د. عبدالجبار العلمي - مذكرات أندلسية.. فيما مضى كنت بالاعياد مسرورا

الجزيرة الخضراء
أول مدينة تطؤها قدمك في التراب الإسْباني بعد عبورك بوغاز جبل طارق ، تنقلك إليها إحدى بواخر شركات الملاحة التجارية الإسبانية التي تمخر عبابه جيئة وذهابا طيلة اليوم بدون فتور او كلال.
أول قدم عربية لمست تراب هذه المدينة هي قدم الفاتح موسى بن نصير . دخل هذه البقاع حاملا معه فسائل الحضارة االعربية ليغرسها في كل ركن منها ، فانبثقت الحدائقُ والمدائنُ ناطقة بأروع ما انبثق من انامل الإنسان العربي من إبداع.

طريفة
باب المجهول. أول مكان مسته قدم الإنسان العربي المسلم، الطامح إلى اكتناه الأسرار العذرية في الجزائر البعيدة في هذه المدينة الوديعة: المجد لك والمجد لطارق الذي علم العالم كيف ينبغي أن تتخذ القرارات الحاسمة في اللحظات التاريخية الدقيقة.
وأنت تعبر البوغاز بحذاء جبل طارق على متن الباخرة، ستذكر حتما خطبة طارق الشهيرة : "أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، ".
لقد أعطى هذا القائد الفذ للعالم أروع أمثلة الإقدام والشجاعة في اقتحام المجهول، والتصميم على التضحية من اجل الغايات النبيلة ، والإيمان العميق بالرسالة الحضارية حين أحرق سفنه، وتوغل داخل ارض مجهولة ينشر ظلال حضارة أمته الوارفة.
أتصور ان كل الزهور، وكل أشجار النخيل والنارنج والصنوبر والأكاليبتوس والزيتون التي تتزين بها الحقول والحدائق في اندلس اليوم، إنما زرعت فسائلها أنامل عربية، بل وكل نبتة او غرس في الأصص العطرة التي تزين شرفات البيوت الأندلسية هي من صنيع الأنامل المبدعة التي كانت كلما مست بقعة من رخام ، او مساحة في جدار إلا وأصبح هذا كله يموج بالجمال وسحر الإبداع .
طريفة اليوم، مدينة صغيرة، وديعة، يحضنها البحر بحنان، تمتلئ شرفات بيوتها بآلاف الأصص المزهرة، وتتسلق جدرانها أشجار الياسمين، ويعبق في شوارعها عبير فاغم، لكن أجمل نسمة تسللت إلى كل مسامي وتغلغلت في كل خلية من جسدي بها، هي نفحة عطرة من رداء طريف وزياد ما زالت تتجول في شوارع هذه المدينة.

إشبيلية
في مدينة إشبيلية يستوقفك نهر الوادي الكبير ،يخترق جسد المدينة كسيف صقيل تركه المعتمد ابن عباد بدون غمد ، وهو في غمرة تأهبه للرحيل إلى أغمات صحبة يوسف بن تاشفين ، ما زالت مويجات الوادي الكبير تردد في كل الأماسي الوردية أطيب ذكريات ذلك الأمير الشاعر، وتستعيد لقاءه الأول بجاريته الأثيرة "اعتماد".
وقف الأميرالشاعر صحبة صديقه الشاعر ابن عمار يتأمل جمال النهر، وخطر له أن يصفه ، فقال:
صنع الريح من الماء زَرَدْ
بيد أنه لم يتمكن من إتمام البيت، فاستنجد برفيقه الشاعر فعجز فسمع صوتا أنثويا خلفه:
يا لهُ درعاً منيعاً لو جَمَدْ
ما زالت مويجات الوادي الكبير تروي حكايات أفراح هذا الشاعر وأحزانه، وأروع ما ترويه لكل من يصخي السمع لأحاديثها المنسابة ، قصة موقفه حين اضطرته الظروف أن يختار بين التشبث بعروبته ، وبين الارتماء في حضن ملك الإسبان، فاختار أن يكون راعي جمل على أن يخون قومه: "لأن أكون راعي جمل عند يوسف بن تاشفين خير من أن أكون قائدا كبيرا عند الإدفونش".
على صفحة نهر الوادي الكبير، تتراقص أمامك شتى الأحداث من عهد ملوك الطوائف الغابرة. تتذكر عهدا للطوائف في سائر وطنك العربي الممزق، تلمح المعتمد بن عباد وهو يعجن المسك والكافور والعنبر ليحقق لجاريته الأثيرة أمنيتها المترفة ، ولكنك ترى أيضا على صفحته مثالا لسرعة التحول ، فتكاد تسمع صوتا واهنا يصدر من خلال الموج:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا = فجاءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعــــة = يغزلن للناس ما يملكن قطميـــرا
إشبيليا صبية حسناء، رائعة الجمال تتزين بأجمل الحلي العربية ، بيد أن أجمل حلية يحق لها ان تزهو بها على أجمل مدائن الدنيا هي صومعة "لاخيرالدا".
في إشبيليا ، وفي كل مدن الأندلس ، غرناطة، قرطبة..ستجد نفسك مشدودا إلى تاريخك العربي وأمجاد الماضي الغابر . سترى سواء في غرناطة وانت داخل أبهاء قصر الحمراء وردهاته، وأمام جدرانه الناطقة ،ومياه أحواضه الدافقة ، أو في قرطبة وأنت داخل مسجدها الأعظم وأمام منبره وتحت أقواسه المخططة ، سترى هنالك أمة التقدم التكنولوجي ، منبهرة مشدوهة امام إبداع الإنسان العربي الخالد.
في كل المدن الأندلسية التي ما زالت آثار الإنسان العربي المسلم منقوشة في كل زاوية فيها،كنت موزع النفس بين التاريخ العربي المشرق ،والتاريخ العربي القاتم ،مثقلا بهموم الوطن وهموم الإنسان العربي ، ألتحم بالشعر وبالتاريخ المكتوبين على صفحة نهر الوادي الكبير والمنقوشين في كل جدران وأزقة الأندلس، وأبحث عن لحظة ظليلة مغمورة بالصفاء والجمال والحرية والفرح البريء.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى