أبوزيد بيومي - عويجة العصري... و"قُلل" التعليم المصري

من منا لا يذكر مشهد عويجة أفندي (حسن مصطفى)، في فيلم أرض النفاق الذي أنتج عام 1969، والمأخوذ عن رواية ليوسف السباعي تحمل الاسم نفسه، صدرت عام 1949. حيث يدخل عويجة أفندي المكتب على مسعود بيه (فؤاد المهندس)، وقد حمل عويجة أفندي ملفا مكدسا بالأوراق الإدارية التي كلفت الشركة وقتها 400 جنيها لتحصيل مبلغ 44 مليما ثمن "شنكل" نسي المقاول تركيبه من 18 سنة. وهو ما رآه مسعود "بيه" إنفاقا باهظ التكلفة لتحصيل فائدة زهيدة.
وفي التعليم المصري نجد عويجة أفندي يطل برأسه في كل مؤسسات الوزارة بدءا من مكتب الوزير، وانتهاء بمديري المدارس والإدارات، حيث نجد مكاتبات بالملايين، و إشارات وقرارات وإحصائيات عن المعلمين والطلبة والموظفين، فضلا عن أوراق الشكاوى التي يحولها المسئولون إلى الشئون القانونية والنيابية الإدارية، والطعون على القرارات والتنقلات العشوائية .. أضف إليها أوراق لجان المتابعة، ولجان الوزارة والتقارير ... و"ناس رايحة، وناس جاية" ... آلاف الأوراق يتم كتابتها يوميا، عليها آلاف الأختام والإمضاءات ... مدربين ومدربات، ومراكز تدريب وأكاديميات، يتم التدريب فيها على برامج وهمية منفصلة عن الواقع ... تدريبات يتم فرضها على المعلمين، لا يستفيد منها سوى المدربين الذين يكلفون الوزارة ملايين الجنيهات، وكتبا ومطبوعات، واختبارات وامتحانات وتسريبات .... وبعد كل هذا تأتي مصر في المركز الأخير أو قبل الأخير في جودة التعليم، حسب التصنيف العالمي.
في المقابل صارت عقول الطلاب مجرد مجموعة من "القُلل"، التي تُدلق فيها المعلومات بطريقة آلية، حيث يقوم الطلاب بدورهم "بدَلْق" ما لديهم في أوراق الإجابة. فيصبح دور المعلم هو تدريب الطالب على كيفية الإمساك بالقلة، والكمية المطلوب دلقها في المواضع المخصصة، بلا زيادة أو نقصان. حيث يخرج الطالب من الامتحان خالي الوفاض، في انتظار من يملأ قلته من جديد في عام جديد.
وإذا لم تمتلئ قلة الطالب في المدرسة، أو اندلقت أثناء عودته إلى البيت، فإنه يلجأ إلى المعلم السَقَّا، والذي يقوم بدوره بحمل قربته ليدور بها على المنازل، ليفيض على قلل الطلاب من مائه المخزون، لزوم تعويض ما اندلق.
وبالطبع تختلف قُلل الطلاب في قدرتها على استيعاب ما يُصب فيها. فأصحاب القلل المملوءة عن آخرها هم المرشحون للطب والهندسة والصيدلة والعلوم.. أما القلل التي اندلق بعضها قبل الوصول إلى ورقة الإجابة فهم أصحاب التربية والتجارة الآداب والحقوق، أما أصحاب القلل المخرومة فهم أصحاب المعاهد أو الكليات الخاصة، وقس على ذلك في المراحل الدنيا من التعليم الإبتدائي والإعدادي. ثم تأتي الواسطة فتمتلئ بها قلل، وتفرغ بها أخرى، و تتكسرعلى صخرتها قلل .. وتسد بها خروم قلل أخرى. وهكذا يصبح المجتمع معتمدا على مجموعة من القلل، التي لا تتعدى وظيفتها سوى أنها تحمل فقط، دون أن تدري كُنْه ما تحمل، ولا تعي دورها في حراك المجتمع نحو الأفضل.
وعندما رأى المعلم أنه صار مجرد "سقا" بين طلاب "قلل"، قرر أن يطور من نفسه، وأن يقوم بحمل "قربته" ليدور بها على بيوت الطلاب، أو ما يسميه البعض مجازا بـ "الدروس الخصوصية". لكن المعلم تحوَّل دون أن يدري من معلم "سقا" إلى معلم "توكتوك"، فكما يقابلك التوكتوك في كل مكان وهو يحمل الزبون الذي يدفع مقابل التوصيل، يقابلك المعلمون وهم يجوبون الشوارع والحواري، من بيت إلى بيت لتوصيل المعلومة، (خدمة توصيل المعلومة إلى المنازل مقابل مصاريف الشحن والتفريغ)، وكما يركب الزبون التوكتوك، فقد ركب الطالب، بل وركب المجتمع كله على ظهر المعلم، لأنه أصبح سلعة تخضع للعرض والطلب، والحجز والاستعلام.
ومنذ أن ترك المعلم ميدانه الذي يحارب فيه وهو المدرسة، ترك معه الكرامة والشرف، ترك معه حتى اللقب الذي يحمله فعندما يسأل طالب زميله : "بتاخد المادة الفلانية من مين؟" يرد عيه زميله: "من فلان الفلاني (هكذا بدون ألقاب)، "طب ليه ما بتخدش من فلان؟" ... "فلان مين يا عم دا حمار ... دا كلب فلوس ...".
هذا نوع من الحوارات التي تدور خلف ظهر المعلم دون أن يدري، أو ربما يدري ... لأن الطلاب كثيرا ما يفصحون عن ذلك أمام معلميهم أثناء الدرس، والمعلم يستمع إلى إهانة زميله دون أن يدافع أو يرُدّ. لأنه لا يريد أن يخسر الراكب الذي على ظهره.
وليس أمام هؤلاء المعلمين سوى أن يبرروا لأنفسهم من خلال دعاوى واهية، منها لقمة العيش وضعف الراتب، وظروف البلد، وحال التعليم، "وأنا ما ضربتش حد على إيده"، ... المشكلة أن من يدّعون ذلك صارت لديهم أرصدة في البنوك، وعقارات، و أراض تكفيهم، وتكفي خمسة أو ستة أجيال من ذرياتهم(وهذا من باب الحقد طبعا). ولكن لديهم في المقابل رصيد كاف من الكرامة، يكفي لإهداره لسنوات طويلة، الأزمة الحقيقية أنهم لا يهدرون كرامتهم وحدهم، ولكنهم أهدروا كرامة غيرهم، لأن المعلمين جمعياً صاروا في ميزان الطالب كلهم سواء.
إن هذه التنازلات التي يقدمها المعلم جعلت منه "ملطشة" للامتحانات، فالطالب "القلة"، غالبا ما يدخل الامتحان خالي الوفاض، يدخل الامتحان وهو ينظر إلى المعلم المراقب بالنظرة ذاتها التي ينظر بها إلى معلم الدروس الخصوصية، ولذلك فهو يعقد العزم على الغش بأية طريقة، في ظل عدم وجود قوانين صارمة تحمي المعلمين، الذين يتعرضون في كل عام للاعتداء اللفظي والبدني من الطلاب، أو من أولياء الأمور، مما يجعلهم يخضعون أمام تلك الضغوط، فينتصر الغش، ويعلو صوت الطالب الغشاش فوق صوت المعركة.
إن القائمين على العملية التعليمية من "القللية" هم السبب الأول في جعل التعليم مصنعا لإنتاج القلل، من خلال برامج تدريبية لا قيمة لها على أرض الواقع، وهياكل تنظيمية، ووظائف إشرافية، لا هَمّ لها إلا الشهادات الوهمية والألقاب والمكافآت التي تملأ جيوب القائمين عليها.
للأسف عويجة أفندي انشغل بالأوراق والأختام، أكثر من انشغاله بالمعلم والمتعلم .. فدخل التعليم المصري في دوامة التطوير الوهمي، الذي لا يستفيد منه سوى أصحاب المصالح ممن يجدون في التعليم "سبوبة" مربحة. عويجة أفندي ما يزال يعمل ويكتب ويخاطب ويراسل؛ لإثبات كفاءة وهمية، ليترقَّى ويصل إلى ما يضيف إلى شخصه هو فقط .. حتى لو كان هذا على حساب الجميع ... أهم شيء عند عويجة أفندي أن يقول لمن هم فوقه ..(تمام يا فندم).

ــــــــــــــــــــــــــــــ
# أبوزيد بيومي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى