مقدمة:
"كتبت هذه القصة وأنا في سن السابعة عشر، ثم فقدتها، وسأحاول أن أعيدها الآن، بعد ستة وعشرين عاماً، وأتمنى أن تكون بذات الروح التي كُتبت بها في حينه".
...
كان الراهب ينتظر علامة من السماء، ليست علامة تدل فقط على قبول السماء لعبادته طيلة عشرات السنين؛ بل أيضاً لتلقي النبوة، لقد كان يعتقد دائماً بأنه سيتلقى النبوة لينقل إلى العالم رسالة خالدة.
وعلى اثر هذا الأمل، كان يخرج كل ليلة لينظر إلى السماء، فيراقب النجوم اللامعة في الظلام، ويرى الشُّهب تنقذف في غيهب الظلام، ثم تتبدد، ولم يحمل ذلك العلامة التي يشتاق لها. لقد اعتاد الراهب على العُزلة، معتكفاً في صومعته البسيطة، مكتفياً ببعض الحليب والتمر، والنوم على حصير قديم.
مضت فصول عديدة، صيف وشتاء وربيع وخريف، وكان خريف سنته هذي شديد العنف، إذ ارتجت السماء بالرعود والأمطار، والراهب يصلي وشمعة تتوسط أرض الصومعة، حين تناهت إلى مسامعه طرقات عجِلة ضعيفة على الباب الخشبي القديم.
وظن الراهب لوهلة أنها النبوة لا محالة، إذ لا سبيل لأحد بلوغ صومعته وسط الصحراء في هزيع الليل. انفرجت أساريره وقد أخذته رعشة الغبطة، فمضى نحو الباب حاملاً شمعته المتراقصة، لترسم على وجهه الخاشع ظلالاً ضاحكة. غير أنه ما أن فتح الباب حتى تكومت تحت قدميه فتاة بدوية وهي تسعل وقد تسربلت بماء المطر من رأسها وحتى أخمص قدميها. وخلفها كانت تقف معزة نحيلة تكاد تموت من الوهن. فجر الراهب الفتاة البدوية حتى أجلسها وسط الصومعة، ثم أتبعها فأدخل المعزة وربطها في مواجهة المحراب. أخبرته الفتاة البدوية بآخر صوت لها، بأن الرياح والأمطار داهمتها منذ غروب الشمس ففقدت طريق عودتها، حتى تبدى لها ضوء من شقوق حواف باب الصومعة..
ثم أغشي على الفتاة، أما المعزة فقد أطلقت غثاءها الأخير لافظة أنفاسها. ووقف الراهب بدهشة وقد لفته الحيرة فيما يصنع، ثم هدته بصيرته فأخرج جثة العنزة، وعاد مبللاً بالمطر.
ثم حمل الشمعة وقرب ضوءها من وجه الفتاة فرآها فاتنة الحسن، وقد بقى في شفتيها القرمزيتين الصغيرتين نَفَسٌ ضعيف، فضغط على صدرها ونفخ بفيه على شفتيها ما جاد به صدره من هواء، فسعلت الفتاة، ثم استلقت في نوم عميق بعد أن أجرعها قليلاً من الماء.
وظل طوال الليل يراقب الفتاة، فرأى في جمالها العجب العجاب، حتى هفت نفسه إليها، فوقع عليها، وقد أخذته لوثة الحرمان لسنوات. فلما قضى وطره، استيقظت الفتاة، ونظرت إليه بحزن وقالت:
- لماذا فعلت ذلك؟
ثم شحب وجهها وتبددت ملامحها لتتحول إلى كائن مضيئ شفاف، بجناحين عظيمين؛ ثم قالت:
- لقد فشلت في الإمتحان أيها الراهب الطيب...كانت النبوة تحت قدمي الصبر دائماً..
صاح الراهب والدموع تغطي وجهه:
- ولكن يا ملاك الرب..أبسبب فقد صبري لمرة واحدة تحرمني من الخير العظيم؟
رفرف الملاك بجناحيه، وعبر سقف الصومعة مختفياً بين أنواء السماء بعد أن قال:
- قد تكون تلك هي الرسالة أيها الراهب الطيب..
(تمت)
"كتبت هذه القصة وأنا في سن السابعة عشر، ثم فقدتها، وسأحاول أن أعيدها الآن، بعد ستة وعشرين عاماً، وأتمنى أن تكون بذات الروح التي كُتبت بها في حينه".
...
كان الراهب ينتظر علامة من السماء، ليست علامة تدل فقط على قبول السماء لعبادته طيلة عشرات السنين؛ بل أيضاً لتلقي النبوة، لقد كان يعتقد دائماً بأنه سيتلقى النبوة لينقل إلى العالم رسالة خالدة.
وعلى اثر هذا الأمل، كان يخرج كل ليلة لينظر إلى السماء، فيراقب النجوم اللامعة في الظلام، ويرى الشُّهب تنقذف في غيهب الظلام، ثم تتبدد، ولم يحمل ذلك العلامة التي يشتاق لها. لقد اعتاد الراهب على العُزلة، معتكفاً في صومعته البسيطة، مكتفياً ببعض الحليب والتمر، والنوم على حصير قديم.
مضت فصول عديدة، صيف وشتاء وربيع وخريف، وكان خريف سنته هذي شديد العنف، إذ ارتجت السماء بالرعود والأمطار، والراهب يصلي وشمعة تتوسط أرض الصومعة، حين تناهت إلى مسامعه طرقات عجِلة ضعيفة على الباب الخشبي القديم.
وظن الراهب لوهلة أنها النبوة لا محالة، إذ لا سبيل لأحد بلوغ صومعته وسط الصحراء في هزيع الليل. انفرجت أساريره وقد أخذته رعشة الغبطة، فمضى نحو الباب حاملاً شمعته المتراقصة، لترسم على وجهه الخاشع ظلالاً ضاحكة. غير أنه ما أن فتح الباب حتى تكومت تحت قدميه فتاة بدوية وهي تسعل وقد تسربلت بماء المطر من رأسها وحتى أخمص قدميها. وخلفها كانت تقف معزة نحيلة تكاد تموت من الوهن. فجر الراهب الفتاة البدوية حتى أجلسها وسط الصومعة، ثم أتبعها فأدخل المعزة وربطها في مواجهة المحراب. أخبرته الفتاة البدوية بآخر صوت لها، بأن الرياح والأمطار داهمتها منذ غروب الشمس ففقدت طريق عودتها، حتى تبدى لها ضوء من شقوق حواف باب الصومعة..
ثم أغشي على الفتاة، أما المعزة فقد أطلقت غثاءها الأخير لافظة أنفاسها. ووقف الراهب بدهشة وقد لفته الحيرة فيما يصنع، ثم هدته بصيرته فأخرج جثة العنزة، وعاد مبللاً بالمطر.
ثم حمل الشمعة وقرب ضوءها من وجه الفتاة فرآها فاتنة الحسن، وقد بقى في شفتيها القرمزيتين الصغيرتين نَفَسٌ ضعيف، فضغط على صدرها ونفخ بفيه على شفتيها ما جاد به صدره من هواء، فسعلت الفتاة، ثم استلقت في نوم عميق بعد أن أجرعها قليلاً من الماء.
وظل طوال الليل يراقب الفتاة، فرأى في جمالها العجب العجاب، حتى هفت نفسه إليها، فوقع عليها، وقد أخذته لوثة الحرمان لسنوات. فلما قضى وطره، استيقظت الفتاة، ونظرت إليه بحزن وقالت:
- لماذا فعلت ذلك؟
ثم شحب وجهها وتبددت ملامحها لتتحول إلى كائن مضيئ شفاف، بجناحين عظيمين؛ ثم قالت:
- لقد فشلت في الإمتحان أيها الراهب الطيب...كانت النبوة تحت قدمي الصبر دائماً..
صاح الراهب والدموع تغطي وجهه:
- ولكن يا ملاك الرب..أبسبب فقد صبري لمرة واحدة تحرمني من الخير العظيم؟
رفرف الملاك بجناحيه، وعبر سقف الصومعة مختفياً بين أنواء السماء بعد أن قال:
- قد تكون تلك هي الرسالة أيها الراهب الطيب..
(تمت)