تستهدف هذه الدراسة مقاربة تشكلات المعمار السردي في القصة القصيرة، من خلال نموذج القاص السعودي فهد العتيق. وهكذا استطاع العتيق أن ينحت أسلوبًا قصصيًّا يتمرد على تقاليد البناء القصصي وكل جمالياته المعروفة والتقليدية.
عمارة السرد وشعرية النص الموازي
يشكل النص الموازي للمجموعتين «إذعان صغير…»(١) و«أظافر صغيرة وناعمة»(٢) نسق علامات يؤشر على التمثل الأيقوني للمتن، ولنصوص المجموعتين. فكأن العنوانين معًا يمثلان النسق الأيقوني للنص، ويحيلان على ما يشبه الواقع وهو ما أسماه بارث أثر الواقع، و«بعبارة أخرى يصبح نقص المدلول ذاته لصالح المرجع وحده، دال الواقعية بالذات»(٣). إننا أمام لغة تحاكي لغة القصة القصيرة من زاوية البساطة، الكثافة والإيجاز وقوة الرمز؛ وفي الآن نفسه تتشاكل مع لغة الطفولة والحلم.
وهكذا فبنية العنوان تؤسس تلك العلاقة الجدلية بين الداخل والخارج، كما يتجلى من خلال توزيع فضاءات ولحظات النصوص: البيت، الحجرة الدراسية، المسجد ومكتب الحقوق، ثم فضاءات الشوارع، وسطح المنزل وفضاءات أخرى تؤشر إلى اللامحدود. وهي مكونات معمارية تتجاوز البعد الجمالي إلى البناء والحفر في علاقة الذات بالعالم، وأنثروبولوجيا الأمكنة التي تتوزع بين الداخل والخارج، المنغلق والمنفتح، المحدد واللانهائي. ولقد جاء حضور مكون الحذف في العنوانين معًا، ليرسخ بناء هذه الدلالة لعمارة السرد التي تؤشر إلى أن النص الحديث الذي يشبه الواقع، لا يستنفد معناه وعمارته الخطابية. فهو نص يتمثل في عَدِّه ذاكرة تتوغل في عمق الأمكنة. ومن ثَمَّ هو نص منفتح على محتمل المعنى.
بناء معمارية السرد القصصي بين المغلق والمنفتح
تتشكل معمارية السردية القصصية في نصوص المجموعتين، انطلاقًا من التقابل بين ثنائيات الخارج والداخل، في تناغم وجودي مع جغرافية المحدود واللامحدود، المنفتح والمنغلق. إن النص الموازي كما يتمثل من خلال الكلمة النووية «صغير» ينتقل بنا إلى فضاء الحجرة الدراسية الذي يتجاذبه قطبان ينتظمان داخل نسقي الداخل/ الخارج. فنحن أمام توازٍ دلالي بين عالمين، داخل الحجرة وداخل الذات /خالد. وهكذا يكثف النص لحظة بسيطة تكشف حالة من حالات الطفولة. ومن هنا هذا التماهي بين الجنس الأدبي، واللحظة القصصية من جهة والطفولة من جهة أخرى. فالذات الساردة تعمد إلى تكثيف حالة سيكولوجية داخل نسق سردي. ولعل هذه الكثافة تحفر في ذاكرة اللغة وتستحضر الذات، والقلق الذي تعيشه داخل فضاء التوتر. وهذا ما يتجلى من خلال الانتقال من التبئير على الفضاء إلى التبئير الداخلي على شخصية خالد:
«في برودة الحجرة الدراسية المكتظة بالأطفال، الرؤوس المسترخية على الكراسي الخشبية، تبدو على وجهها ملامح كسل صريح. تختبئ خلف ستار ثقيل من الخوف والحزن…» (حصة رسم ص 3).
إن التناوب على التبئير بين المكان والشخصية يكشف التماهي الداخلي والفضاء بوصفه امتدادًا للذات الشخصية، كما أن التبئير على الفضاء ومكون الوصف، يتجلى من خلال المؤشرات المعمارية الخطابية: برودة/ صفراء/ كسل/ الخوف والحزن/ خطوط حمراء/ وجوه مشوهة/ اللوح الأسود. وهي مقومات سياقية ترتبط بأعماق فضاء الغرفة بوصفه امتدادًا للخارج حيث يهيمن التوتر والقلق. وهذا السفر الداخلي بين الذوات والفضاء يكشف بنية اللامتوقع، كما يظهر من خلال ظهور شخصية خالد، وظهور مكونات معمارية سردية جديدة وهي الطباشير، الفرشاة التي سيرسم بها وجه الأستاذ. وبذلك سيصبح السرد حلزونيًّا ينطلق من تفاصيل صغيرة، وهي حصة الرسم الرحم النصي، ليتحرر من انغلاقه كسرد دائري إلى معمارية منفتحة مثلما نستشف من خلال خطاب النهاية.
وإذا كانت بنية اللامتوقع تحفر في حدود تشكل النوع الأدبي، فإنها في نص «رجلان» تنهض بوظيفة أخرى ترتبط برمزية معمارية السرد، كالبياض الذي يتشاكل مع جماليات ثيمتَيِ الطفولة والذاكرة.
وهكذا ينبني المعمار السردي القصصي في المجموعتين على طبقتين: المتوقع واللامتوقع. فنص «لوحة تشكيل» يمثل امتدادًا واستعارة لجمالية المعمار السردي كما يظهر أيضًا من خلال قصة «حصة رسم».
إن النصوص التي تؤلف المجموعتين معًا، تتمرد على الحدود المفترضة للمحكي القصصي. فحفريات اللغة القصصية، تتجاوز الثنائية الضيقة الداخل/ الخارج، إلى تفكيك التداخل بينهما وبين الذوات والأجناس الأدبية، وذلك من خلال بناء معمارية سردية تستلهم لغة القصة القصيرة انطلاقًا من لغات التشكيل والشعر والسرد وسيرة الأمكنة. ففي النص الذي أشرنا إليه سابقًا، تسبر الذات الساردة بضمير الغائب لحظة تشكل وتشكيل معمارية المكان انطلاقًا من التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي تؤلف العالم والوجود (البيت الصغير، لحظة عابرة، لحظة ابتهاج صغيرة، هزة رعب صغيرة) ؛ إضافة إلى محاولة التوغل في سيرة الذات/ المرأة في المكان بوصفها لحظة وجودية يمتزج فيها الواقع بالخيال، الحقيقة بالمجاز،
الغرابة بالمألوف. بيد أن أبرز ما يمكن أن نستخلصه وهو علاقة الشخوص بالفضاءات والأمكنة كما نستشف من خلال نص «إذعان صغير». فاللحظة القصصية تنبني على رصد لحظة مثول السارد المشارك في الحكي صاحب سرب الحمام، وبين الجار المشتكي. فننتقل من عالم بسيط يرصد لحظة توتر بسيطة بين الجار والذات الساردة أمام المسؤول عن مكتب الحقوق المدنية، إلى عالم السلطة والعلاقة بين الأنا والآخر السلطة. وهذا التدرج من الصغير للدلالة على عالم أوسع وأكثر شسوعًا يتحقق على نحو خاص من خلال خواص تشكلات النوع القصصي. ويظهر أن الكبت والقمع الذي مارسه ممثل السلطة مكتب الحقوق المدنية، يحول اللحظة القصصية إلى حالة نفسية كما نعاين في قصة «حالة فصام». وهذا الكبت هو الذي جعل الذات تهرب من واقع السلطة مكتب الحقوق المدنية إلى متخيل الحلم بوصفه لا وعي النص. فنجد الحلم بمنزلة استباق لواقع اللحظة من أجل التحرر من القلق الذي يراود الذات. فيرى السارد- الشخصية أنه يبيع حمامه إذعانًا للسلطة وتجنبًا للمواجهة.
إن المجموعتين معًا تمثلان رصدًا للحظات الطفولة والذاكرة، ومختلف ترسباتها في لا وعي السارد. بيد أن هذه اللحظة المستلهمة من الواقع والذاكرة، تحملنا إلى المناطق الأشد غموضًا وغرابة في الذات بوصفها حالة نفسية، وسردية يصعب الإمساك بمعناها. فسارد النص السابق لم يعد يحكي بضمير المتكلم كما عهدنا في النصوص السابقة التي ترصد لحظة من تفاصيل الحياة والواقع كاشفة المفارقة، بل نجده كما في نص «حالة فصام» يحكي عن شخصية الزوج المُبَأَّرَة داخليًّا لسَبْر أغوارها النفسية في علاقتها بالخوف من الموت، وهاجس المرأة. فالذات الزوج وأستاذ العربية يجد نفسه هاربًا إلى النوم بوصفه الخيال والغرابة التي تمنحه حصانة وهروبًا من الواقع كما يتمثل من خلال رمزية فضاء الغرفة. وهي بداية الكشف عن هوية الشخصية من خلال الوظيفة مدرس النصوص العربية الثانوي والوصف/ رجل أصفر/ مولع بالشعر، وهي سمات تمنحه بعدًا غرائبيًّا. إن بداية التمفصل السردي المزدوح تكشف العلاقة بين المغلق فضاء الغرفة بوصفه استعارة للحالة النفسية للذات الزوج مدرس النصوص العربية، وبين المفتوح بوصفه فضاء التحرر من سلطة فضاء المغلق/ الغرفة، وما يرتبط بها من قلق نفسي وترسبات الطفولة المرتبطة بهاجس المرأة.
وهكذا فالقصة في مجموع المتون التي نقوم بمقاربتها، استلهام ضمني للغة الحلم: المجاز، والكثافة، والإيجاز، وسرعة الصورة وجذور الواقع.. وهو بالفعل ما يكشف عنه التبئير الداخلي على شخصية أستاذ العربية التي تحمل سمات الغرابة.
إن انفتاح النص القصصي الذي يميز المجموعتين معًا ليس سوى لعبة سردية، تهدف إلى هدم لغة السرد القصصي التقليدية، من أجل إعادة بناء العالم وترتيبه وفق عمارة السرد واستعارة الكتابة. فالسارد في هذه النصوص أركيلوجي يحاول اكتشاف وتفكيك ذاكرة اللغة وما تزخر به من سردية وغرابة، وهو بالضبط العالم الذي يستلهمه السارد في قصة «فوزان يقرأ الشوارع ليلًا». فالأم الحافز على بداية الحكي تمثل الأيقون اللغوي الذي يشكل مجاز الحكاية والأصول اللغوية في هذا النص. إنها الرحم اللغوي الذي تسقط منه حفريات القصة واللحظة القصصية ويوقع لمخاض الولادة:
«اسقيني يا أمي أو مدي لي من رائحة التراب، فأنا ماولت حفار قبر، وسائق تاكسي وصاحب جن، وطفل قبيلة…» (فوزان يقرأ الشوارع ليلاً). وهذا يعني أننا نجد في هذه النصوص كما هو الأمر للزوج المدرس، وشخصية فوزان، وشخصية التلميذ في «حصة رسم»، ورئيس مكتب الفرع الجديد والموظف نوعًا من الغرابة التي تتأرجح بين قطبي الخيال والواقع. إنها غرابة تولد من رحم الفضاءات التي تتحرك داخلها هذه الشخوص، والتي تجسد في الواقع أعماق الذات والقلق الذي يراودها في مواجهة غرابة ومفارقات العالم. فالغرفة في قصة «فوزان يقرأ الشوارع ليلاً» فضاء الخيال والحلم وهي التي تمنح العالم والشخصية الغرابة والمفارقة، فهي غرفة تعكس كوابيس واقعية؛ لذا يتساءل السارد حين يستيقظ فزعًا: «أين الجدار؟» فهي غرفة امتداد للعالم ورمزية الشارع/ العالم في غياب الأم حيث تعيش الذات حالة نفسية ترتبط بالعزلة والوحدة.
إن النصوص القصصية التي تؤلف المجموعتين، تمثل رصدًا وتتبع لغرابة وأسطورية الأمكنة، وتوغلًا في تفاصيلها الدقيقة. فالأمكنة كما نعاين من خلال قصة «الرحيق» تتقاطع مع الحلم والغرابة وتنفتح على ترسبات الطفولة وكوابيسها.
وهكذا تشكل الكتابة القصصية عند فهد العتيق أسلوبًا سرديًّا ينهض على بناء شعرية المعمار وهدم اللغة من أجل إعادة بنائها، انطلاقًا من ثنائيات الداخل/ الخارج المولدة لدوال الخطاب وجمالياته. فاللحظة القصصية تتقاطع مع الغرابة والحلم، وتستوحي من مجاز معمارية السرد بناءها الدلالي، معيدة تشكيل الواقع ضمن أنساق جمالية كاشفة في الآن نفسه سرديات الحياة والذاكرة.
الهوامش:
(١) فهد العتيق. إذعان صغير . الهيئة المصرية العامة للكتاب .القاهرة .1990م.
(٢) فهد العتيق. أظافر صغيرة وناعمة . النادي الأدبي. جدة . .1994م.
(٣) ج . المؤلفين. الأدب والواقع. ترجمة: محمد معتصم. مراجعة: محمد برادة. منشورات الاختلاف. 2003م. الرباط. ص
مجلة الفيصل
إبراهيم الكراوي / كاتب مغربي | نوفمبر 1, 2020
عمارة السرد وشعرية النص الموازي
يشكل النص الموازي للمجموعتين «إذعان صغير…»(١) و«أظافر صغيرة وناعمة»(٢) نسق علامات يؤشر على التمثل الأيقوني للمتن، ولنصوص المجموعتين. فكأن العنوانين معًا يمثلان النسق الأيقوني للنص، ويحيلان على ما يشبه الواقع وهو ما أسماه بارث أثر الواقع، و«بعبارة أخرى يصبح نقص المدلول ذاته لصالح المرجع وحده، دال الواقعية بالذات»(٣). إننا أمام لغة تحاكي لغة القصة القصيرة من زاوية البساطة، الكثافة والإيجاز وقوة الرمز؛ وفي الآن نفسه تتشاكل مع لغة الطفولة والحلم.
وهكذا فبنية العنوان تؤسس تلك العلاقة الجدلية بين الداخل والخارج، كما يتجلى من خلال توزيع فضاءات ولحظات النصوص: البيت، الحجرة الدراسية، المسجد ومكتب الحقوق، ثم فضاءات الشوارع، وسطح المنزل وفضاءات أخرى تؤشر إلى اللامحدود. وهي مكونات معمارية تتجاوز البعد الجمالي إلى البناء والحفر في علاقة الذات بالعالم، وأنثروبولوجيا الأمكنة التي تتوزع بين الداخل والخارج، المنغلق والمنفتح، المحدد واللانهائي. ولقد جاء حضور مكون الحذف في العنوانين معًا، ليرسخ بناء هذه الدلالة لعمارة السرد التي تؤشر إلى أن النص الحديث الذي يشبه الواقع، لا يستنفد معناه وعمارته الخطابية. فهو نص يتمثل في عَدِّه ذاكرة تتوغل في عمق الأمكنة. ومن ثَمَّ هو نص منفتح على محتمل المعنى.
بناء معمارية السرد القصصي بين المغلق والمنفتح
تتشكل معمارية السردية القصصية في نصوص المجموعتين، انطلاقًا من التقابل بين ثنائيات الخارج والداخل، في تناغم وجودي مع جغرافية المحدود واللامحدود، المنفتح والمنغلق. إن النص الموازي كما يتمثل من خلال الكلمة النووية «صغير» ينتقل بنا إلى فضاء الحجرة الدراسية الذي يتجاذبه قطبان ينتظمان داخل نسقي الداخل/ الخارج. فنحن أمام توازٍ دلالي بين عالمين، داخل الحجرة وداخل الذات /خالد. وهكذا يكثف النص لحظة بسيطة تكشف حالة من حالات الطفولة. ومن هنا هذا التماهي بين الجنس الأدبي، واللحظة القصصية من جهة والطفولة من جهة أخرى. فالذات الساردة تعمد إلى تكثيف حالة سيكولوجية داخل نسق سردي. ولعل هذه الكثافة تحفر في ذاكرة اللغة وتستحضر الذات، والقلق الذي تعيشه داخل فضاء التوتر. وهذا ما يتجلى من خلال الانتقال من التبئير على الفضاء إلى التبئير الداخلي على شخصية خالد:
«في برودة الحجرة الدراسية المكتظة بالأطفال، الرؤوس المسترخية على الكراسي الخشبية، تبدو على وجهها ملامح كسل صريح. تختبئ خلف ستار ثقيل من الخوف والحزن…» (حصة رسم ص 3).
إن التناوب على التبئير بين المكان والشخصية يكشف التماهي الداخلي والفضاء بوصفه امتدادًا للذات الشخصية، كما أن التبئير على الفضاء ومكون الوصف، يتجلى من خلال المؤشرات المعمارية الخطابية: برودة/ صفراء/ كسل/ الخوف والحزن/ خطوط حمراء/ وجوه مشوهة/ اللوح الأسود. وهي مقومات سياقية ترتبط بأعماق فضاء الغرفة بوصفه امتدادًا للخارج حيث يهيمن التوتر والقلق. وهذا السفر الداخلي بين الذوات والفضاء يكشف بنية اللامتوقع، كما يظهر من خلال ظهور شخصية خالد، وظهور مكونات معمارية سردية جديدة وهي الطباشير، الفرشاة التي سيرسم بها وجه الأستاذ. وبذلك سيصبح السرد حلزونيًّا ينطلق من تفاصيل صغيرة، وهي حصة الرسم الرحم النصي، ليتحرر من انغلاقه كسرد دائري إلى معمارية منفتحة مثلما نستشف من خلال خطاب النهاية.
وإذا كانت بنية اللامتوقع تحفر في حدود تشكل النوع الأدبي، فإنها في نص «رجلان» تنهض بوظيفة أخرى ترتبط برمزية معمارية السرد، كالبياض الذي يتشاكل مع جماليات ثيمتَيِ الطفولة والذاكرة.
وهكذا ينبني المعمار السردي القصصي في المجموعتين على طبقتين: المتوقع واللامتوقع. فنص «لوحة تشكيل» يمثل امتدادًا واستعارة لجمالية المعمار السردي كما يظهر أيضًا من خلال قصة «حصة رسم».
إن النصوص التي تؤلف المجموعتين معًا، تتمرد على الحدود المفترضة للمحكي القصصي. فحفريات اللغة القصصية، تتجاوز الثنائية الضيقة الداخل/ الخارج، إلى تفكيك التداخل بينهما وبين الذوات والأجناس الأدبية، وذلك من خلال بناء معمارية سردية تستلهم لغة القصة القصيرة انطلاقًا من لغات التشكيل والشعر والسرد وسيرة الأمكنة. ففي النص الذي أشرنا إليه سابقًا، تسبر الذات الساردة بضمير الغائب لحظة تشكل وتشكيل معمارية المكان انطلاقًا من التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي تؤلف العالم والوجود (البيت الصغير، لحظة عابرة، لحظة ابتهاج صغيرة، هزة رعب صغيرة) ؛ إضافة إلى محاولة التوغل في سيرة الذات/ المرأة في المكان بوصفها لحظة وجودية يمتزج فيها الواقع بالخيال، الحقيقة بالمجاز،
الغرابة بالمألوف. بيد أن أبرز ما يمكن أن نستخلصه وهو علاقة الشخوص بالفضاءات والأمكنة كما نستشف من خلال نص «إذعان صغير». فاللحظة القصصية تنبني على رصد لحظة مثول السارد المشارك في الحكي صاحب سرب الحمام، وبين الجار المشتكي. فننتقل من عالم بسيط يرصد لحظة توتر بسيطة بين الجار والذات الساردة أمام المسؤول عن مكتب الحقوق المدنية، إلى عالم السلطة والعلاقة بين الأنا والآخر السلطة. وهذا التدرج من الصغير للدلالة على عالم أوسع وأكثر شسوعًا يتحقق على نحو خاص من خلال خواص تشكلات النوع القصصي. ويظهر أن الكبت والقمع الذي مارسه ممثل السلطة مكتب الحقوق المدنية، يحول اللحظة القصصية إلى حالة نفسية كما نعاين في قصة «حالة فصام». وهذا الكبت هو الذي جعل الذات تهرب من واقع السلطة مكتب الحقوق المدنية إلى متخيل الحلم بوصفه لا وعي النص. فنجد الحلم بمنزلة استباق لواقع اللحظة من أجل التحرر من القلق الذي يراود الذات. فيرى السارد- الشخصية أنه يبيع حمامه إذعانًا للسلطة وتجنبًا للمواجهة.
إن المجموعتين معًا تمثلان رصدًا للحظات الطفولة والذاكرة، ومختلف ترسباتها في لا وعي السارد. بيد أن هذه اللحظة المستلهمة من الواقع والذاكرة، تحملنا إلى المناطق الأشد غموضًا وغرابة في الذات بوصفها حالة نفسية، وسردية يصعب الإمساك بمعناها. فسارد النص السابق لم يعد يحكي بضمير المتكلم كما عهدنا في النصوص السابقة التي ترصد لحظة من تفاصيل الحياة والواقع كاشفة المفارقة، بل نجده كما في نص «حالة فصام» يحكي عن شخصية الزوج المُبَأَّرَة داخليًّا لسَبْر أغوارها النفسية في علاقتها بالخوف من الموت، وهاجس المرأة. فالذات الزوج وأستاذ العربية يجد نفسه هاربًا إلى النوم بوصفه الخيال والغرابة التي تمنحه حصانة وهروبًا من الواقع كما يتمثل من خلال رمزية فضاء الغرفة. وهي بداية الكشف عن هوية الشخصية من خلال الوظيفة مدرس النصوص العربية الثانوي والوصف/ رجل أصفر/ مولع بالشعر، وهي سمات تمنحه بعدًا غرائبيًّا. إن بداية التمفصل السردي المزدوح تكشف العلاقة بين المغلق فضاء الغرفة بوصفه استعارة للحالة النفسية للذات الزوج مدرس النصوص العربية، وبين المفتوح بوصفه فضاء التحرر من سلطة فضاء المغلق/ الغرفة، وما يرتبط بها من قلق نفسي وترسبات الطفولة المرتبطة بهاجس المرأة.
وهكذا فالقصة في مجموع المتون التي نقوم بمقاربتها، استلهام ضمني للغة الحلم: المجاز، والكثافة، والإيجاز، وسرعة الصورة وجذور الواقع.. وهو بالفعل ما يكشف عنه التبئير الداخلي على شخصية أستاذ العربية التي تحمل سمات الغرابة.
إن انفتاح النص القصصي الذي يميز المجموعتين معًا ليس سوى لعبة سردية، تهدف إلى هدم لغة السرد القصصي التقليدية، من أجل إعادة بناء العالم وترتيبه وفق عمارة السرد واستعارة الكتابة. فالسارد في هذه النصوص أركيلوجي يحاول اكتشاف وتفكيك ذاكرة اللغة وما تزخر به من سردية وغرابة، وهو بالضبط العالم الذي يستلهمه السارد في قصة «فوزان يقرأ الشوارع ليلًا». فالأم الحافز على بداية الحكي تمثل الأيقون اللغوي الذي يشكل مجاز الحكاية والأصول اللغوية في هذا النص. إنها الرحم اللغوي الذي تسقط منه حفريات القصة واللحظة القصصية ويوقع لمخاض الولادة:
«اسقيني يا أمي أو مدي لي من رائحة التراب، فأنا ماولت حفار قبر، وسائق تاكسي وصاحب جن، وطفل قبيلة…» (فوزان يقرأ الشوارع ليلاً). وهذا يعني أننا نجد في هذه النصوص كما هو الأمر للزوج المدرس، وشخصية فوزان، وشخصية التلميذ في «حصة رسم»، ورئيس مكتب الفرع الجديد والموظف نوعًا من الغرابة التي تتأرجح بين قطبي الخيال والواقع. إنها غرابة تولد من رحم الفضاءات التي تتحرك داخلها هذه الشخوص، والتي تجسد في الواقع أعماق الذات والقلق الذي يراودها في مواجهة غرابة ومفارقات العالم. فالغرفة في قصة «فوزان يقرأ الشوارع ليلاً» فضاء الخيال والحلم وهي التي تمنح العالم والشخصية الغرابة والمفارقة، فهي غرفة تعكس كوابيس واقعية؛ لذا يتساءل السارد حين يستيقظ فزعًا: «أين الجدار؟» فهي غرفة امتداد للعالم ورمزية الشارع/ العالم في غياب الأم حيث تعيش الذات حالة نفسية ترتبط بالعزلة والوحدة.
إن النصوص القصصية التي تؤلف المجموعتين، تمثل رصدًا وتتبع لغرابة وأسطورية الأمكنة، وتوغلًا في تفاصيلها الدقيقة. فالأمكنة كما نعاين من خلال قصة «الرحيق» تتقاطع مع الحلم والغرابة وتنفتح على ترسبات الطفولة وكوابيسها.
وهكذا تشكل الكتابة القصصية عند فهد العتيق أسلوبًا سرديًّا ينهض على بناء شعرية المعمار وهدم اللغة من أجل إعادة بنائها، انطلاقًا من ثنائيات الداخل/ الخارج المولدة لدوال الخطاب وجمالياته. فاللحظة القصصية تتقاطع مع الغرابة والحلم، وتستوحي من مجاز معمارية السرد بناءها الدلالي، معيدة تشكيل الواقع ضمن أنساق جمالية كاشفة في الآن نفسه سرديات الحياة والذاكرة.
الهوامش:
(١) فهد العتيق. إذعان صغير . الهيئة المصرية العامة للكتاب .القاهرة .1990م.
(٢) فهد العتيق. أظافر صغيرة وناعمة . النادي الأدبي. جدة . .1994م.
(٣) ج . المؤلفين. الأدب والواقع. ترجمة: محمد معتصم. مراجعة: محمد برادة. منشورات الاختلاف. 2003م. الرباط. ص
مجلة الفيصل
إبراهيم الكراوي / كاتب مغربي | نوفمبر 1, 2020