شعرَ عيسى أنه عاشق. كان يستمع اليها بشغف، رغم أنه لا يفقه من اللغة الانكليزية شيئا، فالدرس كان يشكل عنده عقدة ازلية، لم ينجح قط الا بمعجزة تضعه على حافة النجاح، فيعبر الى الصف التالي بالدور الثاني. كلماتها الانكليزية تنطلق من فمها المستدير عبر شفتيها المكتنزة بالون الوردي الخفيف، وتتجه الى قلبه مباشرة. حاول ان يغمض عينيه لكنهما لم يرمشا للحظة أمامها. بدأت كلماتها تخترق اذنيه كلما اقتربت منه، حاول ان يبعد عينيه ويدير رأسه لكنه كان مهوسا مركزا مشدودا بكل عنفوانه اليها، وكل عضو في جسده استسلم لصوتها ورفض ان يخضع لإرادته، كما في الحلم، مبتسما وسعيدا، وخائف ان يصحى من لذة الحب بكل جماله.
رنْ جرس انتهاء درس الانكليزي، وعيناه تودعها وعقله ينطق باسمها (غدير..غدير..غدير) انشودة صامته ملكت كل جوانحه، وهي تراقص قلبه الصغير. لأول مرة منذُ خمس سنوات من الحرب مع اللغة الانكليزية، لم ينتهِ الدرس ويمر الوقت بهذه السرعة، ولم يشتق الى الانكليزي بهذا الشوق العجيب. أصبح ينتظر الدرس المقبل بلهفة لا توصف.
لملم عيسى نفسه والشوق يضنيه للقيام بحركة لم يفعلها سابقا، هو رؤيتها في قاعة استراحة الاساتذة، وفي الصفوف الاخرى التي تلقي بها دروسها، وفي يوم الخميس عند رفعة العلم كان يقف ورائها أينما تقف يحاول ان يشم عطرها او ينتظر ان تمس أي جزء من جسمه وهي ترتب طلبتها للوقوف. واخيرا عشق الانكليزي كما يعشقها، وبدأ يقرأ ويركز في كل شيء تردده، وابتعد عن كل من يؤخره عن الدرس، يحفظ بنهم ليكون اول من يحدثها عسى أن يصل الى قلبها كطالب مجتهد ومتميز في نطق اللغة، أو الى رضاها كحبيب.
كان عيسى طالبا قويا غير ملتزم بالدوام وعنيد وطويل الشكل وضخم الراس والجسد بشكل حاد، وجه صافي ابيض، وشعره اسود يلمع في رأسه، تهابه الطلبة وتبتعد عنه خوفا من ضربته التي لا تثنى، وكان ينصر الفقير ويقف ضد الاساتذة الذين يأخذون الدروس الخصوصية من اجل ان ينجح من لا يستحق النجاح، فالمدرس المتهاون في الدرس والقاسي على طلبته، كان "عيسى" له بالمرصاد ويفضحه بالصوت العالي، وبالشكاوى المتكررة لمدير المدرسة والمشرفين عليها، حتى إدارات التعليم لم تخلص من كثرة الشكاوي التي يقدمها بالدليل عن الفاسدين من المدرسين.. يوما ساومه مدرس اللغة الانكليزية في ان ينجحه اذا ما سكت.. فقال له عيسى:
- انا كسلان في الدرس (الانكليزي) واكرههُ كما اكره هذه المساوة القذرة من رجل التعليم.. نعم ارسب ولا اريد ان انجح بالوساطة او مقابل مبالغ حقيرة من المال. ألا ترى ان اغلب الأطباء والمهندسين اغبياء بسبب النجاح المجاني، حتى من تبوء منصبا مهمة في الدولة، كان يشار اليه من قبلكم : كان هذا طالبا فاشلا ونجح (بالفلوس) واليوم يحكمنا، وهو اغبى الاغبياء. الم تقولوا ان الطبيب اذا اخطأ يقتل مريضهُ، ولكن السياسي اذا اخطأ يقتل شعبا كاملا.. ايها الفاسدون البلد يحتاج الى علماء لا الى فاسقين. الغريب في أمره كان لا يستجيب الى الخطأ او الى أي نوع من انواع الحرام. لكن في الحب اصبح هائماً، لم يردعه رادع.
حاول مرة ان يصارحها اثناء الدرس، وباللغة الانكليزية انه يحبها بجنون، وانه لا يطيق فراقها، فقد استعان بمعاجم اللغة كي يحفظ نص الحب بالإنكليزية. ولكن كان قلبه يخفق كلما وقف امامها تنشل حركته تماماً، فلم يجد ما يقوله، وهي تنظر في عينيه وتضحك من عيونها وتبتسم بشفافية، كأنها تعلم أنه يلاحقها. والطلبة ينظرون اليه بفضول رغم انه لم يفصح عما في داخلهِ لاحد مطلقاً. ناداهُ احد اصدقائه لكنه لم يجب ولم ينظر اليه، وخرج من الدرس مسرعا، وكان يسال نفسه :
- هل هناك خطأ في تصرفي او في شكلي..؟. لماذا تنظر اليّ بهذا الفضول..؟ لماذا الطلبة ينظرون اليّ بهذه الجرأة بغير عاداتهم..؟ هل وقوفي الى جانبها فضحني..؟
شعر عيسى أنه عصبي المزاج. يبحث عن قرار حاسم لهذا العشق الذي ملك قلبه، حاول اللجوء الى اللعب مع فريق منطقته الشعبية. أن يلعب معهم بكل عنفوانه وطاقاته، عند كل مشكلة يصادفها، وكان الفريق الذي يلعب ضده يعرفون طبعهُ الحاد والقاسي في اللعب، لكنهم لا يعرفون الان ماذا في قلبه من العشق، الكرة التي كانت لا تفارق رجليه، الان تفلت منه واحيانا يسقط على الارض دون ان يتعارك او يظهر العنف ضد خصمه. وفي الليل يلجأ الى تصليح كل عطلات البيت عندما يجافيه النوم يعمل بلا وعي حتى بزوغ الفجر، يريدها ان تخرج من عقله وقلبه. وتشبع بالهم والعشق. ورغم أن وحدة الليل المظلمة تفقد الاشياء حدودها، هو يصبح في هذيان مختلف، فتختلط الامور في عقله الظاهر والباطن بغرائز غريبة وعجيبة، احيانا شيطانية تريح الجسد والنفس، وأحياناً لوامة تقلق الضمير الفتي، لأنها خارج الحدود المشرعة في القانون الالهي، ومن المعيبات التي لا يعلنها الانسان علنا بل يخفيها كلذة موقته وزائلة. لكن عيسى وجد هذا الليل الطويل نفسه تصارع القيم والمثل العليا، من الصعب عليه التركيز في شيء الا وكانت –غدير- هي من أولويات قلقلة. ظل يرتجف من فكرة مواجهتها وإعلان حبه لها. أرتعش جسده من فكرة مصارحتها علناً.
اليوم سيكون الاعلان الاقوى في الحياة، رمى كل ما في يديه، وغسل وجهه بسعادة عامرة، ذهب من فوره الى أمه وقبلها من جبينها، ولكن تردد في الاعتراف لها، وطلب منها ان تعد له الحليب الممزوج بزيت الزيتون، كان يحب هذا الفطور في الصباح. تناول مجموعة كتبهِ ووضع كتاب الانكليزي في مقدمة كتبه بعد ان اغرقهُ بسيل من القبلاتِ. هكذا نشأت رابطة غامضة بينه وبين الانكليزي، وحينما يمر يوم دون درس الانكليزي لم يعد يوما مهما بالنسبة له، وحقيقة هذا التحول هو رؤيتها، فأن لم يَرَها كان يحس أن شيئا قد ضاع منه، وفي بعض الايام كان يبحث عنها في قاعات الدروس، مجرد رؤيتها تنطفئ نار شوقه المحرقة، وبنفس الوقت كانت "غدير" تتغنج حين تراهُ وتفتح باب القاعة على مصراعيه لكي تنعم عليه بالنظر اليها.
عجبا على هذا التغيير بالأمس كان الانكليزي عدوا لدودا، واليوم مميزا في كل شيء. حتى طريق المدرسة البعيد والممل اصبح جميلا لروحه، فهي تقع على اطراف المدينة عند مدخل لغابة من البساتين يقابلها نهرٌ هو امتداد لنهر الفرات المعروف في التاريخ، هذا النهر الذي لم يشرب منه المعصوم واستشهد منحورا، ينظرهُ الفرات وهو يبكي لعطش اعظم شخصية دينية على ارض البسيطة، لم يستطع ان يرويه من مياهه العذبة. نظر "عيسى" للنهر هذه المرة بفرح عارم وهو سائر بعجالة نحو المدرسة، وقرب السواتر الترابية للنهر لاحظ كالمعتاد ان بعض اصدقائه جاءوا قبله وهم يجلسون على حافته يدخنون سكائرهم قبل العبور الى المدرسة، نظر اليهم باهتمام خاص، بل بفضول. ثم توقف قليلا وبصق عليهم مبتسماً، احس الجميع من منظره القاسي بالخوف من ان يهجم عليهم ويلقيهم في النهر كما اعتاد على ذلك كلما غضب، لكن عيسى واصل سيره باتجاه المدرسة رافعا راسه محدقا امامه لا يهتم لمن حوله ولم يلقِ التحية على احد من الطلبة او الاساتذة، حتى وصل باب غرفة جلوس التدريسين، فجأة وقف وجفل حين سمع صوتها يناديه باسمه: صباح الخير يا عيسى.
تخربط وضعه، ولا يعرف كيف يتصرف، ثم انحى عدة مرات كي يحدثها بما يجول في خاطره.. قالت:
- عيسى هل تسير أمورك جيدا..؟ ماذا يشغلك ولماذا انت هنا..؟
لم يجب عيسى مباشرة. كان وضعه المتهور والمنهار يساعده على الوقوف امامها بتحدي غريب وقوة متناهية، رفع التكلف والاحترام بين الاستاذ والطالب. فجأة أمسك بيدها:
- غدير أنا احبك واريد ان اتزوجك ولا يهمني فارق العمر ولا ماضيك.
حاولت غدير ان تسحب يدها، كانت في صدمة غير متوقعة، وقلبها بدأ يخفق، ولم تجد ما تقوله في لحظة اعترافه، سوى سؤالها المباشر.
- عيسى هل يعرف احد من الطلبة انك تحبني..؟ هل تحدثت الى شخص ما ..؟ وابتسمت كالأطفال من اضطرابه وهي تشعر ان قلبه يرقص فرحا لهذا الاعتراف.
تغير صوت عيسى من حاد وعصبي الى صوت منتحب وهو يتراجع امام جمال عينيها الشهباء ورموشها الحادة كالنبال، وشفتيها المتوردة وهي تبتسم كأنها استقبلت كل كلمة وانها ايضا تحبه بنفس الجنون.. فتكلم بإشارات يديه التي لم تستقر، واصوات التي تخرج من فمه غريبة لا تصل الى سمعها بمنطق صحيح. نظر حوله، وحدق في وجهها، فخرجت الكلمة – لا - من فمه بصعوبة.
كانت نظراتها له ترعبه، ولكن قلبه كان يقول انها قبلته، فتمالكه عطرها واحس برائحتها تنفذ اليه برغبات جامحة، وهي تشله بعينيها اللتين التمعتا عند سؤالها له، ارتجف جسده من احتمال ان تقبلهُ، ورغبته تشدد اليها، لكنها أشاحت بوجهها عنه. بعد دخول الاساتذة الى الغرفة. فقالت:
-عيسى اذهب الى الدرس ولا تتحدث الى احد حول موضوعنا الخاص وسأقول لك فور وصولي الى قرار في شأن قضيتك.
غادر عيسى غرفة المدرسين، وهو ممتلئ بالإحساس الرائع الذي ساوره وهي تمنحه فرصة لولادة ذلك الحب، وفكرة انها تحبه مسيطرة على عقله، حين وصل الدرس تعثر عند الباب، وارتفع عزمه ورغبته في الاستماع الى الدرس. في خضم هذا التوهج رمى كتبه على مقعد الجلوس بفرح وفرك عينيه التي امتلأت بالدموع، توقف عنده الزمن حتى انه لم يستطع الكلام او البكاء.
كان يومه طويلا وخاليا من الدرس الانكليزي. كلما اشتاق لها وهنت قواه وأزداد حبا، وهكذا نما احساس بعدم رفضه. كانت طريقة حديثها رضا مطلق له، ربما بصيغة سؤالها عن حديثه مع الطلبة وملامسة يدها والاحساس برائحة انفاسها، جعله يغمض عينيه ليعيش في جو خيال ابتسامتها، ونظراتها، ومفاجئة قبولها له كحبيب وعاشق وزوج مستقبلي. كانت تلك الافكار جزءا من خياله الذي خلقه لنفسه، واكمل به قدرته بالاعتراف المباشر للحب دون مقاومة او رفض مؤثر منها. لكن ما هو القرار الذي ستقوله..؟ هنا المفارقة فقد أثرت هذه الكلمة به، فحلق في أجواء التصوُّر الحالم، منتظرا مصيراً وضع نقاطه بشجاعةٍ لا يُلام عليها المرء حين يحبُّ فيسرف في حبّه، أو يهوى فيشتدُّ به الهوى. قد يظهر العاشق في مظهر المحب الغاضب احيانا من أجل فرصة حقيقة يعلنها فتضعهُ في الطريق الصحيح لأحلامه. فالحقيقة أمامه أن الاستاذة والطالب يقتربان من بعضهما بسرعة رهيبة، بالرغم من انهما لم يعرف أحدهما الآخر الا من خلال درس الانكليزي، وهما يتبادلان بعض الاشارات الانسانية المفعمة بالطف والمجاملة، وبعض الحركات التي تدل على الاعجاب المتبادل من خلال الدرس فقط، رغم تقاطع طريقهما وفارق العمر بينهما. والآن بعد الاعتراف لها بالحب وقبولها المرتبك له. يسقط فارق السن ويلتقي الاختلاف في نقطة ساكنة في القلب اسمها العشق.
تولد لديه أحساس بأنه وضع حياته تحت رحمة الانتظار، وأستمر حاله على هذه الشاكلة من القلق والظن، وبنفس الوقت يعيش فترات من الثقة والمتعة تتخللها عدم الاحتمال على الصبر فتهيج ألامه من الفراغ والانتظار المقلق، لا دروس تؤثر فيه ولا توبيخ الاساتذة يسمعه وما يثير فضول من يراه صمته ورباطة جأشه التي لم يعتد عليها الطلبة والاساتذة، فهو قلما يصمت داخل الصف المدرسي دون ان يشاغب او يعترض او يتساءل بسخرية، والعجيب أنه منتصب باستقامة في جلسته لا يكاد يسمع له صوتٌ او حركةٌ فقط عيناه شاخصتان نحو الباب، فحلمه الخرافي يفوق الدرس وما فيه. عيناه تلتمعان، ونظراته تدل على الانتظار وكأنه فزاعة تخيف من حولها، وعقله مشوشا وافكاره موجهة الى هدف واحد. ودقيقة بعد دقيقة كان داخله يشتعل ناراً. وأختفى خوفه حين ظهرت امام الباب تستأذن، زميلها المدرس كي تحدث " عيسى" خارج الصف لشأنٍ مهم.
انطلق "عيسى" الى الخارج كالصاروخ، ووقف أمامها كأي جندي مستجد في ساحات التدريب. كان يجد صعوبة في الكلام معها بحرية. فالجبن والولاء الغامض لها اشتركا معا في صنميته المؤقتة. كسرت صمته وهي تشع رغبة في دعوته الى وجبة غداء في بيتها بعد انتهاء الدوام الرسمي. مؤكدة عليه أن ينتظرها خارج المدرسة، وأن لا يتحدث عن دعوتها اليه لأي شخص مهما كان..
السعادة التي شعر بها كانت هستيرية، فيها نوع من الجاذبية الجمالية صعبة التحليل، كان يجري هنا وهناك بين كراسي الصف وكأنه طفل في -مدينة الملاعيب- يتردد في اختيار شيء يلعب به ولا يرغب باستبعاد الاشياء الاخرى وينتهي به المطاف في تقبيل كل من يجلس عنده حتى استاذ المادة لم يسلم من قُبلة "عيسى" القوية. كان الدرس طويلا لا يريد ان ينتهي وجرس الاستراحة النهائي لم يعد يعمل. فلقد أكتشف في نفسه بطولات شهوانية كبتها طويلا للملذات. لهذه الاسباب كانت عيناه تلمعان، فبدأت تعابير وجهه تكشفه، وهي تجف على شفتيه بسبب نظرات الطلبة من حوله، كانت تنم عن عدم الفهم او شكاً في أمر خطير يخفيه في قلبه. وراح يحتضن دعوتها المفاجئة بسعادة يشوبها خيال جامح فهو امام مغامرة عاطفية لم يحسب لها حساب، ووحش الغريزة بدأ يزأر بكل خيالاته. أنها فرصة لا تتكرر، فشحذ لها كل عصب بجسمه، وراح يرتب للقاء الموعود مخيلته الخصبة، قانعاً نفسه بأن الامر طبيعي وان كان قبل الزواج، فالحب والرغبة لا ينتظران دون تفريغ القوة المسكونة في عمق الانسان وتفجيرها كثورة جنسية عارمة. وعند النظر الى وجوه اصدقائه في الصف كان متأكداً من أنهم لم يعرفوا شيئا عن الحب والجنس، ولكن لكل منهم حياته الخاصة التي لا تخلو من الجنس المفرط. اللاشعور لديه كان منشغلاً، وأعماق اعماقه يعيش فرحة مع توقعات بمغامرة غرامية فريدة من نوعها. وأهم من كل ذلك انتصر في اختراق قلبها وباقي الامور ستكون سهلة وسيحقق الخيال ويجعله حقيقة.
فحص ساعته، لم يبق منه الا قليلاً، فقد دق جرس الانصراف، فوجدها تنتظره مبتسمة ما زادت من بهجته وشجاعته. قال في نفسه: مثل هذا الحب لا يتحقق صدفة الا في حالات نادرة. ابتسم ابتسامة عريضة وهو ينظر اليها بطرف عينه الى وجهها الملائكي. وحين انتبهت عليه قالت:
- اليوم سأكسر قاعدة رجوعي للبيت من أجلك يا "عيسى"، سأخذ تكسي. هيا اوقف لنا تكسي!.
تصعقه الفكرة فجأة، واوقف سيارة وركبا بصمت وظل يختلس النظرات عبر زجاج السيارة، وهو يردد "كل شيء حسن اذا كانت النهاية حسنة". الا أن الامر مختلف فقد وجد نفسه وحده محصوراً في البيت معها وهي تضع حقيبتها على المنضدة وتقول له: خذ راحتك البيت بيتك، فقط أغير ملابسي وأعد وجبة الغذاء. في هذه اللحظة اصبح ضعيفاً، فقد هزته فكرة ان يكونا وحدهما تحت سقف واحد. لماذا لم يسألها؟ هل هي وحدها ام لديها عائلة؟. أجاب نفسه بسؤال ما هو الداعي لهذا الخوف الخرافي والمعاناة فهي استاذة شريفة وأنا عشيقها. ظلت عيناه تجول في كل اركان البيت. بدأ ذهنه يصفى ونفسه تهدأ، شعر بحماس ان يكون انسانا صالحا وأن يبعد عن ذهنه غرائزه الشيطانية فالمرأة جميلة وبريئة وتحبه كما يحبها.
جاء صوتها بجمال تغريده بُلبليه : بعد قليل سيكون الأكل جاهز. ولكن ما أن أكملت جمُلتها حتى دق جرس الباب ثلاث دقات متتالية. فأردفت قائلة: أفتح الباب يا "عيسى" لكنه لم تسعفه قدميه ان يصل الى الباب الا بشق الانفس فقد ركبه الخوف من رأسه حتى اخمص قدميه.
فتح "عيسى" الباب لتقابله النسخة الثانية لـ"غدير" لولا صغر سنها ما فرق بينهما. بادرته بالسلام عليكم يا "عيسى" . تجمد في دمه وهي تدخل الى البيت بهذا الهدوء وهي تعرفه حق المعرفة. المفاجئة التي افقدته صوابه هو دخول رجل في غاية الاناقة وهو مبتسم. عيسى اصبح صنم رخامي يراقب المشهد بأعصاب مشدودة وعلى وجهه علائم الخوف. فبادره الرجل بكل كياسة ودماثة خلق:
- أنا المحامي حسين زوج غدير وهذه ابنتنا "عبير" ولنا الشرف وانت تشاركنا طعامنا.
وجد عيسى نفسه في مصيدة، وبدأ يتململ في محاولة لا يجاد طريقة يحرر نفسه من هذا الوضع الحرج. لكن المحامي شجعه على الكلام بصيغ الترحيب مما ساعده على ان يستجمع شجاعته. جاء صوت "غدير" بدعوتهم الى طاولة الطعام. وهو يبذل جهداً للسيطرة على نفسه. وجميع من بالبيت يحاولون أن يرجعونه الى توازنه الطبيعي بإظهار احترامهم له وحديثهم عن القيم الاجتماعية والثقافية والتغيرات التي طرأت عليه بواسطة مُدرسته "غدير" وكان يصغي لما يقوله المحامي بأصغاء ذهني فالهدف الجديد لعيسى هو كيف يأخذ صك حريته من هذا الاحراج الذي لا يعرف كيف ستكون نهايته...
رنْ جرس انتهاء درس الانكليزي، وعيناه تودعها وعقله ينطق باسمها (غدير..غدير..غدير) انشودة صامته ملكت كل جوانحه، وهي تراقص قلبه الصغير. لأول مرة منذُ خمس سنوات من الحرب مع اللغة الانكليزية، لم ينتهِ الدرس ويمر الوقت بهذه السرعة، ولم يشتق الى الانكليزي بهذا الشوق العجيب. أصبح ينتظر الدرس المقبل بلهفة لا توصف.
لملم عيسى نفسه والشوق يضنيه للقيام بحركة لم يفعلها سابقا، هو رؤيتها في قاعة استراحة الاساتذة، وفي الصفوف الاخرى التي تلقي بها دروسها، وفي يوم الخميس عند رفعة العلم كان يقف ورائها أينما تقف يحاول ان يشم عطرها او ينتظر ان تمس أي جزء من جسمه وهي ترتب طلبتها للوقوف. واخيرا عشق الانكليزي كما يعشقها، وبدأ يقرأ ويركز في كل شيء تردده، وابتعد عن كل من يؤخره عن الدرس، يحفظ بنهم ليكون اول من يحدثها عسى أن يصل الى قلبها كطالب مجتهد ومتميز في نطق اللغة، أو الى رضاها كحبيب.
كان عيسى طالبا قويا غير ملتزم بالدوام وعنيد وطويل الشكل وضخم الراس والجسد بشكل حاد، وجه صافي ابيض، وشعره اسود يلمع في رأسه، تهابه الطلبة وتبتعد عنه خوفا من ضربته التي لا تثنى، وكان ينصر الفقير ويقف ضد الاساتذة الذين يأخذون الدروس الخصوصية من اجل ان ينجح من لا يستحق النجاح، فالمدرس المتهاون في الدرس والقاسي على طلبته، كان "عيسى" له بالمرصاد ويفضحه بالصوت العالي، وبالشكاوى المتكررة لمدير المدرسة والمشرفين عليها، حتى إدارات التعليم لم تخلص من كثرة الشكاوي التي يقدمها بالدليل عن الفاسدين من المدرسين.. يوما ساومه مدرس اللغة الانكليزية في ان ينجحه اذا ما سكت.. فقال له عيسى:
- انا كسلان في الدرس (الانكليزي) واكرههُ كما اكره هذه المساوة القذرة من رجل التعليم.. نعم ارسب ولا اريد ان انجح بالوساطة او مقابل مبالغ حقيرة من المال. ألا ترى ان اغلب الأطباء والمهندسين اغبياء بسبب النجاح المجاني، حتى من تبوء منصبا مهمة في الدولة، كان يشار اليه من قبلكم : كان هذا طالبا فاشلا ونجح (بالفلوس) واليوم يحكمنا، وهو اغبى الاغبياء. الم تقولوا ان الطبيب اذا اخطأ يقتل مريضهُ، ولكن السياسي اذا اخطأ يقتل شعبا كاملا.. ايها الفاسدون البلد يحتاج الى علماء لا الى فاسقين. الغريب في أمره كان لا يستجيب الى الخطأ او الى أي نوع من انواع الحرام. لكن في الحب اصبح هائماً، لم يردعه رادع.
حاول مرة ان يصارحها اثناء الدرس، وباللغة الانكليزية انه يحبها بجنون، وانه لا يطيق فراقها، فقد استعان بمعاجم اللغة كي يحفظ نص الحب بالإنكليزية. ولكن كان قلبه يخفق كلما وقف امامها تنشل حركته تماماً، فلم يجد ما يقوله، وهي تنظر في عينيه وتضحك من عيونها وتبتسم بشفافية، كأنها تعلم أنه يلاحقها. والطلبة ينظرون اليه بفضول رغم انه لم يفصح عما في داخلهِ لاحد مطلقاً. ناداهُ احد اصدقائه لكنه لم يجب ولم ينظر اليه، وخرج من الدرس مسرعا، وكان يسال نفسه :
- هل هناك خطأ في تصرفي او في شكلي..؟. لماذا تنظر اليّ بهذا الفضول..؟ لماذا الطلبة ينظرون اليّ بهذه الجرأة بغير عاداتهم..؟ هل وقوفي الى جانبها فضحني..؟
شعر عيسى أنه عصبي المزاج. يبحث عن قرار حاسم لهذا العشق الذي ملك قلبه، حاول اللجوء الى اللعب مع فريق منطقته الشعبية. أن يلعب معهم بكل عنفوانه وطاقاته، عند كل مشكلة يصادفها، وكان الفريق الذي يلعب ضده يعرفون طبعهُ الحاد والقاسي في اللعب، لكنهم لا يعرفون الان ماذا في قلبه من العشق، الكرة التي كانت لا تفارق رجليه، الان تفلت منه واحيانا يسقط على الارض دون ان يتعارك او يظهر العنف ضد خصمه. وفي الليل يلجأ الى تصليح كل عطلات البيت عندما يجافيه النوم يعمل بلا وعي حتى بزوغ الفجر، يريدها ان تخرج من عقله وقلبه. وتشبع بالهم والعشق. ورغم أن وحدة الليل المظلمة تفقد الاشياء حدودها، هو يصبح في هذيان مختلف، فتختلط الامور في عقله الظاهر والباطن بغرائز غريبة وعجيبة، احيانا شيطانية تريح الجسد والنفس، وأحياناً لوامة تقلق الضمير الفتي، لأنها خارج الحدود المشرعة في القانون الالهي، ومن المعيبات التي لا يعلنها الانسان علنا بل يخفيها كلذة موقته وزائلة. لكن عيسى وجد هذا الليل الطويل نفسه تصارع القيم والمثل العليا، من الصعب عليه التركيز في شيء الا وكانت –غدير- هي من أولويات قلقلة. ظل يرتجف من فكرة مواجهتها وإعلان حبه لها. أرتعش جسده من فكرة مصارحتها علناً.
اليوم سيكون الاعلان الاقوى في الحياة، رمى كل ما في يديه، وغسل وجهه بسعادة عامرة، ذهب من فوره الى أمه وقبلها من جبينها، ولكن تردد في الاعتراف لها، وطلب منها ان تعد له الحليب الممزوج بزيت الزيتون، كان يحب هذا الفطور في الصباح. تناول مجموعة كتبهِ ووضع كتاب الانكليزي في مقدمة كتبه بعد ان اغرقهُ بسيل من القبلاتِ. هكذا نشأت رابطة غامضة بينه وبين الانكليزي، وحينما يمر يوم دون درس الانكليزي لم يعد يوما مهما بالنسبة له، وحقيقة هذا التحول هو رؤيتها، فأن لم يَرَها كان يحس أن شيئا قد ضاع منه، وفي بعض الايام كان يبحث عنها في قاعات الدروس، مجرد رؤيتها تنطفئ نار شوقه المحرقة، وبنفس الوقت كانت "غدير" تتغنج حين تراهُ وتفتح باب القاعة على مصراعيه لكي تنعم عليه بالنظر اليها.
عجبا على هذا التغيير بالأمس كان الانكليزي عدوا لدودا، واليوم مميزا في كل شيء. حتى طريق المدرسة البعيد والممل اصبح جميلا لروحه، فهي تقع على اطراف المدينة عند مدخل لغابة من البساتين يقابلها نهرٌ هو امتداد لنهر الفرات المعروف في التاريخ، هذا النهر الذي لم يشرب منه المعصوم واستشهد منحورا، ينظرهُ الفرات وهو يبكي لعطش اعظم شخصية دينية على ارض البسيطة، لم يستطع ان يرويه من مياهه العذبة. نظر "عيسى" للنهر هذه المرة بفرح عارم وهو سائر بعجالة نحو المدرسة، وقرب السواتر الترابية للنهر لاحظ كالمعتاد ان بعض اصدقائه جاءوا قبله وهم يجلسون على حافته يدخنون سكائرهم قبل العبور الى المدرسة، نظر اليهم باهتمام خاص، بل بفضول. ثم توقف قليلا وبصق عليهم مبتسماً، احس الجميع من منظره القاسي بالخوف من ان يهجم عليهم ويلقيهم في النهر كما اعتاد على ذلك كلما غضب، لكن عيسى واصل سيره باتجاه المدرسة رافعا راسه محدقا امامه لا يهتم لمن حوله ولم يلقِ التحية على احد من الطلبة او الاساتذة، حتى وصل باب غرفة جلوس التدريسين، فجأة وقف وجفل حين سمع صوتها يناديه باسمه: صباح الخير يا عيسى.
تخربط وضعه، ولا يعرف كيف يتصرف، ثم انحى عدة مرات كي يحدثها بما يجول في خاطره.. قالت:
- عيسى هل تسير أمورك جيدا..؟ ماذا يشغلك ولماذا انت هنا..؟
لم يجب عيسى مباشرة. كان وضعه المتهور والمنهار يساعده على الوقوف امامها بتحدي غريب وقوة متناهية، رفع التكلف والاحترام بين الاستاذ والطالب. فجأة أمسك بيدها:
- غدير أنا احبك واريد ان اتزوجك ولا يهمني فارق العمر ولا ماضيك.
حاولت غدير ان تسحب يدها، كانت في صدمة غير متوقعة، وقلبها بدأ يخفق، ولم تجد ما تقوله في لحظة اعترافه، سوى سؤالها المباشر.
- عيسى هل يعرف احد من الطلبة انك تحبني..؟ هل تحدثت الى شخص ما ..؟ وابتسمت كالأطفال من اضطرابه وهي تشعر ان قلبه يرقص فرحا لهذا الاعتراف.
تغير صوت عيسى من حاد وعصبي الى صوت منتحب وهو يتراجع امام جمال عينيها الشهباء ورموشها الحادة كالنبال، وشفتيها المتوردة وهي تبتسم كأنها استقبلت كل كلمة وانها ايضا تحبه بنفس الجنون.. فتكلم بإشارات يديه التي لم تستقر، واصوات التي تخرج من فمه غريبة لا تصل الى سمعها بمنطق صحيح. نظر حوله، وحدق في وجهها، فخرجت الكلمة – لا - من فمه بصعوبة.
كانت نظراتها له ترعبه، ولكن قلبه كان يقول انها قبلته، فتمالكه عطرها واحس برائحتها تنفذ اليه برغبات جامحة، وهي تشله بعينيها اللتين التمعتا عند سؤالها له، ارتجف جسده من احتمال ان تقبلهُ، ورغبته تشدد اليها، لكنها أشاحت بوجهها عنه. بعد دخول الاساتذة الى الغرفة. فقالت:
-عيسى اذهب الى الدرس ولا تتحدث الى احد حول موضوعنا الخاص وسأقول لك فور وصولي الى قرار في شأن قضيتك.
غادر عيسى غرفة المدرسين، وهو ممتلئ بالإحساس الرائع الذي ساوره وهي تمنحه فرصة لولادة ذلك الحب، وفكرة انها تحبه مسيطرة على عقله، حين وصل الدرس تعثر عند الباب، وارتفع عزمه ورغبته في الاستماع الى الدرس. في خضم هذا التوهج رمى كتبه على مقعد الجلوس بفرح وفرك عينيه التي امتلأت بالدموع، توقف عنده الزمن حتى انه لم يستطع الكلام او البكاء.
كان يومه طويلا وخاليا من الدرس الانكليزي. كلما اشتاق لها وهنت قواه وأزداد حبا، وهكذا نما احساس بعدم رفضه. كانت طريقة حديثها رضا مطلق له، ربما بصيغة سؤالها عن حديثه مع الطلبة وملامسة يدها والاحساس برائحة انفاسها، جعله يغمض عينيه ليعيش في جو خيال ابتسامتها، ونظراتها، ومفاجئة قبولها له كحبيب وعاشق وزوج مستقبلي. كانت تلك الافكار جزءا من خياله الذي خلقه لنفسه، واكمل به قدرته بالاعتراف المباشر للحب دون مقاومة او رفض مؤثر منها. لكن ما هو القرار الذي ستقوله..؟ هنا المفارقة فقد أثرت هذه الكلمة به، فحلق في أجواء التصوُّر الحالم، منتظرا مصيراً وضع نقاطه بشجاعةٍ لا يُلام عليها المرء حين يحبُّ فيسرف في حبّه، أو يهوى فيشتدُّ به الهوى. قد يظهر العاشق في مظهر المحب الغاضب احيانا من أجل فرصة حقيقة يعلنها فتضعهُ في الطريق الصحيح لأحلامه. فالحقيقة أمامه أن الاستاذة والطالب يقتربان من بعضهما بسرعة رهيبة، بالرغم من انهما لم يعرف أحدهما الآخر الا من خلال درس الانكليزي، وهما يتبادلان بعض الاشارات الانسانية المفعمة بالطف والمجاملة، وبعض الحركات التي تدل على الاعجاب المتبادل من خلال الدرس فقط، رغم تقاطع طريقهما وفارق العمر بينهما. والآن بعد الاعتراف لها بالحب وقبولها المرتبك له. يسقط فارق السن ويلتقي الاختلاف في نقطة ساكنة في القلب اسمها العشق.
تولد لديه أحساس بأنه وضع حياته تحت رحمة الانتظار، وأستمر حاله على هذه الشاكلة من القلق والظن، وبنفس الوقت يعيش فترات من الثقة والمتعة تتخللها عدم الاحتمال على الصبر فتهيج ألامه من الفراغ والانتظار المقلق، لا دروس تؤثر فيه ولا توبيخ الاساتذة يسمعه وما يثير فضول من يراه صمته ورباطة جأشه التي لم يعتد عليها الطلبة والاساتذة، فهو قلما يصمت داخل الصف المدرسي دون ان يشاغب او يعترض او يتساءل بسخرية، والعجيب أنه منتصب باستقامة في جلسته لا يكاد يسمع له صوتٌ او حركةٌ فقط عيناه شاخصتان نحو الباب، فحلمه الخرافي يفوق الدرس وما فيه. عيناه تلتمعان، ونظراته تدل على الانتظار وكأنه فزاعة تخيف من حولها، وعقله مشوشا وافكاره موجهة الى هدف واحد. ودقيقة بعد دقيقة كان داخله يشتعل ناراً. وأختفى خوفه حين ظهرت امام الباب تستأذن، زميلها المدرس كي تحدث " عيسى" خارج الصف لشأنٍ مهم.
انطلق "عيسى" الى الخارج كالصاروخ، ووقف أمامها كأي جندي مستجد في ساحات التدريب. كان يجد صعوبة في الكلام معها بحرية. فالجبن والولاء الغامض لها اشتركا معا في صنميته المؤقتة. كسرت صمته وهي تشع رغبة في دعوته الى وجبة غداء في بيتها بعد انتهاء الدوام الرسمي. مؤكدة عليه أن ينتظرها خارج المدرسة، وأن لا يتحدث عن دعوتها اليه لأي شخص مهما كان..
السعادة التي شعر بها كانت هستيرية، فيها نوع من الجاذبية الجمالية صعبة التحليل، كان يجري هنا وهناك بين كراسي الصف وكأنه طفل في -مدينة الملاعيب- يتردد في اختيار شيء يلعب به ولا يرغب باستبعاد الاشياء الاخرى وينتهي به المطاف في تقبيل كل من يجلس عنده حتى استاذ المادة لم يسلم من قُبلة "عيسى" القوية. كان الدرس طويلا لا يريد ان ينتهي وجرس الاستراحة النهائي لم يعد يعمل. فلقد أكتشف في نفسه بطولات شهوانية كبتها طويلا للملذات. لهذه الاسباب كانت عيناه تلمعان، فبدأت تعابير وجهه تكشفه، وهي تجف على شفتيه بسبب نظرات الطلبة من حوله، كانت تنم عن عدم الفهم او شكاً في أمر خطير يخفيه في قلبه. وراح يحتضن دعوتها المفاجئة بسعادة يشوبها خيال جامح فهو امام مغامرة عاطفية لم يحسب لها حساب، ووحش الغريزة بدأ يزأر بكل خيالاته. أنها فرصة لا تتكرر، فشحذ لها كل عصب بجسمه، وراح يرتب للقاء الموعود مخيلته الخصبة، قانعاً نفسه بأن الامر طبيعي وان كان قبل الزواج، فالحب والرغبة لا ينتظران دون تفريغ القوة المسكونة في عمق الانسان وتفجيرها كثورة جنسية عارمة. وعند النظر الى وجوه اصدقائه في الصف كان متأكداً من أنهم لم يعرفوا شيئا عن الحب والجنس، ولكن لكل منهم حياته الخاصة التي لا تخلو من الجنس المفرط. اللاشعور لديه كان منشغلاً، وأعماق اعماقه يعيش فرحة مع توقعات بمغامرة غرامية فريدة من نوعها. وأهم من كل ذلك انتصر في اختراق قلبها وباقي الامور ستكون سهلة وسيحقق الخيال ويجعله حقيقة.
فحص ساعته، لم يبق منه الا قليلاً، فقد دق جرس الانصراف، فوجدها تنتظره مبتسمة ما زادت من بهجته وشجاعته. قال في نفسه: مثل هذا الحب لا يتحقق صدفة الا في حالات نادرة. ابتسم ابتسامة عريضة وهو ينظر اليها بطرف عينه الى وجهها الملائكي. وحين انتبهت عليه قالت:
- اليوم سأكسر قاعدة رجوعي للبيت من أجلك يا "عيسى"، سأخذ تكسي. هيا اوقف لنا تكسي!.
تصعقه الفكرة فجأة، واوقف سيارة وركبا بصمت وظل يختلس النظرات عبر زجاج السيارة، وهو يردد "كل شيء حسن اذا كانت النهاية حسنة". الا أن الامر مختلف فقد وجد نفسه وحده محصوراً في البيت معها وهي تضع حقيبتها على المنضدة وتقول له: خذ راحتك البيت بيتك، فقط أغير ملابسي وأعد وجبة الغذاء. في هذه اللحظة اصبح ضعيفاً، فقد هزته فكرة ان يكونا وحدهما تحت سقف واحد. لماذا لم يسألها؟ هل هي وحدها ام لديها عائلة؟. أجاب نفسه بسؤال ما هو الداعي لهذا الخوف الخرافي والمعاناة فهي استاذة شريفة وأنا عشيقها. ظلت عيناه تجول في كل اركان البيت. بدأ ذهنه يصفى ونفسه تهدأ، شعر بحماس ان يكون انسانا صالحا وأن يبعد عن ذهنه غرائزه الشيطانية فالمرأة جميلة وبريئة وتحبه كما يحبها.
جاء صوتها بجمال تغريده بُلبليه : بعد قليل سيكون الأكل جاهز. ولكن ما أن أكملت جمُلتها حتى دق جرس الباب ثلاث دقات متتالية. فأردفت قائلة: أفتح الباب يا "عيسى" لكنه لم تسعفه قدميه ان يصل الى الباب الا بشق الانفس فقد ركبه الخوف من رأسه حتى اخمص قدميه.
فتح "عيسى" الباب لتقابله النسخة الثانية لـ"غدير" لولا صغر سنها ما فرق بينهما. بادرته بالسلام عليكم يا "عيسى" . تجمد في دمه وهي تدخل الى البيت بهذا الهدوء وهي تعرفه حق المعرفة. المفاجئة التي افقدته صوابه هو دخول رجل في غاية الاناقة وهو مبتسم. عيسى اصبح صنم رخامي يراقب المشهد بأعصاب مشدودة وعلى وجهه علائم الخوف. فبادره الرجل بكل كياسة ودماثة خلق:
- أنا المحامي حسين زوج غدير وهذه ابنتنا "عبير" ولنا الشرف وانت تشاركنا طعامنا.
وجد عيسى نفسه في مصيدة، وبدأ يتململ في محاولة لا يجاد طريقة يحرر نفسه من هذا الوضع الحرج. لكن المحامي شجعه على الكلام بصيغ الترحيب مما ساعده على ان يستجمع شجاعته. جاء صوت "غدير" بدعوتهم الى طاولة الطعام. وهو يبذل جهداً للسيطرة على نفسه. وجميع من بالبيت يحاولون أن يرجعونه الى توازنه الطبيعي بإظهار احترامهم له وحديثهم عن القيم الاجتماعية والثقافية والتغيرات التي طرأت عليه بواسطة مُدرسته "غدير" وكان يصغي لما يقوله المحامي بأصغاء ذهني فالهدف الجديد لعيسى هو كيف يأخذ صك حريته من هذا الاحراج الذي لا يعرف كيف ستكون نهايته...