د. صبري محمد خليل خيري - علم الكلام الاستخلافي: محاوله فى علم الكلام الإسلامي المعاصر

تمهيد: هذه الدراسه هى محاوله فى علم الكلام الإسلامي المعاصر، تنطلق من محاوله الربط بين
علم الكلام " علم أصول الدين" الاسلامى، ومفهوم الاستخلاف القرانى ،بأبعاده المتعددة الحكمية " الفلسفية " والمنهجية والمعرفية - مع التركيز على أبعاده الحكمية " الفلسفية" ، باعتبار ان علم الكلام هو فلسفه اسلامية ، اى احد قطاعاتها الرئيسية- لذا أطلقنا على هذه المحاوله اسم " علم الكلام الاستخلافي" .
[/SIZE]
تعريف علم الكلام:

ا/ تعدد اسمائه وعلم التوحيد كاسم مختار:
تعددت أسماء هذا العلم تبعاً لتعدد الجهات المنظور إليه منها ، فأطلق عليه بالإضافة إلى علم الكلام، علم أصول الدين وعلم النظر والاستدلال، وسماه أبو حنيفة الفقه الأكبر. والاسم الذي نختاره هو علم التوحيد لأنه يشكل أحد المفاهيم القرآنية الكلية التي تفسر العلاقة بين محاور الوجود (الله تعالى، الإنسان، الكون) بالإضافة إلى مفهومي الاستخلاف والتسخير. يقول التهاوي )ويسمى بعلم النظر والاستدلال أيضاً ويسمى بعلم التوحيد والصفات( ) مجمع السلوك، ص20 (

ب/ الخلاف المنهجى بين علم الكلام والفلسفة ونقد لراى: ويذهب بعض الباحثين إلى أن هناك خلافاً منهجياً بين علم الكلام والفلسفة ،فالمتكلم يسلم أولا بفروض ميتافيزيقية، ثم يحاول إقامة الأدلة على صحتها. أما الفيلسوف فإنه لا يسلم فروض عند البداية، ثم يحاول التوصل إلى النتائج . غير أن هذا القول – فيما نرى- يضمر تصوراً غير صحيح للفلسفة، وهو وجوب أن لا تنطلق في البداية من الميتافيزيقا ،بينما أي مذهب فلسفي إنما ينطلق من فروض مسلم بها دون أن تكون قابلة للإثبات أو النفي بالتجربة والاختبار العلميين أي فروض ميتافيزيقية بهذا المعنى.

ج/ علم الكلام هو فلسفه اسلاميه: فعلم الكلام هو فلسفة إسلامية ، بمعنى أنه يتخذ العقائد الدينية التي جاء بها الإسلام كمسلمات أولى ينطلق منها كما يدل تعريفه ، وبالتالي فهو أحد قطاعات الفلسفة الإسلامية ، دون نفي الفلسفة الإسلامية التي وضعها الفلاسفة العرب والمسلمون " الكندي، الفارابي، ابن سينا"، والتي اختارت منهجاً مغايراً وهو الانطلاق من مقولات الفلسفة اليونانية، ثم محاولة تطويرها لتتلاءم مع العقيدة الإسلامية، لأن هؤلاء الفلاسفة عنو بالدفاع عن الدين الإسلامي في وجه عقائد ومذاهب وأديان اتخذت من الفلسفة والمنطق اليونانيين كأدوات للدفاع عنها، أي أنهم انطلقوا مما هو مسلم عند هذه العقائد والمذاهب "الفلسفة والمنطق اليونانيين" ، ليصلوا به إلى ما هو مسلم لديهم " الدين الإسلامي".

د/ الموقف الصحيح من علم الكلام الموقف التقويمى المتجاوز للرفض والقبول المطلقين: كما أن الموقف الصحيح من هذا العلم، ليس الرفض المطلق أو القبول المطلق ، بل الموقف التقويمي القائم على اخذ الاجتهادات الكلامية التى تتسق- اى لا تتناقض- مع أصول الدين النصية الثابتة ،التى مصدرها محاولة وضع حلول صحيحة للمشاكل التي طرحها علم الكلام، على أن تكون تلك الحلول محدودة بالقواعد اليقينية الورود القطعية الدلالة، التي وضعها الله تعالى للمعرفة الإنسانية ، وهذا الموقف هو الموقف الحقيقي للكثير من العلماء ومنهم الإمام ابن تيمية الذي يرى (جواز الاشتغال بعلم الكلام لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإذا لم بقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني المقررات الباطلة)، حيث يقول (فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ "الجوهر" و" العرض" و" الجسم" وغير ذلك ، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات قد يكون فيها من الباطل المذموم في الأدلة والحكام ما نهى عنه،و لاشتمال هذه الألفاظ على معنى مجملة في النفي والإثبات... فإن عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ،ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة ، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كل ذلك وهو الحق)، وبناء على هذا الموقف تحدث في كثير من المسائل الكلامية مثل العلاقة بين الوجود والموجود والقدر والجبر والاختيار والقدم بالنوع ، كما في الجزء الثالث من مجموعة فتاواه.

اصول الربط بين علم الكلام ومفهوم الاستخلاف:
تعريف مفهوم الاستخلاف:
الاستخلاف لغة النيابة والوكالة (الفخر الرازي، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب،ج26،ص199). وإذا كانت الوكالة نوعان: عامة وخاصة فان الاستخلاف ورد في القران بما يقابل هذين النوعين، فقد ورد بمعنى الوكالة العامة ، وطبقا للمعنى الحقيقي للمصطلح ،وهو هنا يعنى أبدال وتغيير قوم بقوم آخرين ، كما في الاستخلاف التكويني ، كما ورد بمعنى الوكالة الخاصة، وطبقا للمعنى المجازى للمصطلح، حيث يصور القران الكريم الوجود بمملكة ملكها الله تعالى ، والإنسان نائب ووكيل عنه في الأرض،تكريما للإنسان، وهو الاستخلاف التكليفى ، يقول الراغب الأصفهاني (الخلافه النيابة عن الغير إما لغيبه المنوب عنه... وإما لتشريف المستخلف)( المفردات في غريب القران ، ص 156 ).

البعد الحكمي"الفلسفى" لمفهوم الاستخلاف: ويتمثل البعد الحكمي "الفلسفى" لمفهوم الاستخلاف ، في حكمه الاستخلاف ، التي تقوم على محاوله تحديد العلاقة بين المستخلف بكسر اللام” الله تعالى” ، والمستخلف بفتح اللام”الإنسان” ،والمستخلف فيه “الكون”- اى محاوله تحديد العلاقة بين أطراف علاقة الاستخلاف – وذلك باتخاذ المفاهيم القرآنية الكلية ( التوحيد والاستخلاف والتسخير) مسلمات أولى ، ثم محاوله استنباط النتائج الحكمية”الفلسفية” لهذه المفاهيم الكلية، متخذه من اجتهادات أهل السنة – بمذاهبهم العقدية “الكلامية ” المتعددة – نقطة بداية- وليس نقطة نهاية – لهذا الاجتهاد.

البعد المنهجي لمفهوم الاستخلاف : كما يتمثل البعد المنهجي لمفهوم الاستخلاف، في الاستخلاف كمنهج للمعرفة ، ومضمونه أن صفات الربوبية (اى ما دل على الفعل المطلق لله تعالى) تظهر في عالم الشهادة على شكلين:

الشكل الأول : تكويني: يتمثل في السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى .

الشكل الثاني : تكليفي : يتمثل في المفاهيم والقيم والقواعد الكلية التي مصدرها الوحي ، وهو يحدد الشكل التكويني ولا يلغيه.

البعد المذهبي لمفهوم الاستخلاف : ويتمثل البعد المذهبي لمفهوم الاستخلاف، في الاستخلاف كمذهب “اى كمجموعة من الحلول للمشاكل التي يطرحها الواقع المعين”. وهذا البعد يتضمن الاجتهاد في بيان شروط الاستخلاف الاجتهادية المقيدة ، اى شروط استخلاف الأمة في مكان معين " الامه العربية المسلمة بشعوبها المتعددة "، وزمان معين "الحاضر"(وتتضمن قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة الاصالة والمعاصرة" التجديد"، المتسقة مع أصول الدين النصية الثابتة). وهذا الاجتهاد محدود بشروط الاستخلاف النصية المطلقة ، اى شروط استخلاف الأمة في كل مكان " كل أمم وشعوب أمه التكليف"، و كل زمان" ماضي وحاضر ومستقبل الامه " ، والتي تولى بيانها النص بيانها ، وتتمثل في المفاهيم والقيم والقواعد الكلية، التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة.

ثانيا: ضوابط الربط بين الفقه ومفهوم الاستخلاف:

ا/الاجتهادات الكلاميه لاهل السنه نقطه بداية - وليست نقطه نهايه - لاى اجتهاد كلامى :
اتخاذ اجتهادات أهل السنة الكلامية- المتعددة بتعدد مذاهبها الاعتقاديه - نقطة بداية - وليس نقطة نهاية –لاى اجتهاد كلامى، باعتبارها تجسيدا لماضي الأمة وخبرتها .

ب/تطبيق مفهوم الوسطية: الالتزام بمفهوم الوسطية ، وطبقا لضوابطه الشرعية ، و الوسط منهجيا هو الموقف القائم على: رفض الوقوف إلي أحد الطرفين المتناقضين " من جهة النفي "، وعلى الجمع والتأليف بينهما على وجه يلغى هذا التناقض"من جهه الاثبات" . وقد وردت الاشاره إلى المفهوم فى العديد من النصوص كما فى قوله تعالى:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً ﴾ (البقرة:143)،كما أشار العلماء إلى المفهوم يقول ابن القيم ( ... ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين) (مدارج السالكين:2/ 496).

ثالثا: تطبيقات الربط بين الفقه ومفهوم الاستخلاف " الفقه الاستخلافى" :

القضاء والقدر:

الفهم الصحيح للقضاء والقدر لا يلزم منه الجبر:
القضاء والقدر يتعلقان بظهور فعل الله تعالى المطلق " الربوبية " في عالم الشهادة من جهة الإيجاد ، اى ظهور صفه الايجاد فيه . فالقضاء يدل على فعله المطلق من جهه الالزام " الحتمية" ، اى وجوب نفاذ فعله المطلق، يقول تعالى ( ...وكان امر مقضيا ) و(كان على ربك حتما مقضيا ) ، ورد في القاموس المحيط (القضاء: الصنع والحتم والبيان) .أما القدر فيدل على فعل الله المطلق من جهه التحقق ، ولما كان ظهور فعله المطلق تعالى في عالم الشهادة يتم من خلاله السببية، اى تحققه بتحقق السبب وتخلفه بتخلف السبب، فان الله تعالى لا يجعل فعله المطلق يتحقق ، إلا عندما يوفر أسباب " شروط" تحققه، وهو معنى القدر في الاستعمال القرانى (انا كل شئ خلقناه بقدر )(القمر : 49) . على هذا فان كون الفعل المطلق لله تعالى لازم النفاذ " القضاء" او تحققه في عالم الشهادة " القدر" لا يترتب عليه ان الانسان مجبور على فعله .

صفتا العلم والإرادة الالهيين والفعل الانسانى :

وقال بعض العلماء القضاء والقدر هما العلم والإرادة الالهيين ، ونرى انهما مرتبطان بهما لذا وجب تناولهما

أولا: الإرادة الالهيه والفعل الإنساني :

للاراده الالهيه شكلين :
قرر الكثير من العلماء ان للاإرادة الالهيه شكلين :الأول تكويني والثاني تكليفي، ومن هؤلاء العلماء ابن تيمية وابن القيم ،والامام الشوكاني القائل (وكما وقع الاشتباه بين هذين القسمين ،وقع الاشتباه بين شيئين آخرين ،وان كانا خارجين عما نحن بصدده، وهو الفرق بين الارادة الكونية والارادة الدينية ، وبين الأمر الكونى والأمر الديني ،وبين الإذن الكوني والإذن الديني ،وبين القضاء الكوني والقضاء الديني ... فالإرادة الكونية والأمر الكوني هي مشيئته لما خلق من جميع مخلوقاته... والإرادة الدينية هي محبته المتناولة لجميع ما أمر به وجعله شرعا) .

شكلا الاراده الالهيه لا يلزم منهما الجبر:

الإرادة التكليفية
: وتظهر من خلال القواعد الأمر والناهية التي اوجب الله تعالى على الإنسان التزامها في شرعه وهى بالتالى لا جبر فيها.

الارادة التكوينية :وتظهر فى السنن الالهيه التى تحكم حركة الوجود بما فيه الفعل الانسانى، وهى أيضا لا يترتب عليها إجبار الإنسان على فعله او الغائه ، إذ أن هذه السنن هي شرط للإرادة الانسانيه، اى يتوقف عليها نجاح الفعل او فشله ، وللانسان ان يحترم حتميتها فينجح في تحقيق ما يريد، أو لا يحترم حتميتها فيفشل.

التميز بين الارادة والرضا: وتاكيدا لان الارادة الإلهية لا يلزم عنها إجبار الإنسان على فعله، كان التمييز بين الإرادة والرضا ،فالله تعالى أودع فى الإنسان القدرة على التزام إرادة الله التكوينية والتكليفية فينال بذلك رضا الله ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )، كما أودع فيه القدرة على مخالفة إرادته فيوجب ذلك غضب الله (.. وغضب الله عليهم )ـ يقول ابن تيميه (وجمهور أهل السنة مع جميع الطوائف وكثيرون من أصحاب الاشعرى يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضا ، فيقولون انه وان كان يريد المعاصي لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها، وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ) (رسالة التوحيد، ص 50)

لا يجوز نسبة المعاصى لله تعالى: وعلى هذا لا يجوز نسبة المعاصي إلى الله تعالى ،لان هذا يعني انه أجبر الإنسان على فعلها قال تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) (النساء: 79) وقال " أوكلما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى لنا هذا قل هو من عند أنفسكم " (ال عمران 165) وقال ص فى دعاء الاستفتاح فى صحيح مسلم ( ... والخير بيدك والشر ليس إليك... ) .ويقول ابن تيمية (... فان لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه، بل الله فاعل لزم ان يكون الله ظالم) (مجموعة الرسائل والمسائل،ج5،ص143)

العلم الالهى والفعل الإنساني : ومن صفاته تعالى العلم، وعلمه تعالى مطلق كسائر صفاته ( ان الله يعلم ما فى السموات والأرض )، وعلى هذا فان كل فعل يقوم به الإنسان فى علم الله المطلق،غير ان علم الله المطلق بالفعل الإنساني لا يعني إجبار الإنسان عليه، إذ ان الله تعالى يعلم به الإنسان سيقوم بالفعل المعين بما أودع فيه من حرية الارادة، وعلى مقتضى الأسباب التى وضعها تعالى لحدوث الفعل، يقول الشوكانى ( فاحمل أحاديث الفراغ من الفضاء على تسبب العبد بأسباب الخير والشر، وليس في خلاف ذلك لما وقع فى الأزل، ولا مخالفة لما تقدم العلم به ، بل هو من تقييد المسببات بأسبابها) ( الشوكانى،مرجع سابق،ص493). وهنا نرى أن من حكم اختصاصه تعالى وحده بعلم الغيب و خاصة المستقبل إرادته تعالى الاحتفاظ للإنسان بحرية الارادة قال تعالى ( وما تدري نفس ما تكسب غدا وما تدرى نفس بأى ارض تموت ) . كما ان علمه تعالى بالحدث المعين ليس سابق ولا لاحق ، لان السابق واللاحق هو علم كيفي محدود بالزمان والمكان ، بينما علمه تعالى هو علم بالماهية اى بعين الحدث، بدون ان يكون مقيدا بالزمان والمكان .

التوفيق والخزلان :وهكذا فان الله تعالى هو خالق فعل الإنسان ، من جهة السنن التى يتعلق نجاح الفعل او فشله عليها، والتي هي ظهور تكويني لصفة الخلق. والإنسان كاسب فعله من جهة معرفته حتمية هذه السنن تم التزامها، اى معرفة سبب تحقق السنة الإلهية ، ثم التزامها لينجح في تحقيق على ما يريد على مقتضى هذه السنة ، غير ان الإنسان ذو علم وإرادة محدودين كسائر صفاته (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )( الإسراء: 85) ، بينما الله تعالى ذو علم وإرادة مطلقتين كسائر صفاته ، وعلى هذا فإنه تعالى بعلمه وإرادته المطلقتين ، إنما هو الذي يوفق الإنسان ذو العلم والإرادة المحدودتين ، إلى معرفة وإلزام السنن الإلهية فينجح فى تحقيق فعله، أو يخذله عن معرفتها والتزامها فيفشل في فعله، يقول الشيخ محمد وفاء درويش (ان التوفيق عناية خاصة يتولى بها رب العباد بعض عباده فضلا منه، فيجعل أعمال هذا العبد موافقة لأسباب ظاهرة بالحيز الذى يجهل طرقه ، أما الخذلان فهو ان يترك الله العبد لاجتهاد وما منحه من المواهب العامة ، فلا يمنحه شيئا من العناية الخاصة التى منحها من كتب له التوفيق )( محاضرة في القضاء والقدر، مصر ،1964 ، ص10 ) . فالتوفيق والخذلان هما التصور الإسلامي البديل لمفاهيم الصدفة والحظ ، وهو تصور لا يتضمن إلغاء العلم والإرادة الانساتين، بل تحديد لهما لضمان استمراريتهما .



الرؤية:

المعتزلة :
رأى المعتزلة - اتساقا مع موقفهم المتطرف فى التنزيه - نفى رؤية الله تعالى فى الدنيا ، وهناك من يرى أنهم نفوا رؤية الله بالأبصار.

تقويم: لا خلاف فى ان الإنسان لا يمكنه ان يشهد الله تعالى فى الحياة الدنيا لان له الوجود المطلق، والوعي الانسانى " إحساسا وإدراكا وتصورا " لا يشهد إلا المحدود بالزمان والمكان،وبالتالي اذا أمكن شهوده فقد صار محدودا وهذا هو احد أركان التنزيه .غير ان الأمر يختلف فى الآخرة حيث يتبدل الوجود الحالي، بوجود جديد لا تستلزم المحدودية فى المكان اى الجهة والجسم.

الكرامية : ذهبوا إلى إثبات الرؤية سواء استلزمت الجهة ام لا (شرح التفتزانى،ص94).

تقويم:
وهذا الموقف قائم على التشبيه ، ورغم تناقضه مع الموقف السابق، الا انه يتفق معه فى الانطلاق من افتراض خاطئ مضمونه ان ما يرى لا بد ان يكون محدودا، وقد تسرب هذا الموقف إلى أراء بعض أهل السنة

الاشاعره : ذهب الأشعري إلى جواز رؤية الله ، فعنده ان كل موجود يرى، والله موجود، فيصح ان يرى، قال الشهرستاني ( ومن مذهب الاشعرى ان كل موجود يصح ان يرى فان الصحيح للرؤية انما هو الموجود والباري موجود فيصح أن يرى)( الملل والنحل، ج1، ص131)، وقد استند إلى آيات مثل قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )ـ ووفق بينها وبين الآية ( لا تدركه الابصار ) بان هذه فى الدنيا. كما ان الأشعري قال برؤية الله على وجه يبرى ساحة الله عن مشابهة الحوادث،فرؤيته تخالف الرؤية الحاصلة بين الحوادث

المذهب المرجح: إذا كانت الحياة الدنيا قائمه على ظهور صفاته تعالى" اى مادل على وجوده المطلق"، فان الحياة الآخرة قائمة على ظهورذاته"اى عين وجوده المطلق " . غير ان هذا الظهور الذاتى الذى عبر عنه القران بمصطلح التجلى- (بالنسبة للناس ) ليس شاملا لجميعهم، فمن أظهر صفات ربوبيته وألوهيته فى الأرض- وهو مضمون الاستخلاف- كان له نصيب من هذا الظهور بمقدار ما اظهر، وهو ما اسماه أهل السنة رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة ، يقول البغدادي (وأجمع أهل السنة على ان الله تعالى يكون مرئيا للمؤمنين فى الآخرة ، وقال بجواز رؤيته فى كل حال ، ولكل حي من طريق العقل ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر وهذا خلاف قول من أحال رؤيته من القدرية والجهميه ) (الفرق بين الفرق،ص 324) . غير أن هذا الظهورالذاتى والشهود الذاتى لا يستلزم المحدودية فى المكان والجهة ، والابصار بالحواس، لان هذا الوجود الجديد القائم على الظهور الذاتى مطلق عن المحدودية بالمكان والزمان .



الصفات الإلهية:

المشبهة " المجسمة":
التشبيه هو القول بالتشابه بين الله تعالى ومخلوقاته، والتجسيم هو تصور الله تعالى على صورة جسم، والتشبيه ظهر قبل الإسلام عند بعض الفرق المسيحية واليهودية ،ثم تسرب إلى بعض الفرق المتطرفة في البلاد الإسلامية، وقد استندت هذه الفرق إلى فهم الآيات التي يفيد ظاهرها التشابه بين الله تعالى والمخلوقات على هذا الظاهر دون تأويل ،وأهم الفرق بعض غلاة الشيعة والكرامية والحشوية.

غلاة الشيعة: من هؤلاء المغيرة بن سعيد و بيان بن سمعان.

الكرامية: وتنسب هذه الفرقة إلى مؤسسها محمد بن كرام السجستاني ،وهو من مثبتي الصفات الإلهية،لكنه تطرف لينتهي إلى التجسيم والتشبيه، وقد دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده، وزعم أنه جسم له حد ونهاية، وذكر في كتاب عذاب القبر أن معبودة أحدى الجوهر، وقال أنه مماس للعرش من الصفحة العليا، وجوز عليه الانتقال والتحول والزوال ،كما أثبت رؤية الله تعالى سواء استلزمت الجهة والجسمية أم لا ،وقد وصف الشهرستاني الكرامية بأنهم (ليسوا علماء معتبرين بل سفهاء جاهلين).

الحشوية: هم الذين أدى تمسكهم بفهم الآيات التي يفيد ظاهرها التشابه بين الله تعالى والمخلوقات على هذا الظاهر، دون تأويل إلى الوقوع في التشبيه ، يقول التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون (أن الحشوية قوم تمسكوا بالظواهر فذهبوا إلى التجسيم وغيره) ، وهم تيار يضم بعض المنتسبين إلى أهل السنة بفرقهم المختلفة - وعلى وجه الخصوص بعض متأخري الحنابلة- إذ على الرغم من أن أحمد بن حنبل لم يكن مشبهاً، بل دعا إلى مذهب خاص في التفويض، إلا أن بعض متأخري الحنابلة قد وقعوا في التشبيه ، استناداً إلى الأخذ بظاهر الآيات المتشابهة ،وجوز هؤلاء رؤية الله تعالي في الدنيا ، ومن هؤلاء أبو يعلي الذي قال فيه بعض فقهاء المذهب الحنبلي (لقد شان أبو يعلي الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار) ،وابن الزاغوني والذي قال فيه بعض الحنابلة (أن في قوله من غرائب التشبيه ما يحاور فيه النبيه) ،وقد استنكر العديد من أئمة المذهب الحنبلي هذا التيار عندما شاع في القرنين الرابع والخامس منهم ابن الجوزي (رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح.... فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب،ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس... ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه) (أبو زهرة، الفرق الإسلامية، ص324).

تقويم: وهكذا فان الحشوية فهموا التفويض فهماً خاطئاً أدى بهم إلى الوقوع في التشبيه فالتفويض عند بعض السلف، هو السكوت عن الكلام في الآيات المتشابهة، وقد فهموه على أنه فهم (حمل) الآيات على ظواهرها، مع الكلام عن هذا الفهم ،يقول ابن الجوزي (عجبت من أقوام يدعون العلم ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا)( صيد الخاطر، ج1، ص128)، فالحمل هنا يضمن فهم معين وكلام عن هذا الفهم، أما الإمرار فيقوم على السكوت عن الخوض في الكلام أو الفهم.

موقف الحنابلة:

تعريف بالفرقه:
إحدى فرق أهل السنة ،و تنسب إلى الإمام أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الفقهي الحنبلي، وتضم العديد من العلماء أشهرهم ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم ،وأطلق على هذه الفرقة أيضاً (أصحاب الحديث) و(أهل السلف). ويعد المذهب الوهابي المنسوب إلى محمد بن عبد الوهاب امتداداً لهذه الفرقة مع التركيز على الجانب السلوكي والعملي فيها.

مذهب ابن حنبل(السكوت والتفويض) : وكان مذهب أحمد بن حنبل هو السكوت عن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات ،وتفويض الأمر لله مع تنزيهه عن التشبيه والتعطيل استناداً إلى قراءته للآية (..... وما يعلم تأويله إلا الله....)، ولكنه لم يتحدث عن كيفية فهم هذه الآيات باعتبار أن فهم معانيها يختص به الله تعالى.

مذهب ابن تيميه (التفويض مع تقرير ان السلف فهمو النصوص على ظاهرها): ثم جاء ابن تيمية وأخذ بمذهب التفويض، أي السكوت عن الكلام في هذه الآيات والأحاديث مثل ابن حنبل، ولكنه أضاف أن السلف فهموا هذه الآيات والأحاديث على ظاهرها يقول ابن تيمية (.... ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه عليم قادر، لم يقل أن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا ، فكذلك لما وصف نفسه أن خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن ظاهره غير مراد…)(الإكليل في المتشابه والتأويل، ص12.)



مذهب ابن الجوزى( فهم النصوص على معانيها المجازيه المشهوره من غير تاويل): ويفترق ابن الجوزي عن ابن القيم وابن تيمية في أنه يرى فهم الآيات والأحاديث المتشابهة على معانيها المجازية المشهورة التي يعرفها العربي من غير تأويل، وهو مذهب ابن حزم والغزالي والماتريدي، حيث يقول (ولا يحتاج إلى تأويل من قال الأصبع الأثر الحسن .... ولا إلى تأويل من قال يداه نعمته).ويقول ايضا (والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن فإن صرف صارف حمل على المجاز).

التعطيل: وهو نفى الصفات الإلهية:

مذهب التعطيل الجزئى ( المعتزلة ( : أطلق على المعتزلة لقب المعطلة، بمعنى تعطيلهم الصفات الإلهية ونفيها يقول ، البغدادى( ... وعشرون منها قدرية محضة يجمعها كلها فى بدعتها أمور : منها نفياً كلها عن الله عز وجل صفاته الأزلية ، وقولهم بأنه ليس لله عز وجل علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا صفه أزلية) (الفرق بين الفرق). والصواب هو أنهم لم ينفوا الصفات إطلاقا بل نفوا الصفات الزائدة عن الذات.

مذهب التعطيل الكلى ( غلاه الإسماعيلية ) : ويرى بعض الباحثين انهم نفاة الصفات الإلهية إطلاقا، وقالوا بذلك من اجل تأييد نظرية الإمامة عندهم،فقالوا الله لا تدركه الأبصار، ولا ينسب له اسم ولا صفه ولا نعت. وعلى هذا وجب ان يتجسد فى شئ لتعرفه به وهو الإمام فهو يد الله ووجه الله... الخ إذ بدون ذلك نكون عابدين لعدم لهذا فان أسماء الله الحسنى إنما هو تخص الإمام .( ابوريان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام،1986،ص12) وقد تأثر بعض غلاه الصوفية من أنصار التصوف البدعي" القائم على المفاهيم الاجنبيه كالحلول والاتحاد ووحده الوجود" بهذه النظرية فى تفسيرهم لمفاهيم مثل " الإنسان الكامل والحقيقة المحمدية" .

و نلاحظ أن تطرف المعتزله فى التجريد يعود إلى سببين :

الاول : انه جاء كرد فعل لتجسيم المشبهة الذين عنوا بالرد عليهم.

الثاني : أنهم استعانوا في تكوين مذهبهم بما عرفوا من فلسفة اليونان ، يقول الأشعري( ان أبا هزيل أخذ من أرسطو ما قال في بعض كتبه ان الباري علم كله حياة كله سمع كله بصر كله، فحسن أبو هزيل لفظه أرسطو وقال علمه هوهو وقدرته هي هو).

مذهب السلف : ومذهب السلف الصالح معرفة وعمل،اى كيف فهم السلف الصالح هذه الآيات ؟ ثم ما هو موقفهم العملي منها ؟

الموقف العملى: أما الموقف العملي فقد سكتوا على الكلام فيها عندما كان الفهم الصحيح سائدا ،وتصدى فريق منهم للفهم الخاطىء لها لما شاع في فتره تاليه.

الموقف المعرفى: أما كيف فهم السلف الصالح هذه الآيات فنجد بالإضافة إلى الرأي الذى ذهب إليه ابن تيمه وابن القيم ، وهو أنهم فهموا ألفاظ هذه الآيات على معانيها الظاهرة، رأى أخر هو أنهم فهموا هذه الألفاظ على معانيها المجازية المشهورة ، التى يعرفها العربي من غير تأويل، وهو مذهب ابن حزم وابن الجوزي والغزالى والماتريدى وغيرهم .يقول ابن الحزم( إن الألفاظ الموهمة للتشبيه أمثال قوله " يد الله فوق أيديهم " " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام "" فإنك بأعيننا" ليس هناك داعي لتأويلها على غير ظاهرها، فهي مجاز ظاهر يفهمه العربي دون حاجة إلى أدنى تأويل ، فوجه الله مثلا ليس غير الله بدليل قوله عز وجل " إنما نطعمكم لوجه الله "حاكيا عمن رضي عنهم من الصالحين وهم لا يقصدون بذلك غير الله وقوله أيضا " أينما تولوا فثم وجه الله" ومعناه فثم الله بعمله وقبوله لمن أراد التوبة(الفصل، ج2، ص 4) . ويقول ابن الجوزي ( ولا يحتاج إلى تأويل من قال الإصبع الأثر الحسن فان القلوب بين أثرين من اثار الربوية هما الإقامة والإزاغة، ولا إلى تأويل من قال يداه نعمتاه )( صيد الخاطر، ج1، ص 51) . ويقول الغزالي ( التقديس معناه اذا سمع اليد والإصبع ... وقوله (ص) قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.. فينبغي ان يفهم ان هذه الألفاظ تطلق على معنيين احدهما الوضع الأصلي وهو العضو المركب من لحم وعظم وعصب . وقد يستعار هذا اللفظ لمعنى أخر ليس هو هذا بجسم أصلا فعلى العامل ان يتحقق قطعا ويقينا ان الرسول لم يرد بذلك جسما هو عضو مركب من لحم..)( إلجام العوام عن علم الكلام )

التنزيه:هو إثبات الوجود المطلق لله تعالى ونفى الوجود المحدود عنه وأركان التنزيه ثلاثة:

أولا:أن لله تعالى الوجود المطلق عن قيود المكان، اى لا يحده الوجود في المكان يقول تعالى :( أينما تولوا فثم وجه الله ) يقول ابن الجوزي ( تعالى الله عزوجل عن المحل والحيز لاستغنائه عنهما ، ولان ذلك مستحيل فى حقه عزوجل ولان المحل المحل والحيز من لوازم الاجرام ولا نزاع فى ذلك وهو سبحانه منزه عن ذلك)( ابن الجوزى، دفع شبه التشبيه، ص 8)

ثانيا : ان الله تعالى الوجود المطلق عن قيود الزمان ،اى انه تعالى لا تحده الحركة خلال الزمان ،يقول تعالى ( هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ) .يقول ابن الجوزى (يستحيل على الله عزوجل الحركة والتنقل والتغير لان ذلك من صفات الحدث)( ابن الجوزى، دفع شبه التشبيه، نفس المكان) . ويقول ابن الحزم (وأنه تعالى لا فى مكان ولا فى زمان بل هو الله تعالى خالق الأزمنة والأمكنة قال تعالى " خلق كل شئ فقدره تقديرا ")( ابن حزم، المحلى مجلد 1،ص 29)

ثالثا : انه لا يمكن للإنسان ان يتصوره بأن التصور محدود بالواقع الزمانى المكانى كما يدركه الإنسان من حيث وهو نقيض له وإعادة تشكيل لذلت عناصره فى صورة جديدة .قال تعالى : ) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) (الأنعام:13) وقال ابن الجوزى : وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وهم ولا يتخيله خيال التصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك).

الآيات التي يفيد ظاهرها التشابه بين الله تعالى والإنسان:

فما هو المذهب الصحيح من الآيات والأحاديث التى يفيد ظاهرها التشبيه :

بناء على التصور التنزيهى للذات والصفات، نرى ان المذهب الصحيح من هذه الآيات يقوم على وجوب الإيمان بان الله تعالى أورد هذه الآيات بما يفيد ظاهر ألفاظها التشابه بين الله تعالى وبين الإنسان لحكمة ، هي ان تدل على وجوده المطلق( شأن الصفات )، لا لتعلقها بعين الوجود المطلق لله تعالى ( شأن الذات ) . فقد أودع الله تعالى فى عقل الإنسان ملكة التصور ( التخيل )، ولما كان لله تعالى الوجود المطلق، واستحال على الإنسان تصور عين هذا الوجود المطلق ( الذات ) ، قضت حكمته تعالى ان يتنزل القران إلى مستوى العقل الإنساني المحدود ( بما هو ظهورصفاتى تكليفي ) وهو ما يتمثل هنا في إيراد هذه الآيات على هذا النحو، ليتوافر للإنسان إمكانية تصور ما دل على وجود المطلق .يقول ابن الجوزى ( وقد حدثنا بما نعقل وضرب لنا الأمثال بما نعلم وقد ثبت عندنا بالأصل المقلوع به انه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس علمنا المقصود لذلك)( ابن الجوزى، دفع شبه التشبيه،ص8) .ويقول فى مكان أخر( فان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا فى الإثبات ليتقرر فى انفس العوام وجود الخالق . ... فإذا امتلأ العامى والصبى من الإثبات وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس قيل له ( ليس كمثله شئ ) فمحى من قلبه ما نقشه الخيال وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة).وبقى ان نقرر انه لما كانت ملكة التصور مشتركة بين الناس، فان إيراد هذه الآيات على هذا الوجه لازم لكل الناس لا للعامة فقط .

اذا وضح لنا ان السلف قد فهم هذه الألفاظ على المجاز المشهور، وجب الرجوع إلى المعاني القرآنية لهذه الألفاظ كما أوضحها السلف : اذ لكل لفظ معنى أصلى هو الظاهر ومعاني أخرى هي المجاز وهو احد خصائص اللغة العربية كما يقول ابن الجوزى( وجمهور الصحيح منها ات على توسع العرب فأخذوه هم على الظاهر).

ا/الآيات التي يفيد ظاهر ألفاظها المحدودية فى المكان :

فلفظ فوق له فى القران معاني مثل العلو بالقهر والقدرة كما فى القران على لسان فرعون "انا فوقهم قاهرون ". ولفظ الاستواء له معاني فى القران مثل الاستقرار منه قول تعالى " ثم استوي إلى السماء "، ومنها إتمام الشئ كقوله تعالى " ولما بلغ اشده واستوى "، ومنه الملك والقهر كما فى قوله تعالى " الرحمن علم العرش استوى". يقول ابن الجوزى( وقد ذهبت طائفة من اصحابنا إلى ان الله عز وجل على عرشه ما ملئه وانه يقعد نبيه معه على العرش ثم قال : العجب من قول هذا ما نحن مجسمة وهو تشبيه محض تعالى الله عز وجل عن المحل والحيز لاستغنائة عنهما ذلك مستحيل فى حقه عز وجل)( ابن الجوزى، دفع شبه التشبيه،نفس المكان). وروى ابن حجر فى الفتح والبغوي فى تفسيره عن عبدالله بن عباس وأكثر المفسرين أنهم تأولوا ( استوى ) فى قوله " الرحمن على العرش استوى " (طه :5) بمعنى ارتفع .

ب/ الألفاظ التي يفيد ظاهرها المحدودية فى الزمان:

فلفظ المجئ له معاني فى القران مثل إتيان البأس كقوله تعالى " فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا ان قالوا ان كنا ظالمين" ( الأعراف :5)، ومثل اتيان أمر الله " وجاء ربك والملك صفا "،قال الإمام احمد بن حنبل معناه أمر ربك ، و قال القاضي أبو يعلى قال الإمام احمد المراد به قدرته وأمره بينه فى قوله تعالى ( او يؤتى أمر ربك ) (الحصنى، المرجع السابق

). ولفظ النزول له معاني فى القران منها الإيجاد والخلق " وأنزلنا الحديد " والوحي " وأنزلنا إليك الكتاب "، ومنه قرب الإجابة كما حديث النزول .ونقل البيهقي عن حماد بن زيد من تأويله نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا الوارد فى أحاديث النزول باقباله جل جلاله إلى عباده (البيهقى،الأسماء والصفات،ص471) .

ج/ الألفاظ التي يفيد ظاهرها التشابه بين الله تعالى والإنسان:

فلفظ اليد له معاني فى القران مثل الحضور والمثول كما فى قوله تعالى " بين يدى رحمته " " وبين يدى عذاب شديد " ، ومثل النعمة فى قوله تعالى " بين يداه مبسوطتان" . يقول ابن الجوزى( ولا يحتاج إلى تأويل من قال الإصبع الأثر الحسن فان القلوب بين أثرين من آثار الربوية هما الإقامة والإزاغة ولا إلى تأويل من قال يداه نعمتاه.( ابن الجوزى، المرجع السابق. ). يقول ابن حزم ( ان الألفاظ الموهمة للتشبيه امثال قوله " يد الله فوق أيهم " "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام "" فانك باعيننا " ليس هناك داعيا لتاويلها على غير ظاهرها فهي مجاز ظاهر يفهمه العربي دون حاجة إلى ادني تأويل ، فوجه الله مثلاً ليس غير الله بدليل قوله عزوجل " انما نطعكم لوجه الله " حاكيا عن رضي منهم من الصالحين وهم لا يقصدون بذلك غير الله وقوله ايضا " اينما تولوا فثم وجه الله"وفى الحديث " لقد ضحك الله الليلة من فعالكما " أول البخاري الضحك بالرحمة(ابن حجر، فتح الباري ج 7 ، ص82).وحتى الامام ابن تيميه تاْول الوجه فى الايه ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ( (القصص: 88) بمعنى دينه وإرادته وعبادته حيث قال (أي: دينه وإرادته وعبادته، والمصدر يُضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول أخرى، وهو قولهم: ما أريد به وجهه، فكل معبود دون الله باطل، وكل ما لا يكون لوجهه فهو هالك فاسدٌ باطل. وسياق الآية يدل عليه)( شرح العقيدة الواسطية؛ لابن عثيمين 1/ 286.)

علاقة الذات بالصفات :

مذهب الصفات عين الذات
:قالت المعتزلة بنفى الصفات الزائدة على الذات ، يترتب على هذا أنها ترى الصفات الإلهية هي عين الذات .

تقويم: نلاحظ تطرف المعتزلة فى التجريد يمهد لانقطاع الصلة بين الإنسان وربه كما يقول ابن القيم (فان أوصاف المدعو إليه ونعوت كماله وحقائق أسمائه هي الجاذبة للقلوب إلى محبته وطلب الوصول إليه، لان القلوب انما تحب من تعرفه وتخافه وترجوه وتشتاق إليه وتلتذ بقربه وتطمئن إلى ذكره بحسب معرفتها بصفاته، فإذا ضرب دونها حجاب معرفة الصفات والإقرار بها امتنع منها بعد ذلك ما هو مشروط بالمعرفة وملزم لها، إذ وجود الملزوم بدون لازمه والمشروط بدون شرط ممتنع)( ابن القيم، مدارج السالكين، ج3، ص 224).ويمكن أن نوضح هذا التمهيد لانقطاع الصلة بين الله تعالى وصفاته والإنسان من نفيهم الصفات الزائدة على الذات ، فصفاته هي إذن عندهم هي عين ذاته، ولما كانت ذاته لا يمكن إدراكها لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ( بنفيهم الرؤية )، لزم من هذا ان صفاته تعالى لا يمكن إدراكها .

مذهب فصل الصفات عن الذات :أما الاشاعرة فقالوا ان الله تعالى عالم بعلم وعلمه غير ذاته ، وقادر بقدرة وقدرته غير ذاته وهكذا .

تقويم: هذا القول يؤدى إلى فصل الصفات عن الذات، وقد تعرض ابن حزم لنقد هذا القول ( هذا قول لا يحتاج فى رده إلى أكثر من انه شرك مجرد وابطال للتوحيد ،لأنه إذا كان مع الله شئ غيره لم يزل معه، فقد بطل ان يكون الله تعالى كان وحده، بل صار له شريك فى انه لم يزل وحده، وهذا كفر مجرد ونصرانية محضه، إنها دعوى ساقطة بلا دليل أصلا ،وما قال بهذا احد قط من اهل الإسلام قبل هذه الفرقة المحدثة بعد الثلاث مائة عام "الأشاعرة "،فهو خروج عن الإسلام وترك للاجماع المتيقن)( ابن حزم، الفصل، ج2، ص135.)

المذهب المرجح
:والمذهب الذى نرجحه هو انه لا يجوز القول باتحاد صفاته بذاته ، ولا فصل صفاته عن ذاته، لان الفصل والوصول والغير والعين من صفات المحدود بالزمان والمكان، والله تعالى ذو وجود مطلق يقول ابن حزم ( علم الله تعالى حق وقدرته حق ، وكل ذلك ليس هو غير الله تعالى ، ولا العلم غير القدرة والقدرة غير العلم، اذ لم يأت دليل بغير هذا من عقل ولا سمع ) ) الفصل، ج2، ص135 ) . والعلاقة بينهما ان الذات هي عين الوجود المطلق لله تعالى، أما الصفات فهي مادل على هذا الوجود المطلق .

طبيعة الفعل الالهى ( مسألة التعليل لأفعال الله تعالى ):

المعتزله :
قالوا ان الله تعالى يعمل الاعمال معلله بمقاصد، لأنه حكيم لا يصدر عنه الفعل جزافا ، ثم يصلون من هذا القول إلى القول بوجوب الصلاح والأصلح، اى انه بمقتضى ان الله تعالى لا يفعل الا ما يكون حكمه ،فمستحيل ان يأمر بغير الصالح وينهى عن الطالح، فيجب له الصلاح ويجب له الأصلح .

الاشاعره : قالوا ان أفعال الله تعالى لاتعلل، لان ذلك يقيد إرادة الله لذا اجازوا - بفرض عقلي لا شرعي نقلي - ان يخلف الله وعيده وان يعاقب الطائع ويثيب العاصي ، ذلك لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

الماتريديه : قالوا ان أفعال الله تعالى تكون على مقتضى الحكمة لان حكيم - كما وصف نفسه - فى حكمه التكويني والتكليفى , أراد هذه الحكمة لكنه قصدها غير مجبر عليها ولا ملزم لانه مختار مريد ، فلا يقال انه يجب عليه فعل الصلاح والأصلح، لان والوجوب يستلزم ان لغيره حقا عليه والله تعالى لا يسأل عما يفعل ، وان عقاب العاصي وثواب الطائع لحكمه قصدها ، ومنع ان يخلف وعيده لان الله وعد بمقتضى حكمته .

ابن تيميه : يرى ان الله تعالى خلق الخلق وأمر بالمأمورات ونهى عن المنهيات لحكمة محمودة ،ويقول إنه ( قول المسلمين وغير المسلمين وقول طوائف من أصحاب ابو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول طوائف من علماء الكلام ).

الحل المرجح: إن حل المشكلة يعتمد على الفهم الصحيح للفعل المطلق لله تعالى - المعبر عنه فى القران بالربوبية - فقول المعتزلة بوجوب الأصلح لله تعالى يوحى بأنه فعل محدود بفعل لسواه ، أوجب عليه فعل الأصلح وألزمه به، والفعل المطلق " الذى ينفرد به الله تعالى " هو الفعل الذى يحد كل فعل لسواء وكل فعل لسواه محدود به . وقول الأشاعرة ان أفعال الله لا تعلل يوحى بانتفاء الحكمة عن الفعل المطلق لله تعالى، وهو نقص وقصور لا يجوز ان يلحق بالفعل المطلق لانه كامل كما بينت الماتريدية وابن تيمية , وبالتالي ينبغي القول ان الله تعالى أوجب على نفسه فعل الأصلح لا القول يجب عليه فعل الأصلح، أي انه تعالى التزم بفعل الأصلح لعباده ، وليس ملزم بفعل الأصلح لعباده، فالقول الأول لا ينفى كون فعله تعالى مطلق ، لانه حد فعل بذاته، والقول الثاني نفى لكون فعله تعالى مطلق ، لانه حينها يكون محدود بفعل لسواه ،هذا الفرق هو ما تقرير القران ان الله تعالى" كتب على نفسه" ، كما فى قوله تعالى " كتب الله على نفسه الرحمة " .


د. صبرى محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم
[email protected]


المراجع

1. ابن تيميه، مجموعة الرسائل والمسائل،ج 5.
2. ابن الجوزي، دفع شبهة التشبيه،طبعه القاهره، بدون تاريخ.
3. ابن الجوزي ، صيد الخاطر، ج1.
4. أبو الوفاء سيد درويش، محاضرة في القضاء والقدر، مصر 1964.
5. ابوحنيفه، الفقه الأكبر، طبعة مصر.
6. ابن حزم، الفرق بين الفرق، طبعة ألقاهره،1943.
7. الشهرستانى، الملل والنحل، دار الكتب العلميه، بيروت.
8. ابوريان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، القاهره،دار الكتب الجامعية ،1986.
9. الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن. طبعه مصر ، بدون تاريخ .ج 1.
10. العقيلى ، تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيميه،المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
11. ابن الأثير ،النهاية في غريب الحديث،مادة (زهد) .
12. الصابوني ،عقيدة أهل السنة، دار الكتب المصرية ،1946.
13. المناوى، فيض القدير شرح الجامع الصغير، الجزء الثالث.
14. الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الثالث.
15. زينب الخضيري، أثر ابن رشد في الفلسفة في العصور الوسطى، دار التنوير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى