حاميد اليوسفي - لاحس الأحذية.. قصة قصيرة

أي تشابه في الأشخاص أو الأحداث هو مجرد صدفة .


اللوحة الأولى :
جلس وحيدا يتأمل وجهه في المرآة . كل ما يطمح إليه هو أن يجلس على ذلك الكرسي ، ينتقم لنفسه ، ويُنكّد العيش على زملائه ، ويتصرف بكل حرية في الميزانية ، وتُقدّم له الهدايا بذات اليمين ، وبذات الشمال ، مثل سلطان من العهد القديم .
عاد به الزمن إلى الوراء . رأى نفسه يتودد ، ويتقرب من زميله في الحي والقسم . كل ما ينقصه موجود في زميله : الذكاء والإقدام والشجاعة و(ترجليت)* . وما ينقص صديقه هو أن يفكر مثل الشيطان ، ويلسع كالأفعى ، ويلحس الأحذية .
كبر الطفل ، وحصل على شهادة الباكالوريا . اتخذ من الاحتكاك بمناضلي نقابة الطلبة وسيلة للتباهي بالعلاقات ، وقناعا للظهور بمظهر الطالب الثائر على الوضع . الطبع الانتهازي مثل السرطان ، إذا دخل جسما لن يغادره حتى يخربه .
صفعته العين التي لا تنام ، فاهتز كيانه مثل ورقة شجر أسقطها الخريف . استغلت جبنه وتملقه ، فصنعت منه طابورا خامسا . طلبت منه أن يتجسس على أصدقائه ، ويقدم التقارير عن اجتماعاتهم ، ويسجل كل حركة ، حتى ولو كانت صوت الغازات التي تخرج من المؤخرات .
ضحك السارد ، تذكر ممثلا كبيرا ، خرج من مرحاض في مقهى بمدينة السطات ، وقد كان مخمورا . اعترضت طريقه امرأة تقف بجانب إعلان كتب عليه درهم واحد . قدم لها المبلغ وتجاوزها ، ثم عاد وقدم إليها مرة ثانية نصف المبلغ ، وقال لها بأنه عندما تبول أصدرت مؤخرته قليلا من الغازات على شكل صوت لم تسمعه ، ووجب عليه أن يؤدي ثمنه .

اللوحة الثانية :
حصل على شهادة الإجازة . حلم بأن يصبح أستاذا في الجامعة رغم أنف القانون وأزمة التوظيف . ما لا يحصل بالقانون والأخلاق ، يحصل بالغش والتملق واللحس . وقد حصل . وكان أصعب امتحان اجتازه بنجاح ، وكاد يودي بلسانه ، هو لحسه لحذاء مسؤول خرج للتو من حظيرة للخنازير .
الأطماع مع الغش والتملق واللحس لا تتوقف مثل سيارة بلا فرامل . تقبيل الرؤوس والأيادي والأرجل والأحذية لم يعد يكفي ، ولا حتى المؤخرات . لا بد من تقديم خدمات جديدة لجيل جديد . حجز شقة لعطلة نهاية الأسبوع . الشقة وحدها غير كافية . لابد من حجز مومس أيضا جميلة وجذابة . وليحمر سواد الليل ، فالشقة والمومس والضيف يحتاجون إلى خمر وطعام . صديقه في الحزب ، وولي نعمته تفوق عليه . أصبح يسكن في الرباط ، وأكثر قربا من مراكز القرار . يستقي الأخبار الطازجة ، ويلتقي الشخصيات النافذة ، ويقضي المصالح . مع اللحس لا شيء أهم من المصالح . بالأمس أرسل إليه شخصية مهمة ، وطلب منه أن يشرف بنفسه على استقبالها ، وانتقاء مومس تليق بالمقام واشترط بأن تكون أنيقة ، لا بدينة ولا نحيفة ، لا طويلة ولا قصيرة ، تجيد التلوي في الفراش ، ولا يغمض لها جفن . وجد نفسه يتحول من متملق إلى تاجر جواري . لحس الأحذية ، وتجارة الرقيق الأبيض وجهان لعملة واحدة ، ما دامت الغاية تبرر الوسيلة . عينه على المقعد ، والباقي مجرد تفاصيل . قال لنفسه :
ـ أطلب يا صديقي الآن كل ما تريد ، أنا رهن إشارتك . سألحس وأُطبّل وأُزمّر وأرقُص ، ولو أردت أن أنزع السروال سأفعل . لو رغبت في النوم مع زوجتي ، فقد كرهتها ، وطلعت في رأسي ، وسأحتال عليها ، وأقدم جسدها البض عربون محبة ومصلحة . بنت الكلب رغم كل ما فعلته من أجلها ترفع أنفها للسماء .
أنبه صوت لجده قادم من زمن بعيد : إلا زوجتك يا نذل !
ضحك بتهكم وقال :
ـ ذهب ذلك الزمان الذي سجنتم فيه النساء بين أربعة جدران إلى غير رجعة . لو رأيت اليوم بعض الأزواج يصورون مؤخرات زوجاتهم ، ويعرضونها في مواقع التواصل الاجتماعي لعدت إلى قبرك مهرولا ، وقد وضعت لاصقة على فمك وعينيك وأغلقت اذنيك يا جدي !
كلما اقترب من الكرسي ، وسال لعابه ، شتمته زوجته مثل جده ، بالشرف والكرامة والأخلاق والنبل والقناعة . لا تعرف المسكينة بأن هذه قيم تآكلت وصدئت . لم تعد تضمن حتى شربة ماء . إنها مثل الثياب البالية لم يعد يلبسها إلا متشرد أو أحمق أو مجذوب ، أو يدخل بها متسول مقهى ، وينزعها عندما يخرج ، ويضعها في قُفّة كما يفعل شحاذي العاصمة .

اللوحة الثالثة :
عندما يجلس على ذلك الكرسي سيشده بالسلاسل والأقفال ، وينام فوقه وحده نوم أهل الكهف . سيجني تعب السنين الماضية . سيفرض على من سيتملق له شروطا جديدة أكثر قسوة من الشروط التي فرضها عليه أسياده . أخيرا سيدخل نادي كبار المتملقين .
حياة التملق في نادي (الكبار) تختلف عنها في نادي الصغار . نادي الكبار يتطلب الخبرة والمراس والصبر ، وإبداع أساليب جديدة لتتربع على عرش لحس الأحذية . هذا هو الحلم البعيد ، يلوح مثل نجم في السماء .
ليصل إلى نجمه ، فهو في حاجة إلى صواريخ أمريكا ، أو روسيا . لكنه سيتعلق به مثل الطفل ، إذا لم ير اللعبة فإنه يمتلك نصفها ، أما إذا وقعت عليها عينه فلابد أن تُقدّم له أمريكا أو روسيا الصواريخ التي تُمكّنه من الوصول إلى نجمه البعيد ، وإلا عليك أيها العالم الخراب .


المعجم :
ـ ترجليت : القدرة على اتخاذ القرار الصائب في الظروف الصعبة .

مراكش 09 يوليوز 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى