رواية من عشرة فصول للروائي فهد العتيق، يحمل كل فصل عنوانا يبدو وكأنه يستقل بمعناه عن الآخر، يستعير أحدها ليكون عنوانا للرواية بكاملها، وكل عنوان يتكون من مفردتين تربطهما علاقة العطف أو الوصف أو الإضافة، ثنائيات تعكس أوجها شتى من التخصيص والتعريف والتماثل أو التمايز وتشكّل الإطار الأشمل لحقبتين زمنيتين تجري فيهما أحداث الرواية فتنتهي إلى وعد بالتحقّق والحضور حيث يبقى الانتظار لاكتمال محتمل.
زمنان: ما قبل الطفرة وما بعدها، ومكانان: قديم حيث البساطة والاقتراب من الأصل، حيث البيت والكائن الذي يسكنه كلاهما من طين، وحديث اسمنتي حجري تتقوقع داخله الروح فتنعزل عن تاريخها وإنسانها ومحيطها: دائرة لم تكتمل، كينونة مغتربة تبحث عن ذاتها وسط هشيم نفسي وسراب اجتماعي، وكينونة مؤجلة في انتظار المجهول حتى تكتمل وتكون قادرة على اتخاذ قراراتها التي تعني تملّكها لزمامها و تحقيق وجودها.
الطفرة ورمادية الرؤية :
من حيث المبدأ فهي رواية تعبر عن مرحلة الطفرة، ولكن ذلك ليس هو الأصل الذي تتشكّل عبره رؤية الكاتب؛ فالطفرة وما أحدثته من تحوّلات اقتصاديّة واجتماعية وثقافية تناولتها مقاربات سردية وشعرية وفكرية عدّة، ولكن المسألة هنا تأخذ بعدا فلسفيا يتعلّق بالكينونة الإنسانية وصلتها بالمتغيّرات الموضوعية؛ ولكن الأبعاد الأخرى التي تتناسج مع هذه الرؤية وتتقاطع معها تتمثل في البنية السردية ممن حيث التبئير وطرائق السرد وبناء المكان والزمان والنماذج والأنماط الشرية وغيرها مما يتعلق بتقنيات الرواية .
ولعل اللافت منذ البدء هذه العناوين العشرة التي أشرت إليها التي من ضمنها عنوان الرواية الرئيس، بما يوحي إليه ذلك من إفضاء كل فصل بجانب من جوانب الرؤية تتكامل في نهاية المطاف، وهو ما أشارت إليه بعض القراءات النقدية التي قاربت الرواية من تداخل الحكايات؛ فثمة أكثر من حكاية وأود أن أضيف أن هذا التداخل يأخذ شكلا أفقيا تارة، وعموديا تارة أخرى؛ فهو يتوالد حينا ويتوازى حينا آخر ، ولذلك دلالاته.
تقنيات السرد بين مأزق اللحظة واستشراف المستقبل :
ولعل الكاتب - وهو روائي وله مجموعات قصصية كثيرة ونصوص قصيرة – قد استثمر خبرته في الكتابة بشتّى أشكالها في تشكيل روايته هذه، فكلّ فصل يمثل وحدة نصيّة متكاملة ربما توفّرت فيها خصائص القصة القصيرة على نحو ما؛ وتوظيفها في بناء الرواية.
ففي الفصل الأول (جسد وروح ) يتمركز داخل اللّحظة في تطواف مونتاجي زماني ومكاني في لحظة تأزّم نفسي يخوض فيه صراعا داخليا في استرجاعات متعددة في أزمنة مختلفة وأماكن كثيرة، مشدودة بين قطبي الماضي و الحاضر (زمن الطفولة وما بعده واللحظة الراهنة وما قبلها) والقديم والحديث (البيت الطينيّ والآخر الإسمنتيّ، المدرسة والجامعة وأمكنة العمل) وبين قطبي المتعة الجسديّة واليقظة الروحية، نحن أمام لحظة تأزّم هي قوالم القصة القصيرة، ولكنها متصلة الأسباب ببقية الفصول عبر هذه البؤر المتعددة التي طاف بها عبر الذاكرة والمخيّلة، وتفضي النهاية إلبى مفارقة تتصالح فيها المواقف وتتجمع في بؤرة التنوير:
«ثم دخل في هلوسة، ما يشعره وما يعيشه ، بين واقعه وما يتوهم دائما أنه واقعه، في أحلام اليقظة، وفي أحلام النوم القلقة، ودائما مشكلة الروح و الجسد علامة هذا الضجر الذي يحاول أن يقرأه في عيون الناس، فيرتاح قليلا» ص15
في الفصل الثاني المعنون (صمت الأشياء ) لحظة تأزّم أخرى محدود الزمان والمكان: يتصاعد فيها التوتر وتجتمع فيها المفارقات تبدأ بمشوار إلى عيادة الطبيب النفسي وتنتهي برفقة الأب عبر محطتين مكانيتين لهما دلالاتهما: الأولى البيت القديم والمكتب العقاري، شريط سرديّ وصفيّ متوتّرينتهي إلى الافتراق بين الأب والابن ، وصمت أبلغ من الكلام، وهذا الفصل بوصفه وحدة سردية يتناسل من الفصل الأول ويتفرع من بؤرته الزمانية والمكانية.
في الفصل المعنون (كائن مؤجل) تبدأ البداية ذاتها لحظة التوتر وذروة الأزمة، ثم سيل التداعيات التمركز في اللحظة والاستسلام لانثيالات الذاكرة سلسلة المواقف التي تتشابك لتؤسس للأزمة في ذروتها، ثم انتظار لحظة الانفراج التي تأتي ولا تأتي فكل شيء مؤجل، وهذا الفصل نقطة الالتقاء المركزية التي تستقطب خيوط الأزمة في الرؤية بكاملها.
ازدواجية المكان والزمان (تضادّ الثنائيات) :
وتتابع الفصول بعد ئلك في مواقف محكمة، وفضاءات مغلقة، وحال بين النوم و اليقظة واستحضار عبر الذاكرة لعهد ماض وعهود حاضرة تتحفّز للدخول إلى مقاصد مؤجلة، دائما تتعانق الأزمنة والأمكنة والعهود والآمال، النوم واليقظة في انتظار ما طال انتظاره، فمن يقظة صريحة إلى حياة أخلرى: فصلين حيث استحضار مرحلة تاريخية يطغى فيها الخطاب على التاريخ - وإن بدا التاريخ بمفهومه القريب حاضراً ولكنه بوصفه مصطلحا سرديا ليس كذلك، فالكاتب أو الراوي بمعنى أدق يتوقف محلّلا للحقبة التاريخية بين الخمسينيات الميلادية والسبعينيات مستثمراً تقنية الثغرة و التلخيص، موازيا بين تاريخية اللحظة وذاتية التجربة، مستذكرا الوقائع المهمة في حربي (1967 و1973) وحركة جهيمان الإرهابية و كامب ديفيد و الحرب الأهلية اللبنانية ، وغزو العراق للكويت، وثورة الاتصالات والعولمة في إضمامة واحدة على تباعد السنين بينها ، ليس هذا فحسب؛ بل يعمد إلى استحضار حكايته الخاصة منقّبا عن جذوره في منحى سيري يسقطه على الللحظة التاريخية ضمن نزعته التحليلية في فصل لعله أطول فصول الرواية عنونه ب (حياة أخرى في ما يقرب من خمس وثلاثين صفحة من أصل مئة وثلاثين صفحة) عدد صفحات الرواية التي تبدأ فصولها من صفحة (7) يكون الفصل قد استغرق أكثر من ربع الرواية، وهو الذي اتّكأ على تقنية الاسترجاع لمسيرة خالد منذ جده الأول الذي نزل في الرياض -ويمثّذذل الحقبة التي استغرقتها حياته في البيت الطيني القديم - إلى أن انتقل إلى البيت الجديد، وهو يناظر الشطر الأول من حياته التي يعدّ الانتقال فيها من الحارة القديمة منعطفا مهما في ضوئه تتشكّل وجهة النظر في الرواية و تطلّ عليها بؤرة السرد، وينطلق إلى لون جديد من الحياة يتمثله في الفصول التالية لهذا الفصل وتترعرع فيه شهوة الطين وتخبو جذوة الروح ، لقد أدار عدسته في أنحاء مختلفة من الحارة راصدا على لسان فتاته الصغيرة العالم السفلي للحارة بكل تفاصيله في موازاة الحركة النشطة اليقظة لغرائزه الدنيا في مسح شامل لمختلف المشاهد التي تنطوي عليها الأبواب المغلقة من خلال عملية التذكر في تداعيات نشطة تكتظ بها اللحظة، وتستولدها حالة الانتظار للآتي المجهول المؤجل، وقد جاء هذا الفصل الذي عنونه الكاتب بـ(طعم السّكر) ليكمل الفصل السابق عن الحارة القديمة ويغوص في عوالمها الحسّية يحمل عنوان (حياة أخرى ) ليتم - مع ما سبقه - ما يقرب من نصف صفحات الرواية التي تجوس خلال عالم الحارة القديمة وتستقصي ملامحها مركّزة على البعد الحسي فيها.
وفي مقابل الفصل الذي يحمل عنوان (حياة أخرى) يأتي الفصل الذي عنوانه (مكان آخر) حيث الانتقال إلى المكان الاسمنتي الجديد، وقد لخّص الراوي العليم الحياة في الحارة والتغير الذي طرأ اقتصاديّا واجتماعيّا و نفسيّا عبر التداعي في لحظة الرحيل، حيث شكّلت تلك اللحظة الزمانية والمكانية الفارقة كلّ التطوّرات التي طرأت عبر مرحلة الطفرة في لحظة انثالت فيها الذكريات والتأملات: أثر الصحوة على شريحة من المجتمع مثّلها أحمد شقيق خالد الذي قدّمه نموذجاً لجيل الصحوة من الشباب الذين كانوا يحلمون بآمال مؤجّلة، وغروب شمس جيل ممن قضوا جلّ حياتهم في الحارة القديمة، وبدا أنهم يودّعون ما تبقى من عمرهم من خلال تصوير الأب المريض وفقدان التوازن عبر مفارقة شديدة الوضوح تتمثل في سهولة الحياة ورفاهية الجيل الجديد في مقابل شقاء الجيل القديم الذي كان يفني سنوات من عمره من أجل أن يقتني سياّرة مستعملة، في حين يقود صغار الفتية السيارات الجديدة وكأنها لعب أطفال، وإذ يصل المكان الجديد الذي تتسع أرجاؤه أكثر مما يجب يضع أحلامه في أحد دواليبها في انتظار مستقبل مؤجّل حائر .
الخاص والعام (أشتات مجتمعات) :
وفي الفصول الأخيرة يجمع المؤلف شتات الأحداث التي تجمّعت نذرها من خلال تلك التفاصيل ليعلن عن حدثين بارزين أحدهما خاص يتقاطع مع حدث كبير عام وهو سفر أخيه إلى أفغانستان حيث تكون النهاية، و الحدث الثاني غزو صدام للكويت ثم قيادة النساء للسيارات، وقرب نهاية الأب الذي يمثل حقبة تاريخيّة أوشكت على الانتهاء ضمن إضمامة من الأحداث الخاصة والعامة التي ميّزت تلك المرحلة، وقد حاول الكاتب أن يوحي من خلال بعض الظواهر الثانوية بضبابية الرؤية وغموض الموقف حين تحدث عن الأجواء المغبرّة التي غلّفت الأمكنة وحجبت الرؤية، ومن خلال التعالق بين ،مضطرب الأحداث العامّة والخاصّة، وقد عبر عنه بعنوان الفصل الأخير(صورة غامضة) الذي تحول فيه السّرد إلى خطاب شعري يناجي من خلاله ذاته، ويمتح من أغوارها آماله وتطلعاته ومشاريعه و أحلامه المؤجلة، يرتحل على أجنحة وعيه وخيالاته وتطلعاته ورغباته ليختم روايته بقوله:
«هل تفهميني ياعفاف ، لسنا أسماكا عمياء وحزينة فقط ، نحن جميعا كائنات مؤجلة» ص129
مؤشرات ونذر وانتظار :
إن الرواية توثّق لمرحلة رمادية التقت على صعيدها المفارقات في تفاعل لم يكتمل بعد؛ كل شيء الأحياء والأشياء في انتظار ماسيكون بعد أن ماتت الحارة القديمة، وانتحر منصور الذي مثّل ذروة القلق والتمرد ومات أحمد في أفغانستان، وغالب خالد فكرة الانتحار فغلبها، وعاش زوج عفاف على الهامش، وطلّقت أميرة الحلم الذي لم يتحقق ، وفقد القدرة على اتخاذ القرار بعد أن غامت الرؤيا أمامه وتحول إلى كينونة مؤجلة.
مجلة اليمامة
زمنان: ما قبل الطفرة وما بعدها، ومكانان: قديم حيث البساطة والاقتراب من الأصل، حيث البيت والكائن الذي يسكنه كلاهما من طين، وحديث اسمنتي حجري تتقوقع داخله الروح فتنعزل عن تاريخها وإنسانها ومحيطها: دائرة لم تكتمل، كينونة مغتربة تبحث عن ذاتها وسط هشيم نفسي وسراب اجتماعي، وكينونة مؤجلة في انتظار المجهول حتى تكتمل وتكون قادرة على اتخاذ قراراتها التي تعني تملّكها لزمامها و تحقيق وجودها.
الطفرة ورمادية الرؤية :
من حيث المبدأ فهي رواية تعبر عن مرحلة الطفرة، ولكن ذلك ليس هو الأصل الذي تتشكّل عبره رؤية الكاتب؛ فالطفرة وما أحدثته من تحوّلات اقتصاديّة واجتماعية وثقافية تناولتها مقاربات سردية وشعرية وفكرية عدّة، ولكن المسألة هنا تأخذ بعدا فلسفيا يتعلّق بالكينونة الإنسانية وصلتها بالمتغيّرات الموضوعية؛ ولكن الأبعاد الأخرى التي تتناسج مع هذه الرؤية وتتقاطع معها تتمثل في البنية السردية ممن حيث التبئير وطرائق السرد وبناء المكان والزمان والنماذج والأنماط الشرية وغيرها مما يتعلق بتقنيات الرواية .
ولعل اللافت منذ البدء هذه العناوين العشرة التي أشرت إليها التي من ضمنها عنوان الرواية الرئيس، بما يوحي إليه ذلك من إفضاء كل فصل بجانب من جوانب الرؤية تتكامل في نهاية المطاف، وهو ما أشارت إليه بعض القراءات النقدية التي قاربت الرواية من تداخل الحكايات؛ فثمة أكثر من حكاية وأود أن أضيف أن هذا التداخل يأخذ شكلا أفقيا تارة، وعموديا تارة أخرى؛ فهو يتوالد حينا ويتوازى حينا آخر ، ولذلك دلالاته.
تقنيات السرد بين مأزق اللحظة واستشراف المستقبل :
ولعل الكاتب - وهو روائي وله مجموعات قصصية كثيرة ونصوص قصيرة – قد استثمر خبرته في الكتابة بشتّى أشكالها في تشكيل روايته هذه، فكلّ فصل يمثل وحدة نصيّة متكاملة ربما توفّرت فيها خصائص القصة القصيرة على نحو ما؛ وتوظيفها في بناء الرواية.
ففي الفصل الأول (جسد وروح ) يتمركز داخل اللّحظة في تطواف مونتاجي زماني ومكاني في لحظة تأزّم نفسي يخوض فيه صراعا داخليا في استرجاعات متعددة في أزمنة مختلفة وأماكن كثيرة، مشدودة بين قطبي الماضي و الحاضر (زمن الطفولة وما بعده واللحظة الراهنة وما قبلها) والقديم والحديث (البيت الطينيّ والآخر الإسمنتيّ، المدرسة والجامعة وأمكنة العمل) وبين قطبي المتعة الجسديّة واليقظة الروحية، نحن أمام لحظة تأزّم هي قوالم القصة القصيرة، ولكنها متصلة الأسباب ببقية الفصول عبر هذه البؤر المتعددة التي طاف بها عبر الذاكرة والمخيّلة، وتفضي النهاية إلبى مفارقة تتصالح فيها المواقف وتتجمع في بؤرة التنوير:
«ثم دخل في هلوسة، ما يشعره وما يعيشه ، بين واقعه وما يتوهم دائما أنه واقعه، في أحلام اليقظة، وفي أحلام النوم القلقة، ودائما مشكلة الروح و الجسد علامة هذا الضجر الذي يحاول أن يقرأه في عيون الناس، فيرتاح قليلا» ص15
في الفصل الثاني المعنون (صمت الأشياء ) لحظة تأزّم أخرى محدود الزمان والمكان: يتصاعد فيها التوتر وتجتمع فيها المفارقات تبدأ بمشوار إلى عيادة الطبيب النفسي وتنتهي برفقة الأب عبر محطتين مكانيتين لهما دلالاتهما: الأولى البيت القديم والمكتب العقاري، شريط سرديّ وصفيّ متوتّرينتهي إلى الافتراق بين الأب والابن ، وصمت أبلغ من الكلام، وهذا الفصل بوصفه وحدة سردية يتناسل من الفصل الأول ويتفرع من بؤرته الزمانية والمكانية.
في الفصل المعنون (كائن مؤجل) تبدأ البداية ذاتها لحظة التوتر وذروة الأزمة، ثم سيل التداعيات التمركز في اللحظة والاستسلام لانثيالات الذاكرة سلسلة المواقف التي تتشابك لتؤسس للأزمة في ذروتها، ثم انتظار لحظة الانفراج التي تأتي ولا تأتي فكل شيء مؤجل، وهذا الفصل نقطة الالتقاء المركزية التي تستقطب خيوط الأزمة في الرؤية بكاملها.
ازدواجية المكان والزمان (تضادّ الثنائيات) :
وتتابع الفصول بعد ئلك في مواقف محكمة، وفضاءات مغلقة، وحال بين النوم و اليقظة واستحضار عبر الذاكرة لعهد ماض وعهود حاضرة تتحفّز للدخول إلى مقاصد مؤجلة، دائما تتعانق الأزمنة والأمكنة والعهود والآمال، النوم واليقظة في انتظار ما طال انتظاره، فمن يقظة صريحة إلى حياة أخلرى: فصلين حيث استحضار مرحلة تاريخية يطغى فيها الخطاب على التاريخ - وإن بدا التاريخ بمفهومه القريب حاضراً ولكنه بوصفه مصطلحا سرديا ليس كذلك، فالكاتب أو الراوي بمعنى أدق يتوقف محلّلا للحقبة التاريخية بين الخمسينيات الميلادية والسبعينيات مستثمراً تقنية الثغرة و التلخيص، موازيا بين تاريخية اللحظة وذاتية التجربة، مستذكرا الوقائع المهمة في حربي (1967 و1973) وحركة جهيمان الإرهابية و كامب ديفيد و الحرب الأهلية اللبنانية ، وغزو العراق للكويت، وثورة الاتصالات والعولمة في إضمامة واحدة على تباعد السنين بينها ، ليس هذا فحسب؛ بل يعمد إلى استحضار حكايته الخاصة منقّبا عن جذوره في منحى سيري يسقطه على الللحظة التاريخية ضمن نزعته التحليلية في فصل لعله أطول فصول الرواية عنونه ب (حياة أخرى في ما يقرب من خمس وثلاثين صفحة من أصل مئة وثلاثين صفحة) عدد صفحات الرواية التي تبدأ فصولها من صفحة (7) يكون الفصل قد استغرق أكثر من ربع الرواية، وهو الذي اتّكأ على تقنية الاسترجاع لمسيرة خالد منذ جده الأول الذي نزل في الرياض -ويمثّذذل الحقبة التي استغرقتها حياته في البيت الطيني القديم - إلى أن انتقل إلى البيت الجديد، وهو يناظر الشطر الأول من حياته التي يعدّ الانتقال فيها من الحارة القديمة منعطفا مهما في ضوئه تتشكّل وجهة النظر في الرواية و تطلّ عليها بؤرة السرد، وينطلق إلى لون جديد من الحياة يتمثله في الفصول التالية لهذا الفصل وتترعرع فيه شهوة الطين وتخبو جذوة الروح ، لقد أدار عدسته في أنحاء مختلفة من الحارة راصدا على لسان فتاته الصغيرة العالم السفلي للحارة بكل تفاصيله في موازاة الحركة النشطة اليقظة لغرائزه الدنيا في مسح شامل لمختلف المشاهد التي تنطوي عليها الأبواب المغلقة من خلال عملية التذكر في تداعيات نشطة تكتظ بها اللحظة، وتستولدها حالة الانتظار للآتي المجهول المؤجل، وقد جاء هذا الفصل الذي عنونه الكاتب بـ(طعم السّكر) ليكمل الفصل السابق عن الحارة القديمة ويغوص في عوالمها الحسّية يحمل عنوان (حياة أخرى ) ليتم - مع ما سبقه - ما يقرب من نصف صفحات الرواية التي تجوس خلال عالم الحارة القديمة وتستقصي ملامحها مركّزة على البعد الحسي فيها.
وفي مقابل الفصل الذي يحمل عنوان (حياة أخرى) يأتي الفصل الذي عنوانه (مكان آخر) حيث الانتقال إلى المكان الاسمنتي الجديد، وقد لخّص الراوي العليم الحياة في الحارة والتغير الذي طرأ اقتصاديّا واجتماعيّا و نفسيّا عبر التداعي في لحظة الرحيل، حيث شكّلت تلك اللحظة الزمانية والمكانية الفارقة كلّ التطوّرات التي طرأت عبر مرحلة الطفرة في لحظة انثالت فيها الذكريات والتأملات: أثر الصحوة على شريحة من المجتمع مثّلها أحمد شقيق خالد الذي قدّمه نموذجاً لجيل الصحوة من الشباب الذين كانوا يحلمون بآمال مؤجّلة، وغروب شمس جيل ممن قضوا جلّ حياتهم في الحارة القديمة، وبدا أنهم يودّعون ما تبقى من عمرهم من خلال تصوير الأب المريض وفقدان التوازن عبر مفارقة شديدة الوضوح تتمثل في سهولة الحياة ورفاهية الجيل الجديد في مقابل شقاء الجيل القديم الذي كان يفني سنوات من عمره من أجل أن يقتني سياّرة مستعملة، في حين يقود صغار الفتية السيارات الجديدة وكأنها لعب أطفال، وإذ يصل المكان الجديد الذي تتسع أرجاؤه أكثر مما يجب يضع أحلامه في أحد دواليبها في انتظار مستقبل مؤجّل حائر .
الخاص والعام (أشتات مجتمعات) :
وفي الفصول الأخيرة يجمع المؤلف شتات الأحداث التي تجمّعت نذرها من خلال تلك التفاصيل ليعلن عن حدثين بارزين أحدهما خاص يتقاطع مع حدث كبير عام وهو سفر أخيه إلى أفغانستان حيث تكون النهاية، و الحدث الثاني غزو صدام للكويت ثم قيادة النساء للسيارات، وقرب نهاية الأب الذي يمثل حقبة تاريخيّة أوشكت على الانتهاء ضمن إضمامة من الأحداث الخاصة والعامة التي ميّزت تلك المرحلة، وقد حاول الكاتب أن يوحي من خلال بعض الظواهر الثانوية بضبابية الرؤية وغموض الموقف حين تحدث عن الأجواء المغبرّة التي غلّفت الأمكنة وحجبت الرؤية، ومن خلال التعالق بين ،مضطرب الأحداث العامّة والخاصّة، وقد عبر عنه بعنوان الفصل الأخير(صورة غامضة) الذي تحول فيه السّرد إلى خطاب شعري يناجي من خلاله ذاته، ويمتح من أغوارها آماله وتطلعاته ومشاريعه و أحلامه المؤجلة، يرتحل على أجنحة وعيه وخيالاته وتطلعاته ورغباته ليختم روايته بقوله:
«هل تفهميني ياعفاف ، لسنا أسماكا عمياء وحزينة فقط ، نحن جميعا كائنات مؤجلة» ص129
مؤشرات ونذر وانتظار :
إن الرواية توثّق لمرحلة رمادية التقت على صعيدها المفارقات في تفاعل لم يكتمل بعد؛ كل شيء الأحياء والأشياء في انتظار ماسيكون بعد أن ماتت الحارة القديمة، وانتحر منصور الذي مثّل ذروة القلق والتمرد ومات أحمد في أفغانستان، وغالب خالد فكرة الانتحار فغلبها، وعاش زوج عفاف على الهامش، وطلّقت أميرة الحلم الذي لم يتحقق ، وفقد القدرة على اتخاذ القرار بعد أن غامت الرؤيا أمامه وتحول إلى كينونة مؤجلة.
مجلة اليمامة