محمد عزيز المصباحي - القصة الرمادية..

1) البناء من الأعلى إلى الأسفل:

- ما مستقبل القصة القصيرة؟

لا أعلم بالضبط إلى أي أفق ساذج سيقودنا هذا السؤال الساذج، المتسم بجهل متأصل بالتاريخ السري والعلني للقصة القصيرة.

إن أبسط ما يمكن تسجيله :

أ- إن كل شيء يبنى من الأسفل إلى الأعلى إلا القصة القصيرة، فهي كالبئر تبنى من الأعلى إلى الأسف من النهاية إلى البداية، وهي مرة أخرى كالبئر ماضيها هو مستقبلها و مستقبلها هو ماضيها.

ب- إن القصة القصيرة جنس أدبي كتابي، وثيق الصلة بحضارة كتابية لم نصل إليها بعد، باعتبارها ثقافة ورؤية وممارسة ومجتمع... إنها في لحظتها الحرجة والقصيرة، هنا والآن، لا ماضي ولا مستقبل لها غير هذا الحاضر الهش والملتبس، طبقا للمعايير الزمانية والمكانية للحضارات الشفاهية مثل حضارتنا الزاهرة والزاخرة بالمنجمين وقراء الفناجين المقلوبة.


2) الشرك المنصوب :

من قال، إن هذه الورقة الفائقة البياض والبراءة قد تصبح فجأة – و بمجرد أن ترسم عليها نصا أدبيا قصيرا، سمه قصة أو أقصوصة أو قطة أو شيطانا صغيرا يتعلم حروف الهجاء- شركا منصوبا للقراء من ذوي النيات الطيبة وللتائهين الباحثين عن ذواتهم بين الأجناس والأشكال وللمغفلين من أساتذة تاريخ الأدب العربي... نصا اعتبره تمثالا وثنيا تخلقه لنفسك وتزينه وتغسل أطرافه بيديك... ثم تقع في غرامه وأنت تعتقد أنه وقع في غرامك...

هكذا هي حقيقة الكتابة أصلا، والقصصية خصوصا، صعبة، متمنعة، رافضة، ولذلك بالضبط نظل متشبثين بتلابيبها، إلى أن نتخيل أو نتوهم أننا قد ملكناها، عند ذاك يقع المحظور، تشد الكتابة بتلابيبنا وتلابيب حياتنا، فيتغيَّر كلُّ شيء في أعيننا ومن حولنا.

هكذا هي النصوص الفاتنة - وليست كل النصوص فاتنة - تكتبنا ونحن نعتقد أننا نكتبها. إن كل قصة قصيرة، تختار كاتبها الذي سيكتبها وكلما كابدنا وتعبنا لنجعل منها كائنات ورقية، خيالية جميلة، جعلت منا كائنات تلطخ الورق الأبيض وتراكم التجربة وتراكم شغبها لهذا الغول الضخم الجبار المعروف باسم "اللغة" ومع اللغة العربية لا مفر أن نلعب لعبة القطة والفأر، إما أن تأكلنا، أن تكتب بنا، وإما أن ننجح في وضع الجرس في عنقها، أن نكتب بها.
3) شيء ما من اللحس:

عن أي مستقبل يمكن أن يحدثك قاص وهو بين القطة والفار، يبحلق بعينين واسعتين في مؤخرة قصة قصيرة مكتنزة ... وكأنه أمام شخص أجرب، حكمت عليه قوة خفيفة جبارة بالحجز وراء جدار سميك من ملح، شخص أجرب، نحيل، إذا أراد الانعتاق والخروج إلى الحياة، عليه أن يلحس الجدار، وكلما واصل لحسه للجدار، تضاءل سمك هذا الأخير إلى أن يصبح شفافا، لكن الليل والإرهاق والإحباط والجرب...سرعان ما يجثمون عليه فيخر منهكا وينام. وفي الصباح الموالي، عندما يستيقظ، يجد أن الجدار قد رجع إلى حجمه الطبيعي فيعيد من جديد عملية اللحس إلى المساء... وإلى الأبد.

وهكذا هي القصة القصيرة الحقيقية، أجرب يلحس واقعا ثقافيا وسياسيا من ملح، بنكهة أجاجة وبدون فائدة.
4- الكذب في وجهها

مستقبل القصة القصيرة، الواعد والمشرق، لا يوجد سوى من النماذج الجيدة للقصة القصيرة، في تحفها النادرة والشحيحة التي قد لا توجد في مجموعات قصصية كاملة، بل قد لا توجد حتى عند بعض الكتاب ممن يعتبرون أنفسهم قصاصين على الرغم من أنفها... إنها ليست نافذة على الواقع ولا تمرينا رياضيا للاستراحة من المدح والذم والرثاء أو للانتقال إلى كتابة الرواية ... يحترمون اللغة واللغة لا تحترمهم، ولا شيء يحرجهم سوى الجنس ( شخصياتهم وقورة، تفهم الماضي والمستقبل، ورواتهم لا يتعرون ولا يدخلون المراحيض، لا يحيضون ولا يبيضون، تزكمك سذاجتهم وتخدعك نياتهم الحسنة...)... ولهم نقادهم المفضلون يبسطون تحت أقدامهم زرابي المعقول والبراءة المغشوشة والنماذج المسطحة... يرسمون لهم " المستقبل" ... أي مستقبل هذا الذي يرسمه الروائيون والقراء النموذجيون ومنشطو الحفلات و "النكافات" الثقافية وسدنة الأدب المغربي الحديث...؟؟



2000

محمد عزيز المصباحي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى