لا يتذكر من قال له أنَّ البحر َأبو الفقراءِ، والعجوزُ قالت يومًا:
-من جاورَ البحر لا يفقرْ، من أصدافه صنعتُ التحفَ وإطارات الصورِ، أبيعها للسياح، وبنيت هذه الغرف المتناثرة ....
لقِّط رزقك منهُ، ودعكَ من بحوركَ الشِّعرية التي لا تُسمن ولا تغنِي من جوعٍ.
يقفُ في مكانه المعتادِ، وحيدًا مع أمواجٍ ذهبيةٍ تضربُ قدميهِ ، تمتدُ ساقاه المشدودتانِ بعضلاتِها المفتولة كساقيِّ رياضيٍ ، تتشبثتان بصخرةٍ سوداءٍ ،مكللهٍ بالطحالب ، تلمع تحت الشمس بحُفرها ونتوءاتِها، يرتدي سروالً رماديًا قصير ًا ينتهي بسترةٍ قطنيةٍ خضراءَ ، وعلى رأسِه تسلَّطُ الشمسُ وهجها بلا رحمةٍ ، قبعتهُ البيضاء َتحجبُ القليل َمن ضيائِها ،وقصبةُ صيدٍ من النوعِ الرخيصِ يمتدُ منها خيطٌ طويلٌ يحرره ، ينتهي بشصٍ يترصد ُالسمكَ ، تعلّم كيف يصنعُ الطُّعم بيده ِمن الطحينِ والماء ِوالسكَّر ليغري الأسماكَ ، ولشدةِ ما كان يخيبُ أملُه ،ويضحكُ ساخراً حينَ تهتزُ الفوَّاشة كاذبةً، ليكتشف أنَّ من نقرت الطعم كانت سمكةً صغيرةً عابرةً تأكلهُ وتمضي ساخرةً منهُ ، ولطالما أعادَ مثلها إلى البحر ِ فيما مضى ،واهبًا إيّاها فرصةً جديدةً كي تكبرَ . كان لارتعاشه السنارة في يده متعةٌ لا تضاهيها متعةٌ، ومع غرقِ الفواشةِ يضغط بأسنانهِ على شفتهِ السفلى مبتسمًا للبحرِ، مركزًا نظراتَه عليها، فتغدو وكأنَّ العالم كلَّه متوقف ٌعليها، ينتر قصبتَه ويسحب خيطهُ ليقبلَ إلى مستوى صدرهِ، يخلِّص صيدهُ من السنارةِ تنتفضُ السمكةُ بيدهِ فيودعها سلَّته، يرقبها إلى أن تهمد،َ ، و يعود ُبطعم ٍجديد ٍ ،و صبر ٍجديد ، لتتخامدَ لهفته أمامَ شروده الطويلِ ، ليفيقَ من جديدٍ مع ارتعاشةٍ أخرى ، حيثُ النوارسُ من فوقه تبشِّره بصيدٍ وفيرٍ .
من نافذتها المطلةِ على المدى الأزرق تراقبه كلّ يومٍ، كان يديرُ ظهرهُ لعالِمها، يندغم ُبالمشهدِ فيبدو الفراغ الذي يتركهُ عصيَّا على الإمتلاءِ.
مولعةٌ هي بالطبيعةِ وبالسفرِ وبالصورِ، أوطانُها حيثُ الجمالُ الممكنُ إختزانُه بذاكرتها، أو بذاكرةِ آلةِ التصوير ِالاحترافيةِ، ثمَّ على شاشةِ حاسوبها. مولعةٌ هي بحذفِ الإنسانِ من صورٍ التقطَتها بعشوائيةٍ، لكنَّ هذا الصامتَ الصاخبَ بشرودهِ يصعبُ حذفهُ.
كانا وحيدين، تفصلهما الرمالِ الصفراء المتدرجةِ إلى سواد البللِ بأمواج تضربها حينا وتداعبها حينًا آخرَ. شعر َ بنظراتها تخترقُ رأسه، حاولَ أن يلتفتَ إلى الخلفِ، لكنَّ سمكة ترتجفُ في يده ِتمنعه.
اكتشافهُ لوجودها جاء َمتأخرًا، فحدَّ من حريتِها بتأمُّله، ومن جودة الصور العفوية التي أرادت التقاطَها له. في طريق العودة عليه الاقترابُ من نافذتِها، حيث ركنَ درَّاجته، لمحَ بيدها آلة التصوير. نادرًا ما رأى مثلها بيدِ سيدة ٍ، كان لعينيِّ المرأةِ وميضٌ وحشيٌ، شعرَ أنَّها تطلقهُ عن عمدٍ، ليطغى على جاذبية ِالبحر ِالواسعِ خلفَهُ، يتقدَّم منها بتثاقلٍ، قدماهُ تغوصان في الرملِ، ثم يتحرر منها فيخرج من هالتها، التي طغت على الشاطئ كله.
فوق سطح داره المطلِّ على البحر تمددَّ على أريكته مالئًا عينيه من النجوم، تمنَّى أن يكتب شعرًا بشعْرِها الأسود، غبطَ الرِّيح على تخللِها له ومداعبةِ رموشِها.
هو يعرفُ الغرباء َفي المدينةِ من عيونهم، حركة البؤبؤ في المقلة تفضحهم، .. كانت لعينيها رأرأةٌ ثم هدوءٌ، شغلَتهُ عنها، تلك الوحدةُ الغريبةُ في بيتٍ شاطئيٍ.
صارَ البحر غموضًا وفضولًا، والسمكُ محصولًا مؤجلًا، وأخذَ يدعو ربَّه، ألَّا يمرَّ حيتان الديناميت من هناك كي لا يقعده ُعن الصيدِ لعدَّةِ أيام ٍ، فيحرمُه من متعةِ نظراتها.
في الصباح ِكانت على موعدٍ غير معلن ٍمعهُ.
وكان البحر يغمر حواسها بهسيسه، راحت تتسلى بعدستها، تلتقطُ الأمواج، تختزنُ ما تستطيعه من الرمال المبللةِ الزاهية بشمسها، يقترب ُ بدراجته الهوائية التي تلامسُ خصرهَ ماشيًا، ويدَه ملتصقةٌ بمقودها، عجلاتُها تحفر في الرمال خطوطًا ضيقة ً . يسيرُ بجانبها، قريبًا منها، توجهُ الكاميرةَ لوجههِ البرونزي، يحييها برفع سلَّته القصبيةِ في مستوى وجهه ِ، وبابتسامةٍ، تشكلُ مع البحر لوحة ًخلابة، تجعلها ترقصُ فرحًا في مشيتها وهي تدنو منهُ. تتمنَّى أن يطولَ وقوفه، تتأمل قامتهُ الممتدة بثقةٍ في وجهِ الرمال، بطاقيته المتَّسخة، بمنكبيه العريضين، تاقت لالتقاطِ صورةٍ لعجلاتِ دراجته، ولقدميه، كانت نهمةً لكل تفاصيلهِ، ولتفاصيل المكانِ الذي احتواه، كانت سيدة ًغريبةً يخفقُ قلبها بشدةٍ، عند كل وميضٍ، ولما انتهت من هوايتها ابتسمت له، قرأَ في تلك الابتسامةِ شكرًا مبهمًا، لم ير َلؤلؤا من قبل ْ، كان يهمُّ أن يشكرَها عليه، أصبحَ الصيدُ متعة ً بوجودها .. بالرغم من فراغ سلته. يواجه البحر، تلفحُ الشمس ظهره برغبة وقسوة يعيدُ شريط ابتسامتها مرات ومرات وفي كلِّ مرةٍ يتفتح قلبهُ، ويفرجُ عن ابتسامة ٍ، يحتارُ بها الموجُ الملاطمُ لصخرة ِوقوفهِ
قال لنفسه:
- يا للنساء كيف يدرن دفة الذاكرةِ.
في الأمسِ كان البوح عن ذاك الطفلِ الشقي، يتيمًا متروكًا على صخورِ الشاطئ، يتنعم بحريته
يشربُ كلَّ أنواعِ الخمور ِالمتبقية َ في زجاجاتها المرميةِ حول الصخور ِ، يدخِّن أنواعًا شتى من أعقاب السجائرِ، يمسح بنظراته الشبقةِ أجسادَ الفتيات الغارقاتِ بماء البحر، وفي أمس الأمس كانت الذاكرة تبحرُ، وهو في حضنِ موجةٍ عجوزٍ، تعلِّمه كيف يتقنَ الإبحارَ، وهو المراهقُ الذي لم يواجه عاصفةً بعدْ.
ربَّما اليوم أو غدًا ،عند الظهيرةِ أو عندَ المساء ِ، سيهديها حصادَ يومه، قد يعد ُّلها السمكَ المشويَّ ، وقد يرتشفان القهوة َعلى شرفتها ، قد لا تمانع من تغلغلِ أنامله بخصلاتِ شعرها ، قد يكشفُ عن رقبَتها الحليبية ،ويطبع قبلةَ بحارٍ سابقٍ عليها، وقد تنتفض بين يديه منتشيةً بعطشِه ، قد يمتد جلوسهما الى الفجرِ ،ليحكي لها خوفه ِالمبهمَ من البحر ، وعن نجاتِه المعجزة من َالنَّو ،قد يحكي لها عن زوجته التي تركَته بأحد المرافئ بلا نقودٍ ،بلا هويةٍ ،وبلا جواز سفرٍ ، قد يخبرُها عن مغامراتهِ التي انتهى أغلبُها في سجونٍ لمدنٍ عدةٍ .. قد يقول لها بأنَّ المدن كالنساءِ، لديها من السجونِ ما يكفي كل من يخالف أهواءها، إن أحببنَ يعطينَ دون توقفٍ ، وأن كرهن يطعنْ دون توقفٍ ،قد يحكي لها عن شعوره ِحين تملَّك بيتًا، في عالمٍ لم يملك فيه يومًا حبةَ رملٍ ،وقد يحكي لها عن زوجتهِ الثانيةِ التي عاقبت ورثَتها على إهمالهِم لها ، بتمليكهِ بيتها، بما فيه غرفة السطح التي قد أستأجرها منها يومًا، عرفانًا منها على رعايته الحنونةِ لها ،سيحكي كيف كان لها ولدًا بارًا لم تربطه بها سوى العقاقيرُ والمشافي ومواعيدُ الأطباء ،وكيف َتركت له مكتبةً مكتظةً بالكتبِ الصفراء ِ،وكيف بكاها بمرارة ٍوهو الذي لم تمنحه الحياةُ فرصةَ بكاءِ أمِّه . لمَ لا يحثُّها على الكلام؟ فلا يكتملُ جمالهَا دون سماعِ صوتِها، للصوتِ أثرُ العطرِ. وهو المزكومُ برائحةِ البحر، لا يمكنه تخيلُ صوتِها، يجب أن يحادثها كي يعبِّأ منه جعبةَ الذاكرةِ، فهؤلاءِ سرعان ما يغادرونَ وتبقى أحاديثهم زادًا للعمر ِ.
يلتفت وراءهُ ليلقاهَا تقف كآلهة في منتصفِ نافذةٍ زرقاء ٍ، يطمئن قلبُه لطولِ مكوثِها حتَّى أنه ظنَّ أنَّها لن تغادرَ أبدًا.
تستندُ بمرفقيها على النافذةِ بفستانٍ، خطوطهُ طوليةٌٌ عريضةٌ متبادلة ٌ، بين الأسود والأبيض، ينسابُ إلى أعلى ركبتيها، لم ترَ مثلَ هذا الصيادِ من قبل ،صامتٌ لم يتقدمْ خطوةً تجاهَها ،لم يكسر هدوءَ عالَمها ، احترمَ وحدَتها ،تتساءلُ أ تكون لاشيئًا في عالمهِ ، هو الذي يختزلُ الجبال بقامته ِ،نظراتُه متوازنةٌ، مليءٌ بمشيتهِ ، يسرحُ بعيدًا ، تقرِّبُ العدسةَ تكادُ تلامسُ لحيتهُ القصيرةَ ترى حباتِ العرقِ المنسحبةِ كالآلئِ على رقبتهِ البنِّية ،ابتسامةٌ عميقة لا تفارقُ وجهه ،عيناهُ بلون البحرِ ، وأهدابهُ صفراءٌ كسنابلِ القمحِ، تشعرُ برضا من فاز َبصيدٍ ثمينٍ ،ماذا لو دعتهُ إلى فنجانِ قهوةٍ ؟..هي فرصةٌ لتسمعَ صوتَها.
مضت أيامٌ، لم تكلم أحدًا فكانت تغنِّي فقطْ، تمنَّت لو ينادمُها، فتبثُّ له لواعجَ روحها، تحكي له كيف بددت ثروةَ والدِها في مطاراتِ العالم ِ، وكيف تخلَّت أمُّها عنها عند أولِ طامعٍ بنصيبِها بالثروةِ، وتحكي له عن مدارسَ لم تنجحْ فيها، عن تمردٍ كان يقلبُ حياتها عندَ كلِّ فشلٍ، عن صديقاتٍ تخلَّين عنها، بعد إفلاسِها، عن رجالٍ أحبُّوها ولم يتجرّأوا على خطبَتها. البوح للغرباءِ عادةٌ قديمة لها، لكنَّها اليوم َفي حضرةِ البحرِ، سيتسع لكلِّ أسرارِها فتغادرُ النافذةَ وتغلقُها في وجهِ آماله.
تقود سيارتها المركونةَ بعيدًا عن عينيهِ، تدير ُالأغنيةَ التي تحبِّها، تصدح ُمعها بصوتٍ يملئُ طريقَ السفرِ. البحر بيضحك ليه .. تتمايلُ يمنةً ويسرةً خلفَ مقود السيارةِ، فتتأرجحُ على الطريق السريعِ كالثملةِ.
وهي تصرخُ بنشوةِ:
- الله يا شيخ إمام وتتابعُ غناءَها المجنونَ معهُ.
البحرْ بيضحك ليه
وأنا نازله ادلع املا القلل
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ما تضحكش
تفتحُ نافذة َالسيارة ِليضيعَ صوتُها مع الريحِ، الطريقُ تمتد ُّ أمامَها، بجوانِبها الخضرَاء والشمسُ رحيمة ٌ بعينيها، مع غيمةٍ بيضاء ٍ ترافقها، تشعرُ وكأنَّها قد نسيتْ شيئًا ما خلفَها، تتفقدُ كاميرتها، وقد أودَعتها بالمقعدِ بجانِبها، تدلِّلها كطفلةٍ صغيرةٍ، وتربُت بأصابعِها على عدسَتها المغلقةِ وهي تدندنُ بهمهمةً منغَّمةٍ.
النوافذُ المغلقةُ للبيتِ الشاطئي تمحيْ ابتسامتَه، ترسم ُدرَّاجته، خطوطَها الدائريةَ حول المنزلِ الكئيبِ الصَّامت، ليعودَ فاضيَ الوفاضِ. عند المساء ِكانَ المشترونَ يطالبونَه بالسمكِ يلوُّح لهم بحزنٍ بسلتهٍ الفارغةِ يطالبُهم بالصمتِ ، يهربُ من أسئلتهم عن حالهِ ، فما اعتادوا رؤيتَه متأثرًا بخلوِّ سلَّته يومًا، كان يضحكُ دائمًا ، و على كلِّ الأحوالِ ، لضحكهِ السَّاخر وقعٌ طيبٌ في نفوسِ جيرانِهِ ، ولضحكهِ المنتصرِ وقعٌ أخرُ أشدَُّ فرحًا، دوارٌ بسيطٌ يحلُّ على رأسهِ، يسارعُ الى أريكتِه ، يلقي بجسدهِ المنهكِ فوقَها ، يستعرضُ نجومهُ وما ماتَ فيه، لطالما كانَ التأجيلُ من طبعهِ ، دائمًا يسبقهُ الزَّمنُ بفارقِ التوقيت ِ،الذي يوقفُ عقاربَ سعادتِه.
كانت بثوبِها الأسودِ وأناقَتها الباذخةِ تتبخترُ بخيلاءٍ في صالةِ المعرضِ، تتلقَّى ،التَّهاني لفوزِ صورةِ الصيادِ بالمرتبةِ الأولى، وكانت الأضواءُ تلاحِقها وهي تحِصي نظراتِ الإعجابِ المتزاحمة ِأمامَ الصورةِ المعلَّقة على حائطٍ باردٍ، يرفعُ سلَّته ، يحيي الحضورَ بضحكةٍ دافئةٍ أخَّاذة ٍ،تبدي حول عينيهِ خطوطًا خجولةً ، و تكشفُ عن أسنانٍ صفراءٍ ، وشاربين شقراوين وعينينِ بلونِ السماءِ، وسماءٌ بلونِ البحر، يتناغمُ لونُ سترتِه الخضراءَ مع لونِ الرِّمالِ، أثرٌ ساحرٌ لحضورهِ الطَّاغي ، تتقزمُ الصُّور المتنافسةُ معهُ ، تبهتُ ألوانُها ويخطفُ الأضواءَ عنها مدَّ سطوةَ نظراتِه يجذبُها ، وجزر عمق عينيه يسحرها، تدنو منهما يكاد أنفها أن يشم رائحة السمك ، أنفاسُها تغبِّشُ الصورةَ ، تدققُ جيدًا ببريقِ عينيه البحريتين ، يسقطُ النَّدم في قلبِها، تشعرُ كمْ هي مغفلةٌ ؟ كيف لم تكتشفْ سرَّهما ..وهي تصورُه ،وهي تعدُّ الصورةَ ، وهي تعلِّقها بزهو ٍعلى الحائطِ ، وهي تعنونُها، كانت مشغولةً عن عمقهما بكل ما حولِهما، جالَت بنظرِها وجوهَ الحاضرين بنظرهٍ باردة ٍ، شيَّعتهم وتركَتهم في ضجيجِهم تلومُ نفسَها بشدةٍ .
-كيفَ لم أقرأ فيهُما الحبَّ ...؟ الحبَّ الذي لم يسبقْ لي، أنْ التقطتُ لهُ صورةً من قبل.ْ
وعادت تقتفي آثارَ دوائرٍ على الرمال رُسمت مراراً وتكراراً..
صديقة علي / 10/ 2020
https://www.facebook.com/groups/165082018247592/user/100014798714248/
-من جاورَ البحر لا يفقرْ، من أصدافه صنعتُ التحفَ وإطارات الصورِ، أبيعها للسياح، وبنيت هذه الغرف المتناثرة ....
لقِّط رزقك منهُ، ودعكَ من بحوركَ الشِّعرية التي لا تُسمن ولا تغنِي من جوعٍ.
يقفُ في مكانه المعتادِ، وحيدًا مع أمواجٍ ذهبيةٍ تضربُ قدميهِ ، تمتدُ ساقاه المشدودتانِ بعضلاتِها المفتولة كساقيِّ رياضيٍ ، تتشبثتان بصخرةٍ سوداءٍ ،مكللهٍ بالطحالب ، تلمع تحت الشمس بحُفرها ونتوءاتِها، يرتدي سروالً رماديًا قصير ًا ينتهي بسترةٍ قطنيةٍ خضراءَ ، وعلى رأسِه تسلَّطُ الشمسُ وهجها بلا رحمةٍ ، قبعتهُ البيضاء َتحجبُ القليل َمن ضيائِها ،وقصبةُ صيدٍ من النوعِ الرخيصِ يمتدُ منها خيطٌ طويلٌ يحرره ، ينتهي بشصٍ يترصد ُالسمكَ ، تعلّم كيف يصنعُ الطُّعم بيده ِمن الطحينِ والماء ِوالسكَّر ليغري الأسماكَ ، ولشدةِ ما كان يخيبُ أملُه ،ويضحكُ ساخراً حينَ تهتزُ الفوَّاشة كاذبةً، ليكتشف أنَّ من نقرت الطعم كانت سمكةً صغيرةً عابرةً تأكلهُ وتمضي ساخرةً منهُ ، ولطالما أعادَ مثلها إلى البحر ِ فيما مضى ،واهبًا إيّاها فرصةً جديدةً كي تكبرَ . كان لارتعاشه السنارة في يده متعةٌ لا تضاهيها متعةٌ، ومع غرقِ الفواشةِ يضغط بأسنانهِ على شفتهِ السفلى مبتسمًا للبحرِ، مركزًا نظراتَه عليها، فتغدو وكأنَّ العالم كلَّه متوقف ٌعليها، ينتر قصبتَه ويسحب خيطهُ ليقبلَ إلى مستوى صدرهِ، يخلِّص صيدهُ من السنارةِ تنتفضُ السمكةُ بيدهِ فيودعها سلَّته، يرقبها إلى أن تهمد،َ ، و يعود ُبطعم ٍجديد ٍ ،و صبر ٍجديد ، لتتخامدَ لهفته أمامَ شروده الطويلِ ، ليفيقَ من جديدٍ مع ارتعاشةٍ أخرى ، حيثُ النوارسُ من فوقه تبشِّره بصيدٍ وفيرٍ .
من نافذتها المطلةِ على المدى الأزرق تراقبه كلّ يومٍ، كان يديرُ ظهرهُ لعالِمها، يندغم ُبالمشهدِ فيبدو الفراغ الذي يتركهُ عصيَّا على الإمتلاءِ.
مولعةٌ هي بالطبيعةِ وبالسفرِ وبالصورِ، أوطانُها حيثُ الجمالُ الممكنُ إختزانُه بذاكرتها، أو بذاكرةِ آلةِ التصوير ِالاحترافيةِ، ثمَّ على شاشةِ حاسوبها. مولعةٌ هي بحذفِ الإنسانِ من صورٍ التقطَتها بعشوائيةٍ، لكنَّ هذا الصامتَ الصاخبَ بشرودهِ يصعبُ حذفهُ.
كانا وحيدين، تفصلهما الرمالِ الصفراء المتدرجةِ إلى سواد البللِ بأمواج تضربها حينا وتداعبها حينًا آخرَ. شعر َ بنظراتها تخترقُ رأسه، حاولَ أن يلتفتَ إلى الخلفِ، لكنَّ سمكة ترتجفُ في يده ِتمنعه.
اكتشافهُ لوجودها جاء َمتأخرًا، فحدَّ من حريتِها بتأمُّله، ومن جودة الصور العفوية التي أرادت التقاطَها له. في طريق العودة عليه الاقترابُ من نافذتِها، حيث ركنَ درَّاجته، لمحَ بيدها آلة التصوير. نادرًا ما رأى مثلها بيدِ سيدة ٍ، كان لعينيِّ المرأةِ وميضٌ وحشيٌ، شعرَ أنَّها تطلقهُ عن عمدٍ، ليطغى على جاذبية ِالبحر ِالواسعِ خلفَهُ، يتقدَّم منها بتثاقلٍ، قدماهُ تغوصان في الرملِ، ثم يتحرر منها فيخرج من هالتها، التي طغت على الشاطئ كله.
فوق سطح داره المطلِّ على البحر تمددَّ على أريكته مالئًا عينيه من النجوم، تمنَّى أن يكتب شعرًا بشعْرِها الأسود، غبطَ الرِّيح على تخللِها له ومداعبةِ رموشِها.
هو يعرفُ الغرباء َفي المدينةِ من عيونهم، حركة البؤبؤ في المقلة تفضحهم، .. كانت لعينيها رأرأةٌ ثم هدوءٌ، شغلَتهُ عنها، تلك الوحدةُ الغريبةُ في بيتٍ شاطئيٍ.
صارَ البحر غموضًا وفضولًا، والسمكُ محصولًا مؤجلًا، وأخذَ يدعو ربَّه، ألَّا يمرَّ حيتان الديناميت من هناك كي لا يقعده ُعن الصيدِ لعدَّةِ أيام ٍ، فيحرمُه من متعةِ نظراتها.
في الصباح ِكانت على موعدٍ غير معلن ٍمعهُ.
وكان البحر يغمر حواسها بهسيسه، راحت تتسلى بعدستها، تلتقطُ الأمواج، تختزنُ ما تستطيعه من الرمال المبللةِ الزاهية بشمسها، يقترب ُ بدراجته الهوائية التي تلامسُ خصرهَ ماشيًا، ويدَه ملتصقةٌ بمقودها، عجلاتُها تحفر في الرمال خطوطًا ضيقة ً . يسيرُ بجانبها، قريبًا منها، توجهُ الكاميرةَ لوجههِ البرونزي، يحييها برفع سلَّته القصبيةِ في مستوى وجهه ِ، وبابتسامةٍ، تشكلُ مع البحر لوحة ًخلابة، تجعلها ترقصُ فرحًا في مشيتها وهي تدنو منهُ. تتمنَّى أن يطولَ وقوفه، تتأمل قامتهُ الممتدة بثقةٍ في وجهِ الرمال، بطاقيته المتَّسخة، بمنكبيه العريضين، تاقت لالتقاطِ صورةٍ لعجلاتِ دراجته، ولقدميه، كانت نهمةً لكل تفاصيلهِ، ولتفاصيل المكانِ الذي احتواه، كانت سيدة ًغريبةً يخفقُ قلبها بشدةٍ، عند كل وميضٍ، ولما انتهت من هوايتها ابتسمت له، قرأَ في تلك الابتسامةِ شكرًا مبهمًا، لم ير َلؤلؤا من قبل ْ، كان يهمُّ أن يشكرَها عليه، أصبحَ الصيدُ متعة ً بوجودها .. بالرغم من فراغ سلته. يواجه البحر، تلفحُ الشمس ظهره برغبة وقسوة يعيدُ شريط ابتسامتها مرات ومرات وفي كلِّ مرةٍ يتفتح قلبهُ، ويفرجُ عن ابتسامة ٍ، يحتارُ بها الموجُ الملاطمُ لصخرة ِوقوفهِ
قال لنفسه:
- يا للنساء كيف يدرن دفة الذاكرةِ.
في الأمسِ كان البوح عن ذاك الطفلِ الشقي، يتيمًا متروكًا على صخورِ الشاطئ، يتنعم بحريته
يشربُ كلَّ أنواعِ الخمور ِالمتبقية َ في زجاجاتها المرميةِ حول الصخور ِ، يدخِّن أنواعًا شتى من أعقاب السجائرِ، يمسح بنظراته الشبقةِ أجسادَ الفتيات الغارقاتِ بماء البحر، وفي أمس الأمس كانت الذاكرة تبحرُ، وهو في حضنِ موجةٍ عجوزٍ، تعلِّمه كيف يتقنَ الإبحارَ، وهو المراهقُ الذي لم يواجه عاصفةً بعدْ.
ربَّما اليوم أو غدًا ،عند الظهيرةِ أو عندَ المساء ِ، سيهديها حصادَ يومه، قد يعد ُّلها السمكَ المشويَّ ، وقد يرتشفان القهوة َعلى شرفتها ، قد لا تمانع من تغلغلِ أنامله بخصلاتِ شعرها ، قد يكشفُ عن رقبَتها الحليبية ،ويطبع قبلةَ بحارٍ سابقٍ عليها، وقد تنتفض بين يديه منتشيةً بعطشِه ، قد يمتد جلوسهما الى الفجرِ ،ليحكي لها خوفه ِالمبهمَ من البحر ، وعن نجاتِه المعجزة من َالنَّو ،قد يحكي لها عن زوجته التي تركَته بأحد المرافئ بلا نقودٍ ،بلا هويةٍ ،وبلا جواز سفرٍ ، قد يخبرُها عن مغامراتهِ التي انتهى أغلبُها في سجونٍ لمدنٍ عدةٍ .. قد يقول لها بأنَّ المدن كالنساءِ، لديها من السجونِ ما يكفي كل من يخالف أهواءها، إن أحببنَ يعطينَ دون توقفٍ ، وأن كرهن يطعنْ دون توقفٍ ،قد يحكي لها عن شعوره ِحين تملَّك بيتًا، في عالمٍ لم يملك فيه يومًا حبةَ رملٍ ،وقد يحكي لها عن زوجتهِ الثانيةِ التي عاقبت ورثَتها على إهمالهِم لها ، بتمليكهِ بيتها، بما فيه غرفة السطح التي قد أستأجرها منها يومًا، عرفانًا منها على رعايته الحنونةِ لها ،سيحكي كيف كان لها ولدًا بارًا لم تربطه بها سوى العقاقيرُ والمشافي ومواعيدُ الأطباء ،وكيف َتركت له مكتبةً مكتظةً بالكتبِ الصفراء ِ،وكيف بكاها بمرارة ٍوهو الذي لم تمنحه الحياةُ فرصةَ بكاءِ أمِّه . لمَ لا يحثُّها على الكلام؟ فلا يكتملُ جمالهَا دون سماعِ صوتِها، للصوتِ أثرُ العطرِ. وهو المزكومُ برائحةِ البحر، لا يمكنه تخيلُ صوتِها، يجب أن يحادثها كي يعبِّأ منه جعبةَ الذاكرةِ، فهؤلاءِ سرعان ما يغادرونَ وتبقى أحاديثهم زادًا للعمر ِ.
يلتفت وراءهُ ليلقاهَا تقف كآلهة في منتصفِ نافذةٍ زرقاء ٍ، يطمئن قلبُه لطولِ مكوثِها حتَّى أنه ظنَّ أنَّها لن تغادرَ أبدًا.
تستندُ بمرفقيها على النافذةِ بفستانٍ، خطوطهُ طوليةٌٌ عريضةٌ متبادلة ٌ، بين الأسود والأبيض، ينسابُ إلى أعلى ركبتيها، لم ترَ مثلَ هذا الصيادِ من قبل ،صامتٌ لم يتقدمْ خطوةً تجاهَها ،لم يكسر هدوءَ عالَمها ، احترمَ وحدَتها ،تتساءلُ أ تكون لاشيئًا في عالمهِ ، هو الذي يختزلُ الجبال بقامته ِ،نظراتُه متوازنةٌ، مليءٌ بمشيتهِ ، يسرحُ بعيدًا ، تقرِّبُ العدسةَ تكادُ تلامسُ لحيتهُ القصيرةَ ترى حباتِ العرقِ المنسحبةِ كالآلئِ على رقبتهِ البنِّية ،ابتسامةٌ عميقة لا تفارقُ وجهه ،عيناهُ بلون البحرِ ، وأهدابهُ صفراءٌ كسنابلِ القمحِ، تشعرُ برضا من فاز َبصيدٍ ثمينٍ ،ماذا لو دعتهُ إلى فنجانِ قهوةٍ ؟..هي فرصةٌ لتسمعَ صوتَها.
مضت أيامٌ، لم تكلم أحدًا فكانت تغنِّي فقطْ، تمنَّت لو ينادمُها، فتبثُّ له لواعجَ روحها، تحكي له كيف بددت ثروةَ والدِها في مطاراتِ العالم ِ، وكيف تخلَّت أمُّها عنها عند أولِ طامعٍ بنصيبِها بالثروةِ، وتحكي له عن مدارسَ لم تنجحْ فيها، عن تمردٍ كان يقلبُ حياتها عندَ كلِّ فشلٍ، عن صديقاتٍ تخلَّين عنها، بعد إفلاسِها، عن رجالٍ أحبُّوها ولم يتجرّأوا على خطبَتها. البوح للغرباءِ عادةٌ قديمة لها، لكنَّها اليوم َفي حضرةِ البحرِ، سيتسع لكلِّ أسرارِها فتغادرُ النافذةَ وتغلقُها في وجهِ آماله.
تقود سيارتها المركونةَ بعيدًا عن عينيهِ، تدير ُالأغنيةَ التي تحبِّها، تصدح ُمعها بصوتٍ يملئُ طريقَ السفرِ. البحر بيضحك ليه .. تتمايلُ يمنةً ويسرةً خلفَ مقود السيارةِ، فتتأرجحُ على الطريق السريعِ كالثملةِ.
وهي تصرخُ بنشوةِ:
- الله يا شيخ إمام وتتابعُ غناءَها المجنونَ معهُ.
البحرْ بيضحك ليه
وأنا نازله ادلع املا القلل
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ما تضحكش
تفتحُ نافذة َالسيارة ِليضيعَ صوتُها مع الريحِ، الطريقُ تمتد ُّ أمامَها، بجوانِبها الخضرَاء والشمسُ رحيمة ٌ بعينيها، مع غيمةٍ بيضاء ٍ ترافقها، تشعرُ وكأنَّها قد نسيتْ شيئًا ما خلفَها، تتفقدُ كاميرتها، وقد أودَعتها بالمقعدِ بجانِبها، تدلِّلها كطفلةٍ صغيرةٍ، وتربُت بأصابعِها على عدسَتها المغلقةِ وهي تدندنُ بهمهمةً منغَّمةٍ.
النوافذُ المغلقةُ للبيتِ الشاطئي تمحيْ ابتسامتَه، ترسم ُدرَّاجته، خطوطَها الدائريةَ حول المنزلِ الكئيبِ الصَّامت، ليعودَ فاضيَ الوفاضِ. عند المساء ِكانَ المشترونَ يطالبونَه بالسمكِ يلوُّح لهم بحزنٍ بسلتهٍ الفارغةِ يطالبُهم بالصمتِ ، يهربُ من أسئلتهم عن حالهِ ، فما اعتادوا رؤيتَه متأثرًا بخلوِّ سلَّته يومًا، كان يضحكُ دائمًا ، و على كلِّ الأحوالِ ، لضحكهِ السَّاخر وقعٌ طيبٌ في نفوسِ جيرانِهِ ، ولضحكهِ المنتصرِ وقعٌ أخرُ أشدَُّ فرحًا، دوارٌ بسيطٌ يحلُّ على رأسهِ، يسارعُ الى أريكتِه ، يلقي بجسدهِ المنهكِ فوقَها ، يستعرضُ نجومهُ وما ماتَ فيه، لطالما كانَ التأجيلُ من طبعهِ ، دائمًا يسبقهُ الزَّمنُ بفارقِ التوقيت ِ،الذي يوقفُ عقاربَ سعادتِه.
كانت بثوبِها الأسودِ وأناقَتها الباذخةِ تتبخترُ بخيلاءٍ في صالةِ المعرضِ، تتلقَّى ،التَّهاني لفوزِ صورةِ الصيادِ بالمرتبةِ الأولى، وكانت الأضواءُ تلاحِقها وهي تحِصي نظراتِ الإعجابِ المتزاحمة ِأمامَ الصورةِ المعلَّقة على حائطٍ باردٍ، يرفعُ سلَّته ، يحيي الحضورَ بضحكةٍ دافئةٍ أخَّاذة ٍ،تبدي حول عينيهِ خطوطًا خجولةً ، و تكشفُ عن أسنانٍ صفراءٍ ، وشاربين شقراوين وعينينِ بلونِ السماءِ، وسماءٌ بلونِ البحر، يتناغمُ لونُ سترتِه الخضراءَ مع لونِ الرِّمالِ، أثرٌ ساحرٌ لحضورهِ الطَّاغي ، تتقزمُ الصُّور المتنافسةُ معهُ ، تبهتُ ألوانُها ويخطفُ الأضواءَ عنها مدَّ سطوةَ نظراتِه يجذبُها ، وجزر عمق عينيه يسحرها، تدنو منهما يكاد أنفها أن يشم رائحة السمك ، أنفاسُها تغبِّشُ الصورةَ ، تدققُ جيدًا ببريقِ عينيه البحريتين ، يسقطُ النَّدم في قلبِها، تشعرُ كمْ هي مغفلةٌ ؟ كيف لم تكتشفْ سرَّهما ..وهي تصورُه ،وهي تعدُّ الصورةَ ، وهي تعلِّقها بزهو ٍعلى الحائطِ ، وهي تعنونُها، كانت مشغولةً عن عمقهما بكل ما حولِهما، جالَت بنظرِها وجوهَ الحاضرين بنظرهٍ باردة ٍ، شيَّعتهم وتركَتهم في ضجيجِهم تلومُ نفسَها بشدةٍ .
-كيفَ لم أقرأ فيهُما الحبَّ ...؟ الحبَّ الذي لم يسبقْ لي، أنْ التقطتُ لهُ صورةً من قبل.ْ
وعادت تقتفي آثارَ دوائرٍ على الرمال رُسمت مراراً وتكراراً..
صديقة علي / 10/ 2020
https://www.facebook.com/groups/165082018247592/user/100014798714248/