أمل الكردفاني- الضعف العقلي عند البشر

إنني ما تعاملت مع بشري إلا ووجدت فيه ظُلمة في العقل، تحجب عنه معرفة نفسه أولاً ومعرفة واقعه ثانياً. وهذا شيء تعجبت له كثيراً، لأنني في الطفولة كنت أعتقد أن الكبار أذكى مني، وأنهم حين يتجاهلون تعليقاتنا، إنما لأنهم يقولون أشياء جوهرية يمكنها أن تقلب موازين الكون. فلما كبرت، لم أجد في الكبار إلا البلاهة مُغلفة ببعض الجدية ومُحاطة بكبرياء زائف. ولم أجد الوعي إلا في الفلاسفة وهم قلة قليلة، وإذا كان أغلب البشر فيهم بلاهة مدسوسة، فإن تلك البلاهة ممتزجة بالشر، وهو شر لا يعون كونه شراً. وعندما تمتزج البلاهة بالشر، لا يعي البشري أن ظلمه للآخرين هو ظلم، ولا يعي أن عدوانه هو عدوان. فيكون شره بذلك مستطيراً. ولا ينبغي لنا إلا أن نواجه الظلم بالظلم والعدوان بعدوان أبلغ. لأن الأبله الشرير لا يرعوي بالمعاملة الأخلاقية بل بقسوة أكبر من قسوته وشراً أكبر من شره، وعنفاً أكبر من عنفه.
ولما كان الإنسان الواعي لا يرى في الشر والعدوان إلا إتضاعا وانحطاطا في الوعي، فإنه يسعى إلى النأي عن البشر، والابتعاد عن مخالطتهم. وهو بذلك يسعى إلى المستحيل، فإننا مهما امتلكنا الإرادة والعزيمة لننأى عن صحبة البشر ما استطعنا، ذلك أن الطبيعة أو القانون الكوني، جعلنا في حوجة بعضنا لبعض، فالخباز محتاج للسباك والسباك للطبيب والطبيب للعسكري والعسكري للإسكافي...وهكذا دواليك.
لقد رأى مسكويه في الاعتزال جبناً عن المواجهة، ورأى المعري عكس ذلك. وشاع عند العلماء والفلاسفة والمفكرين وكل أصحاب العقل المستنير أن في العزلة خير للآدمي، غير أنهم لم يردفوا قولهم باقتراح الأدوات اللازمة للعزلة دون مخاللة البشر الآخرين، فكان قولهم أماني شاعر، وحلم طفل، فهو قول رومانسي مخالف للواقع. ثم أن العديد من التوجهات نادت بمواجهة شر الإنسان بشر مثله أو أكبر منه، بعضها ديني وبعضها فلسفي مادي محض. وبعض الأديان نادت بعكس ذلك فقالت بأن من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وفلسفات أيضاً نحت ذات النحو المثالي ونادت بالخير الإنساني على نحو رومانسي. فسقط كلاهما في الوهم.
والحق أن مغالبة البشري للبشري حق وحقيقة لا مفر منها، كما أن التعاون لا فكاك منه. وأن الأجدى بصاحب البصيرة أن يُعمي بصيرته فينحط إلى مستوى الجهال عندما لا يعينه العقل، وأن يرتفع مع رصفائه من المتبصرين. وهذا عين العقل، والخلاصة في القول؛ هو الحذر والإرتياب المستمر، وعدم إطلاق الأحكام المتسرعة، وتبني سياسة النفس الطويل، والحذاقة أن ترى الشر الشراً فتواجهه بالشر والخير خيراً فتعززه بالخير. والله أعلم.
أ.ه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى