حاميد اليوسفي - الشر الذي لا بد منه.. قصة قصيرة

اللوحة الأولى : الحمد لله
لا بد أن يحمد الله ويشكره ، لأنه ليس شخصية مهمة أو إرهابية أو مزعجة لأحد ، حتى تخصص له العين التي لا تنام ميزانية ضخمة لمراقبته . ثم إنه لا يفعل شيئا خارجا عن القانون ، باستثناء بعض الانزلاقات الصغيرة ، كأن يشتم وزيرا ، أو برلمانيا في المقهى ، أو يحتج على قرار لا يعجبه ، أو يتهم رئيس مجلس بلدية بسرقة المال العام ، وهو لا يملك أي دليل غير الانتقال من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش في زمن قياسي .
قد يمارس إلى جانب ذلك قليلا من النميمة السياسية ، فينتقد بشكل دبلوماسي بعض السياسيين ، أو سلوك بعض القياديين في النقابة ، خوفا من انزعاج بعض أصدقائه القريبين أو البعيدين .
أحيانا يخبر هاتفه العزيز ، بأنه لم يبق في العمر إلا القليل ، لم يعد يكفي للبحث عن المال والشهرة ، أو عن المشاكل . لذلك فهو لا يخطط لثورة ، أو سرقة وكالة بنكية ، أو يفكر في ابتزاز جهة ما بأسرار تشكل خطورة على مستقبلها .

اللوحة الثانية : البداية
تعرف عليه في نهاية التسعينيات من القرن الماضي . كان يمر من أزمة اقتصادية خانقة . الأجر لا يسد الحد المتوسط من مصاريف الكراء والماء والكهرباء والغذاء والتطبيب والتنقل والأبناء . ورغم ذلك ، ضحى بجزء من الميزانية ، واشترى هاتفا نقالا جعله مشتركا مع زوجته . كم فرحا ذلك اليوم ، إلى درجة أنهما اشتريا حلوى للاحتفال بهذا الحدث السعيد ، ولو كانا ميسورين لذبحا كبشا ، وأقاما حفلا بالرقص والغناء ؟!
أصبح بإمكانهما الحديث مع أهلهما البعيدين بمئات الكيلومترات ، وفي أي وقت شاءا . كان يشعر بفرحة غامرة ، وهو يسمع صوت قريب ، أو صديق له وحشة ، وشوق في الحديث معه . تمنى لو كان يملك المال لشراء وقت أكثر من المكالمات . ثمانية دراهم للدقيقة . خمس دقائق أو ست بخمسين درهما ، من شدة الشوق ، تذوب بنت الكلب في رمشة عين .

اللوحة الثالثة : الأخوة
بعد ذلك أصبحت تمتلك هاتفك الخاص ، يرافقك في الطريق إلى العمل . يدخل معك إلى القسم . تطفئه وتضعه بجانب الحقيبة . يحرس ، ويصحح معك الامتحانات . ينام بقربك في سرير المستشفى .
يخرج بصحبتك ، ويجلس بجانبك في المقهى ، وتضع يدك في يده مثل عشيقين لن يفرق بينهما سوى الموت . يأخذ صورا لك وحدك ، أو مع أصدقائك ، وتنشرها في الفايس بوك . صديق انقطعت أخباره حوالي أربعين سنة ، يتصل في الخاص ، ويسأل عنك ، وتضربان موعدا في المقهى .
وعندما أُحِلت على التقاعد ، أصبح الصديق الوحيد الذي يُؤنس وحشتك ، ويٌلبي الدعوة كلما طلبت منه ذلك ، ويُجالسك لساعات طوال ، دون أن يشعر بالتعب ، أو الملل ، أو يتضايق منك .
تعودان متعبين إلى البيت . أينما جلست يجلس بجانبك . فتحت له حتى غرفة النوم . مكان واحد لا تدخلان إليه معا هو الحمام ، ربما خوفا عليه من البلل ، والاحتراق بفعل الماء ، أو البخار .

اللوحة الرابعة : بداية الخيانة
هل رأى أنك عندما تذهب عند الخضار ، لا تساومه كثيرا حول ثمن البطاطس والطماطم ؟ هل سمعك تحتج على أبو لحية ، مصلح الدراجات الذي يلبس الزي الأفغاني ، عندما طلب منك مبلغا خياليا مقابل إصلاح عجلة الدراجة ، فقط لأنه رآك مرارا تنفح الطاهر الذي يعمل معه ، من باب التضامن ، ببعض الدراهم الزائدة عن الثمن المحدد سلفا ؟!
وهل يسترق السمع أيضا عندما ترفع صوتك على محمد صاحب متجر المواد الغذائية القريب من المنزل ، لأنه تأخر في إرسال البوطاغاز إلى البيت .
لا بد أنه رآك ، وأنت تتابع النظر خلسة ، مثل بقية المارة ، لتلك المرأة التي تحرك ردفيها بغنج أنثوي ، وتتراقص في الرصيف الأيمن كأنها تمر أمام خيمة امرئ القيس ، وتريد منه ، أن ينشد قصيدة ، ويتغزل بجمالها الفتان ، ويذيع صيتها بين القبائل في كل أطراف هذه الصحراء .

اللوحة الخامسة : العداوة
وبعد كل هذا ، يقولون بأن هاتفك يا سيدي يستقبل خلسة كائنات غريبة وخفية ، يدعها تسرق أسرارك الصغيرة ، وتقدمها للأغراب . هاتفك يتجسس عليك ، وقد ينقل كلمات الود التي تغازل بها زوجتك ، أو الشتائم التي تتبادلنها حين تختصمان لأتفه الأسباب ، صوتا وصورة إلى من يهمهم الأمر .
يا للخيبة ! حتى أعز الأقارب والأصدقاء من لحمنا ودمنا ، لم نفتح لهم قلوبنا وبيوتنا بالكامل كما فعلنا معك ، ورغم ذلك طعنتنا في الظهر . لم نكن نقدر بأنك مجرد آلة صماء ، قادمة من كوكب آخر ، لا تحب ولا تكره . لا تحس بفرحنا ، ولا تشعر بألمنا .
الأسرار الصغرى لأي شخص هي ملك له وحده . هي ضرب من الجنون الذي لا يخص سواه . إنها مثل الصدفة في أعماق البحر ، تخفي تلك اللؤلؤة التي نسميها كرامة أو عزة نفس .
عندما تسرق الأسرار الصغرى لأي شخص ، كأنك تجرده من كل ملابسه ، وترغمه على الخروج عاريا إلى الشارع ؟
والآن بعد أن زال الغطاء ، وانكشف ما في الصدور . ماذا سنفعل ؟ هل نضرب بك الأرض ، ونعود إلى بداوتنا ؟
أنا لست قيس بن الملوح* ، وأنت لست ليلى العامرية* . انتهى كل شيء بيننا ، لم نعد أصدقاء كما كنا . لن تدخل غرفة النوم بعد اليوم . سأضع شريطا أسود من (اللصقة) على عينك كما يفعل القراصنة ، وسأغلق فمك إن شئت .
الآن كل شيء تغير . وما دمت شرا لابد منه ، سنحتاط ، ونحذر من بعضنا البعض ، ونمارس ما تبقى من اللعبة مثل الإخوة الأعداء .

الهامش :
ـ قيس بن الملوح : من الشعراء العشاق عاش في العصر الأموي (القرن الأول من الهجرة ) ، وخص كل شعره للتغزل بابنة عمه ليلى العامرية التي رفض أهلها أن يتزوجها ما دام قد تشبب بها في شعره وقد اسمر في هيامه حتى سموه بمجنون ليلى .
مراكش 23 يوليوز 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى