور عبد الملك كما ناقش آراء فؤاد زكريا حول سؤال النهضة التي لم تحدث في العالم العربي لتخلّف العقل العربي وانتقد الآراء التي تكرّس للماضي 0 ورأي أنه حتى إذا بقيت في الحاضر بعض عناصر الماضي فيتم ذلك في إطار مختلف فإسلام ابن رشد ليس هو إسلام حسن البنا أو سيد قطب 0 كما انتقد "أدونيس" الذي كان يري الغزالي نموذجاً للفكر العربي

وإذا كانت علاقات الإنتاج القديمة لا تزال قائمة ، وأن الفكر التقليدي مازال هو الأكثر حضورا الآن ، فإن بنية النظام الحالي بنية قمعية ، وأن الفكر العربي السائد فكر اتباعي ، ويرفض الإبداع

وقد كانت حياة مهدي عامل حافلة بالإنتاج الفكري والحوار ، وكانت أفكاره دائما تطرح العديد من الأسئلة ، وتجيب عن تساؤلات يطرحها الواقع ، سواء في لبنان أو العالم العربي ، فمن نظرية الثورة ، إلى التناقض ونمط الإنتاج الكولونيالي ، إلى الخوض في مجال التربية والتعليم والمناهج الدراسية ، ونقد الطائفية ، والعلاقة بين النظرية والواقع ، ومواجهة الأفكار السلفية وتسليط الضوء ونقد آراء إدوارد سعيد في "الاستشراق" وانتهاء بكتابة الشعر: ( تقاسيم على الزمان ) ، و ( فضاء النون)

لقد كان مهدي عامل غير مبال بالتهديدات التي جاءته محددة بأنه سوف يكون الهدف الثاني بعد المفكر الكبير" حسين مروّة " (1908 ، 1987) الذي اغتيل في فراشه في فبراير 1987 لم يعبأ للتحذيرات ، وظل ظل يمارس حياته العادية كأن شيئا لم يحدث ، فجاءته الرصاصات من سيارة ، وهو في طريقه إلى معهد العلوم الاجتماعية للقاء طلابه سائرا على قدميه وكانت أصابع الاتهام تشير إلى التطرف الإسلامي ( أمل – وحزب الله ) ولم يكن مهدي عامل آخر الشهداء فقد تلاه آخرون من المفكرين العلمانيين والعقلانيين الذين ضاقت بهم خفافيش الظلام



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى