ثائر زين الدين - شعراء وذئاب

رسمَ الشعرُ العربيُ القديمُ بامتياز أشكال الصراع المختلفة التي عاشها الإنسانُ العربيُّ منذُ وجد نفسه على هذه الأرض ؛ من صراعٍ بينَ الإنسان والكائنات المختلفة التي تحيطُ به ، إلى صراعٍ بين المخلوقات كلها ـ بما فيها الإنسان والطبيعة ، إلى صراعٍ ثالثٍ بين الإنسان وأخيه الذي يقاسمه أسباب الحياة، وصولاً إلى صراعٍ لا يمكن للمرء أن يخرج منه سالماً ـ إن كان قد أتيح له ذلك في الأشكال السابقة ـ

إنّه الصراع مع البيئة ، وقد لا نجد شاعراً عربياً إلا وعبر عن ذلك ؛ ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر عَبيدُ بن الأبرص الذي رأى بنظرة تشأمية جاهلية أن الموت الوارث الوحيد للأرض حين قال في معلقّته واصفاً أطلال الديار :

وبُدلت من أهلها وحوشاً = وغيّرت حَالها الخطوبُ
أرضٌ توارثها شَعوبٌ = وكل من حَلّها محروبُ ([1])

ومنهم لبيد بن ربيعة رضي الله عنه الذي قال :

وما الناس والأهلونَ إلا ودائعٌ = ولا بُدّ يوماً أن تُردَّ الودائِعُ

ممّا دَفَع نفراً من الشعراء ـ أمامَ إحساسهم بالعجزِ حيال خصمٍ لا يُقهر ـ إلى "الرغبة في التشيّؤ لعل الشاعِرَ يُريحُ روحَهُ المعذَّبة ، وعقلَهُ المُرهق من مرارة الإحساس وعناءِ التفكير والوعي ، وإلا فما معنى قول تميم بن مقبل :

ما أطيبَ العيش لو أن الفتى حجرٌ = تنبو الحوادثُ عنهُ وهو مَلموم

إنّها الرغبة في ( التشيؤ الصلب ) تحديداً ، فإذا أصابته أحداثُ الدهرِ نبت عنه دونَ أن تصيبه بأذى ([2])".

ولو عُدنا إلى الشكل الأوّل من أشكال الصراع ، أعني صراع الإنسان مع المخلوقات المحيطة بهِ لوجدنا أن للذئبِ حضوراً لافتاً ، ومتنوّعاً في الشعر المُعبّر عن ذلك ، حضوراً يختلفُ باختلاف الشاعِرِ وتكوينِهِ وشجاعتِهِ وحقبتِهِ التاريخيّة وظرفِهِ الاجتماعي وغيرها من العوامل الذاتيَة والموضوعيّة !

فذئبُ الشنفرى لا يشبّه ذئبَ البُحتري إلا قليلاً مع أنّ الثاني أحدُ أحفاد الأوّل . وذئبُ الفرزدق يكادُ لا يمت بصلة إلى ذئب مالك بن الريب وذئبُ كعب بن زهير يختلفُ كثيراً عن ذئبِ حميد بن ثور الهلالي ؛ مع أن الشاعرين عاشا المرحلة نفسها وتوفيّا بعد منتصف القرن الأوّل الهجري على الأرجح ؛ وأزعمُ أن الذئبَ نفسه لو بَرز لشاعرين مُبدعين ؛ فسنرى صورتَهُ عند أولهما لا تماثِلها عند ثانيهما !

فهل كان حضور الذئب في الشعر العربي القديم حضوراً عاديّاً ؛ كأحدِ مفردات البيئة ، التي لا بدّ للشاعِرِ من تداولها هل كان مادةً يمتحن الشعراءُ قرائحهم في وصفها ، ضمن باب وصف الطبيعة فحسب ؟ هل كان مُجرّد غرضٍ من أغراض القصيدة الطويلة كالوقوف على الأطلال ووصف الناقة وصولاً إلى غايات أخرى ؛ هذا إذا قبلنا بمفهوم الأغراض نفسه في شعرنا القديم ؟ أما شهدت صورةَ هذا المخلوق الشجاع المرهوبِ تبدلاً وتطوراً في شعرنا أم أنها ظّلت على حالها لمئات السنين ؟ أما تحوّل حضور الذئب من حضورٍ ماديٍّ فيزيائيٍ إلى حضور رمزي ؟

كل هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن نصلَ إلى أجوبةٍ فيها من خلال دراسة مجموعة من المشاهد الشعريّة أو اللوحات الخلاّبة التي قَدّمها الشعراء العرب وكانَ الذئب بطلها .

*المرقش الأكبر ([3]) والذئب :

المرقّش الأكبر شاعرٌ جاهليٌ فحل ، شعرُهُ من الطبقة الأولى وقد ضاع معظمُه ، عُرِف عَنهُ أنّه من متّيمي العرب وعشّاقهم وفرسانهم الشجعان ، كان لَهُ موقعٌ في بكر بن وائل وحروبها مع بني تغلب ، وبأس وشجاعة ونجدة وتقدّم في المشاهد ، ونكاية في العدو وحسن أثر ([4]).

أحبّ المرقّش امرأةً تدعى أسماء حُبّاً شديداً ، فحَفل شعرُهُ بمظاهر هذا الحُب ، التي قدّمته رقيقَ الحاشية صادقاً مولعاً بالطبيعةِ ومشاهِدها ، حتى الأوابد منها والوحوش ؛ تزوّجت أسماءُ رجلاً من بني مُراد ، فمرضَ المرقّشُ زمناً ، ثُمَّ قصَدَها فماتَ في حَيّها ، قيلَ نحو سنة 75 قبل الهجرة = نحو 550 للميلاد ([5]).

وفي قصيدةٍ يفتتحها المُرقّش الأكبر بالوقوفِ على أطلال أسماء هذهِ وقد غادرت ناعياً وحشةَ المكانِ ، وتبدّل حالِه وقسوةَ العيش فيه يقدّم لنا صورةً أخّاذة لزيارة الذئب :

ولمّا أضأنا النار عِنْدَ شوائنا = عرانا عليها أطْلَسُ اللون بائسُ ([6])
نبذتُ إليهِ حُزَّةً من شِوائنا = حياءً وما فُحشي على مَنْ أُجالسُ ([7])
فآضَ بها جذلانَ ينفُضُ رأسَهُ = كما آبَ بالنهبِ الكميُّ المحُالِسُ

لقد ترك الشاعِرُ تلك الأطلال ومنزل الضنك كما عَبّر في قصيدته تلك :

ومنزلُ ضنكِ لا أريدُ مَبيتَهُ = كأني بهِ من شدّة الرَّوعِ آنِسُ

وانطلق على ناقتِهِ في ليلٍ موحشٍ تصاعدَت فيه أصواتُ البوم كالنواقيس :

وتسمَعُ تَزْقاءً من البوم حولنا = كما ضُربت بعدَ الهدوءِ النواقس

زقوُ بومٍ لعلّهُ ينذرُ بأن رحلة الشاعر صوبَ ديار أسماء الجديدة هي رحلةٌ باتجاه الموت ، لكنّ الشاعرَ الفارس العاشق لا يهتم لذلك هاهو ذا ينزلُ عن راحلتِهِ ويشعلُ النار ويعدُّ الشواء ، فيستضيفُهُ الذئبُ ، ذئبٌ أغبرُ اللون إلى سواد ، حزين وبائس ، فيحسُّ المُضيفُ ـ وهو ابن الصحراء ـ بحالِ ضيفه ، وتأبى عليهِ عاداتُ قومِه أن ينهرَه ، أو يسيءَ مُعاملته وهو على ما هو عليهِ من جوعٍ وسغبٍ وبؤسٍ ، فيقتطعُ لَهُ من شوائِهِ حُزَّةً ويرميها إليهِ فيقبضُ عليها ، ويرجعُ بها سعيداً ، يهزُّ رأسَهُ محبوراً ، وأمام هذا المشهد يسترفدُ المرقّش قاموسُ فروسيّته ، فيستعيرُ لهذا الذئبِ صورةَ الفارس الشجاعِ يكمي شجاعَتَهُ ويستُرها لوقت الحاجة ، فيؤوبُ بغنيمَتِهِ بعدَ أن ثَبتَ في القتالِ واستحقَّ الفوز ... الشاعِرُ يُعلي من شأن الذئب هنا حين يخلَعَ عليهِ هذا الوصف .. ولو كان لا ينظُرُ إليه باحترامٍ وتقدير لوَجَدَ لهُ وصفاً آخر .. ثمّ دعونا نغوص على أبعادِ هذه الصورة أعمقَ فأعمق ؛ فإذا بلغنا لا وعيَ الشاعر ألا نستطيع أن نرى في مشهَدِ هذا الذئب الذي وفّقَ في مأربِه ، وعادَ فائِزاً كفارسٍ شجاع ، مَا يأمَل الشاعر في تحقيقهِ لنفسه مع أسماء ، ألا يقصدُ ديارها وفي نفسِهِ أملٌ كبيرٌ في استعادتها والعودة بها " جذلان ينفضُ رأسَهُ " فَرَحاً .

*الشنفرى والذئب :

الشنفرى أحد أهم أغربة العرب وذؤبانها وصعاليكها ، وقيل : الشنفرى اسمه ، وقيل هو لقبٌ غالب عليه لعظم شفتيه . أما اسمه فهو عمرو بن مالك الأزدي ، وقد نشأ في بني سُلامان الذين أسروه صغيراً وربّوه ليخدمهم ، فلّما شبّ وعَرَف حقيقته أقسم أن يقتل منهم مئة رجل ، ويقال إن الشنفرى قتلَ رجلاً فعزَم بنو سلامان على تسليمه لأهل القتيل لأنّه ليس منهم ، ففرَّ إلى الصحراء وأخذ بثأرِه حيّاً وميتاً ؛ وتلكَ قصّةٌ أخرى ، توفي الشنفرى حوالي عام 70 قبل الهجرة = 525 للميلاد .

لقد رأى عمروُ بن مالك في أبي جعدة ، أو أبي جاعد ، أو أبي ثمامَة ـ ما لقبّتهُ العرب ـ صديقاً ، بل واحداً من الأهل بعد أن انقطعت سُبُل المودّة والتراحم والشفقة بينَه وبين أمّه ، وآثَرَ أن يبتعِدَ عن الأذى والبغضاء واجداً بين وحوش الفلاة مُتَعزّلاً :

أقيموا بني أُمّي صدورَ مطيّكم = فإني إلى قوم سواكم لأميلُ
وفي الأرضِِ منأىً للكريم عن الأذى = وفيها لمن خافَ القِلى مُتعزّلُ
ولي دونكم أهلونَ : سيدٌ عَمّلسٌ = وأرقَطُ زهلولٌ وعرفاءُ جيألُ ([8])
هم الأهلُ لا مستودَع السِر ذائعٌ = لديهم ، ولا الجاني بما جُرَّ يُخذَلُ ([9])
وكلٌ أبيٌّ باسِلٌ غير أنني = إذا عرضت أولى الطرائد أبْسَلُ ([10])

لقد وَضَعَ الشنفرى الذئبَ القوي السريع في قائمةِ أهلِهِ الجُدد قبلَ النمر والضبع وغيرهما من الوحوش ، وذكر صفات هذه العائلة التي جعلته يلتجئ إليها فراراً من ظلم ذويه وخذلانهم له ، لقد بلغَ الرجُلُ من الإحساس بالغربة في مجتمع البشر أن وصفَ نفسه قائلاً :

يرى الوحشةً الأُنسَ الأنيسَ ويهتدي = بحيثُ اهتدت أمُّ النجومِ الشوابكِ

إننا حين نتحدّثُ عن الشنفرى وبعضِ صعاليك العرب نجدُ أنفسنا كما عَبَر د . وهَب روميّة قبالَةَ قضيةِ " انتماء "؛ قضيّةِ " ذاتٍ أرهقها " المجتمعُ الإنساني " بظلمه وأذاه وبغضه ، فإذا هي تخلع " انتماءَها " إلى هذا المجتمع ، وتؤسسُ " انتماءً جديداً " لها إلى " المجتمع الحيواني " !! إنها " تغترب " عن عالم الإنسان ، وتلوذُ بعالم الوحوش الكاسرة ، فتكشف بذلك عن اغتراب قاسٍ جريح . ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل الشنفرى يشبّه نفسه بالحيوانات الضارية ، وبالجن ( .... ) ولعلّهُ أيضاً سببُ هذا النداء " بني أمّي " الذي يجاوز القبيلةَ إلى بني الإنسانِ عامً ، وهاهو ذا يخلعُ انتماءَه " إلى هؤلاءِ جميعاً ، ويلتحق بأشباهِهِ من ذئاب الصحراء ووحوشها الضارية([11]) "، ومن هنا نفهَمُ فَرَحَهُ حين كان يسمعُ ألسنةَ خصومِهِ تروي أخبارَ غزواتِه مشبّهةً إياه بالذئب أو ولد الضبع خِفّةً وسرعة :

وأصبحَ عنّي بالغُميصاء جالساً = فَريقانِ : مسؤولٌ وآخر يسألُ
فقالوا : لقد هَرّت بليلٍ كلابُنا = فقلنا : أذئبٌ عَسَّ ، أم عَسّ فُرعُلُ" ([12])

للشنفرى قصيدةٌ لاميّة تقعُ في ثمانية وستينَ بيتاً ، سَمّتها الناسُ فيما بعد " لاميّةَ العرب "، وسَمّاها المستشرقُ جورج يعقوب " نشيدَ الصحراء ([13]) "، لأنها صورت صحراءَ العرب بصورةٍ " تجعلك تحسُ كأنك تعيشُ فيها بين قفارها وحرورها ، وطيرها وحيوانها وقطاتِها وسبعها ، وكأنّما يهبُّ عليك من أسلوبِه نفسُ الصحراء ، ونفحةٌ من رمالها ورياحها وعيشها الجديب ([14])"، وقد خّصّ الشاعِرُ الذئبَ بعشرة أبياتٍ منها : من البيتِ السادس والعشرين حتى الخامس والثلاثين ؛ ووقعت هذه الأبيات في وسط قصيدة ابتدأها الشاعرُ بإعلانِهِ انصرافَهُ عن قومِه مبيّناً أسبابَهُ ، ثُمّ قدّم مفهومَه للرجل الحقيقي من خلالِ استعراضِ مجموعة من النماذج البشريّة المرفوضة ؛ منها نموذَج الراعي الذي يترك قطِعَ الجمالِ منذ الصباح حتى المساء دون رعاية مخافةَ الشمسِ والعطش ، ثُمّ يسبقُ صغار الإبلِ إلى حليب أُمّهاتِها ليتركها جائعة ، ومنها نموذج الرجل الجبان المُلاصَقَ لامرأتِهِ يستمعُ إلى رأيها ويأخذ بهِ ، ومنها نموذج المخنّث الذي لا ينفك يَطيّب ويتكّحل ويجالس النساء ، ورأى أن لا علاقة لَهُ بهذهِ النماذج ، التي يفضلُ عليها ثلاثةَ أصحاب : قلبٌ شجاعٌ مقدام ، وسيفٌ بتّارٌ مجرّدٌ من غمدِه ، وقوسٌ متينة مُزّينة بسيورٍ جلديّةٍ وخرز بعد ذلك يقدّم الشاعِرُ وصفاً عميقاً لحياتِهِ وسلوكِهِ ؛ من صبرٍ وتجلّدٍ على الجوع والعطشِ إلى نومٍ أقربُ ما يكون لنوم الوحوشُ خشونةً وحذراً وفي هذا المقطع يشبّهُ الشاعرُ نفسه ـ في تحمّله الجوع ـ بالذئب ، ويصفُ لنا في لوحةٍ أخّاذة مشهدَ قطعِ الذئاب الجائعة ، ليصف بعد ذلك نفسه وهو يسابقُ القطا إلى الماء فيسبقها ويشربُ قبلها . ويخلُصَ في هذا المقطع إلى نتيجةٍ مفادها إن هذا الأسلوبَ من الحياة هو الذي يحفظ لَهُ كرامته وحرّيته ، ويلوحُ لَهُ عالم الإنس من جديد فيستحضر همومَه ومشاكله مع بني البشر ويتساءَل بأي جنايةٍ سيؤخّذ ، ثُمّ يستذكر متفاخراً غَزوةً له " بغميصاء "، ويروي مزهوَّاً حيرةَ أعدائِهِ وهم يحاولونَ معرفةَ من غزاهم فينسبونَ فعلته تلك إلى الذئبِ أو ابن الضبع أو الجن ؛ فالإنسُ لا يستطيعون فعل ذلك ؟!

وإذا كان الشاعرُ قد افتتحَ نشيده بإعلانِهِ تركَ قبيلتِهِ إلى معشرِ الوحشِ فهو يختمِهُ بمشهدٍ رائعٍ لاندماجِهِ بقطيع الوعول البريّة في يومٍ قائظٍ لا تتحّملُ الأفاعي حَرّه .. فإذا بإناث الوعول " الأراوي " تستقبله وتحتفي به وكأنّه أحدُ ذكورها ، و" عندَ هذا اللقاء تبلغُ مُعاناتُه ذروتها فيتحقق لهُ الخلاص بنبذ إنسانيته ، التي أصبحت مثل ذكرى مُرّة وبالانغماس في رؤيا السلام والأمن والحب في الفلوات المنقطعة وبين الوعول المسالمة الودود " ([15]) لقد أوجزتُ القصيدة ورؤياها في السطور السابقة حتى يصبح مشهد الذئبِ واضحاً للقارئ ولنقرأ الآن الأبيّات المعنيّة هي كما قلت تتوسَطُ القصيدة تماماً ، وتأتي بعد تمهيدٍ غنّي بصور تحمّل الشاعِر الجوعَ :

وأغدو على القوتِ الزهيدِ كما غدا = أزلُّ تَهَاداهُ التنائِف أطحَلُ ([16])
غدا طاوياً ، يُعارضُ الريح هافياً = يخوتُ بأذناب الشعابِ، ويَعسِلُ ([17])
فلّما لواه القوت من حيثُ أمَّهُ = دعا ، فأجابته نظائرُ نُحّلُ ([18])
مُهَلْهَلَةٌ ، شيب الوجوه ، كأنّها = قداحٌ بكفي ياسرٍ ، تتقلقَلُ ([19])
أو الخشرَمُ المبعوثُ حَثْحَثَ دَبْرَهُ = محابيضُ أرواهُنَّ سَامٍ مُعَسِّلُ ([20])
مهَّرتهٌ ، فوهٌ ، كأنّ شدوقَها = شقوقُ العِصِيِّ ، كالحاتٌ وبُسّلُ ([21])
فضجَّ ، وضَجّتْ ، بالبَرَاحِ ، كأنّها = وإياهُ ، نُوْحٌ فوقَ علياءَ ، ثُكّلُ ([22])
وأغضى ، وأغضَت ، واتّسى ، اتّسَتْ به = مَراميلُ عَزّاها ، وعَزَّتْهُ مُرمِلُ ([23])
شكا وشكتْ ، ثمّ ارعوى بَعْدُ وارْعَوتْ = وللصَّبْرُ ، إنْ لم ينفعِ الشكوُ ، أجمَلُ ([24])
وفاءَ وفاءتْ بادراتٌ ، وكُلُّها = على نكظٍ ممّا يكاتِمُ ، مُجمِلُ ([25])

إذاً فالشاعِرُ يصبرُ على الجوع ويحتملُ ألمَهُ حتى يميتَه ، وذلكَ باتباع سبيلٍ واحد لا ثاني له هو محاولةُ نسيانهِ حتى يذهَلَ عنهُ تماماً ؛ وقد يستفُّ الترابَ ولا يقبلُ بفضلٍ أحدٍ عليه حتى إذا كان الصباحُ غدا للحصولِ على رزقِه كذئبٍ أملحٍ خفيف ، فجابَ الفيافي ، وشَقّ الشعاب مواجهاً الريح ، ومنقضّاً على هذهِ الطريدة أو تلك إن كان ثَمّة ما يُطارَدُ ، فإذا ما أُسقطَ في يديه وقفَ مُعتلياً إحدى القمم وراحَ يعوي بكلِ ما في النفسِ من ألمٍ وجوعٍ وحسرةٍ ، فأجابته ذئاب لا تقلُّ عنه جوعاً وهزالاً ، حتى بدت وجوهُها شاحبة بيضاء لا دماء فيها ، ذئابٌ نحيلة تتجهُ نحوه ، فيُسْمَعُ لعظامِها قلقلة كصوت اصطكاكِ الأقداحِ في يدي لاعب الميسر ، ذئابٌ تثيرُ جلبةً ودوّياً ؛ كدوي النحلِ حين يثيرُهُ مشتارُ العسل بعيدانِهِ .. ذئابٌ ذات أشداقٍ واسعةٍ مفتوحة ؛ لكنّها كشقوقِ العصي كنايةً عن عطشها وجفافِها ، إنّها ذئابٌ عابسة كريهة الوجوهِ لجوعها وعطشها ، لقد استجابت لنداء صَاحبها فجاءت مواسيةً ! فإذا بهِ يقابلها بالزمجرةِ والعواء وتجيبه بالمِثل فيقفُ الفريقان متقابلين كالنائحاتِ تندبُ واحدتهنّ فقيدَها ... ويحسُّ كلٌ منها بالآخر ؛ فيسبِلُ الذئبُ جفونه على عينيه جَرّاء الشعور بالخيبة وتقتدي الذئابُ الأخرى به وقد وصلت رسالَةُ المؤازرة والمواساة ، يبثُّها حزنَهُ وتجيبه ، ثُمَّ يصمتُ الفريقانِ إدراكاً منهما أن الصبرَ في مثل هذهِ الحالة أكثرُ فائدةً وأجملُ بصاحبه .. بعد ذلك يعود الذئبُ أدراجه ؛ وتتبَعُهُ الذئابُ التي استجابت لَه في المجيء ، تظهِرُ جميعُها التجلّدَ والتحمّلَ بعد أن عَبّرت عن الألفة والمودّة والشعور بإحساس الآخر .. أليس هذا ما افتقدَهُ الشنفرى في بني قومِه ... ولماذا لا يكون هذا الذئبُ هو الشنفرى نفسُه ؟ ولماذا لا تكونُ الذئابُ الأخرى هي الصعاليك أنفسُهم ([26]) ؟! بل لو أمعنا النظرَ في قطيع الذئاب هذا فسنجدُ فيهِ تأبّطَ شراً والسليك بن السلكة وقيس بن الحداديّة وغيرَهم .. وإلا فما معنى هذا التراحم والمودّة والإحساس المتبادل .. لو أنّ الذئابَ مجرّد ذئاب لانتهى المشهَدُ بصورةٍ أخرى .. لا أقولُ صورة وحشيّة دمويّة ـ لأنّ ذلك عندئذٍ لن ينسجم مع رؤيا القصيدة العامة ـ لكن أقول صورة فيها من الخشونةِ والقسوة ما يتوافَقُ مع قسوةِ ما يحيطُ بقطيع الذئاب ؛ إذاً لم يكن ذلك الذئب إلا مُعادلاً خارجيّاً لشخص الشاعِر ، يُحمِّلُهُ كل ما احتملَ ، ويسبِغُ عليه صفاتِه نفسَها وأخلاقَه ، ويراقبُهُ وهو يتصرّف ، ويتخذ من المواقف ما يتخذُه الشاعر تماماً في ظروف الجوع والعطش والخيبة ، ولعلّ ما ذهبتُ إليه في هذا الرأي يلتقي بصورة أو بأخرى مع رأي الباحث العراقي د . عناد غزوان إسماعيل حين قال ([27]) : " ذئب الشنفرى جائع يشاركه الجوع أصدقاء لَه يعيشون في المأساة ذاتها مما يجعل القارئ يستنتج أن الذئب في هذهِ اللوحة رمز لحياة الصعاليك "، وإلى ذلك يقدّمُ الشنفرى في مشهد الذئب معرفةً عظيمةً بالفضاء الصحراوي الذي تتحرّكُ فيه ذئابُهُ ، والكائنات الأخرى ، معرفة بهذهِ الأوابد نفسها ، لكن اللغةَ كما لاحظنا جاءت خشنة وعرة ، فرسمت بالمجمَلِ صورةً بدويةً صعلوكيّة ؛ قدّمها الشاعِرُ وكأنّه يقف خارج المشهد ؛ فجاءت كحكايةٍ صغيرة تغني النص الكبير الذي ضَمّها ! ونلاحظ في المشهد أيضاً استطاعَ أن يُحقق خصوصيّةً فنيّةً ميّزت أبيات الشنفرى السابقة : وهي الانسجام والاتساق الموسيقي الذي جاءَ عفوياً دون تكلّفٍ وتعمّل كقولِهِ : " غدا طاوياً يعارض الريح هافياً " ، " فضجَّ وضجّت " ، " وأغضى وأغضت واتّسى واتّستْ بهِ " " شكا وشكتْ ثُمّ ارعوى بعدُ وارعوت " ، " وفاءَ وفاءت " إن التناسق اللفظي وكثرة أفعال الحركة في المقطع كله أكسبت المشهد ديناميكيّة عاليّة أنقذته من السكون وجعلته واقعياً نابضاً بالحياة .

*حميد بن ثور الهلالي والذئب :

حميدُ بن ثور الهلالي رضي الله عنه وأرضاه شاعرٌ مخضرم عاش في الجاهلية والإسلام ، عدّهُ الأصمعي واحداً من أعظم أربعةِ شعراء في الإسلام هم : " راعي الإبل النميري ، وتميم بن مقبل العجلاني ، وابن أحمر الباهلي ، وحميد الهلالي " ([28]) ، وقد اختلفَ مؤرخوا الأدبِ في تاريخ وفاته ؛ فقال بعضهم إنه توفي في أيام عثمان بن عفّان رضي الله عنه وأرضاه ، وقال آخرون إن الرجل أدرك أيام عبد الملك بن مروان الذي ولي الخلافة سنة 65 هجريّة ([29]).

لحميد قصيدة كاملة تتحدث عن ذئبٍ جائع يتربّص بقطيع من الضأن والمعز ، طمعاً في الحصول على واحدٍ من صغارها ، لكنّ ربّة القطيع تقفُ لَهُ بالمرصاد :

ترى ربّةَ البَهْم الفِرار عشيّةً = إذا ما عَدَا في بَهْمها وهو ضائعُ ([30])
فقامَتْ تَعُسُّ ساعةً ما تُطيقُها = من الدهرِ نامتها الكلابُ الضوالِعُ ([31])
رأتهُ فشكّت وهو أطحَلُ مائلٌ = إلى الأرضِ مثنيٌّ إليهِ الأكارعُ ([32])
طوى البطين إلا من مصيرٍ يَبُلُّهُ = دمُ الجوفِ أو سُؤْرٌ من الحوضِ ناقِعُ ([33])
هو البَعلُ الداني من الناس كالذي = لَهُ صحبةٌ وهو العدو المُنازِعُ ([34])
ترى طرفيهِ يَعْسِلانِ كلاهما = كما اهتزّ عودُ الساسِمِ المُتتايِعُ ([35])
إذا خافَ جَوْراً من عدوٍ رمت بهِ = مخالبُهُ والجانبُ المتواسِعُ ([36])
وإنْ باتَ وحشاً ليلةً لم يضق بها = ذِارعاً ، ولم يُصبح لها وهو خاضِعُ ([37])
ويسري لساعاتٍ من الليل قَرَّة = يهابُ السرى فيها المخاضُ النوزاعُ ([38])
إذا احتلَّ حِضْنَيْ بلدةٍ طُرَّ منهُما = لأخرى ، خَفيَّ الشخصِ للريح تابعُ ([39])
وإن حَذِرتْ أرضٌ عليهِ فإنّهُ = بغِرَّةِ أخرى طيّبُ النفسِ قانعُ
إذا نالَ من بَهْمِ البخيلةِ غِرَّةً = على غفلةٍ ممّا يرى وهو طالِعُ
تلومُ ولو أن ابنَها فرحت بهِ = إذا هَبَّ أرواحُ الشتاء الزعازِعُ
ونمْتَ كنومِ الفهدِ عن ذي حفيظةٍ = أكلتَ طعاماً دونَهُ وهو جائِعُ
ينامُ بإحدى مُقلتيه ِويتّقي = بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجعُ
إذا قامَ ألقى بوعَهُ قَدْرَ طولِهِ = ومدَّدَ منهُ صُلبَهُ وهو بائعُ ([40])
وفكَّكَ لَحْييهِ فلّما تعاديا = صأى ثُمَّ أقعى والبلادُ بلاقَعُ ([41])
فظلُّ يُراعي الجيشَ حتّى تغيّبتْ = خُباشٌ وحالت دونهنَ الأجارِعُ ([42])
إذا ما غدا يوماً رأيتَ غَيايَةً = من الطيرِ ينظرنَ الذي هو صانِعُ ([43])
فَهمَّ بأمرٍ ثُمّ أزمَعَ غيرَهُ = وإن ضاقَ أمرٌ مَرّةً فهو واسِعُ

يقوم المشهد الذي صوَّرَهُ الشاعِرُ على عددِ من الشخوص ـ على سبيل المجاز ـ أولاً : المرأة ربّة البهم ، وقطيعُها ، وكلابُها التي بدت زائدة ؛ لا تضرُّ ولا تنفع ، وليست معنيّة إلاَّ بطلبِ السِفاد . ثانياً : الذئبُ الجائعُ الهزيلُ ، الأطحلُ اللون ، الذي يدفعُهُ جوفُهُ الفارغُ ـ إلا من أمعائِهِ الخاوية الضامرة المطوية على جرعةِ ماءٍ ودماء ـ إلى الاقتراب من بني البشر كأن لَهُ بينهم أصحاباً وما كانَ بين الطرفين إلا العداء أبدَ الدهر .

ثالثاً ـ مجموعة من الرجال تظهرُ في المشهدِ فجأةً ؛ يتبعها الذئبُ وقد مُنِعَ عن صغار الغنمِ والماعز ؛ ويظل يترصّد هؤلاء البشرَ حتى غابت " خباشُ " عن الأنظار وحالت بينَهُ وبينهم " الأجارع " وكانَ كُلّ أملِهِ أن ينفردَ واحدٌ من هؤلاء ، ويبتعدَ عن صحبِهِ ، فينقضَ عليه ويقضي به وطره .

هذا هو المشهد إذاً بشكلٍ مُكثف ، لكن الشاعر لا يقدّمُهُ ـ كما رأينا ـ على هذا النحو فحسب بل يُعطى كلَ فريقٍ من الفرقاءِ حَقَّهُ من الوصفِ والتصوير ، قابضاً زمامَ السرد بيدِه ومستغنياً بهِ عن الحوار الخارجي أو الداخلي أو تدخّل أصوات أخرى ، لكنَّ الطريف في هذا السارد أنّه يخاطب نفسه في بيتٍ واحدٍ فقط يأتي في الثلث الأخير من القصيدة مذكِرّاً بحضور شخص المؤلِف في بعضِ القصص والروايات المعاصرة ؛ ثُمَّ يختفي من جديد يقولُ البيت :

ونمتَ كنومِ الفهدِ عن ذي حفيظةٍ = أكلتَ طعاماً دونَهُ وهو جائعُ

كيفَ نبتَ هذا البيتُ في القصيدة فجأةً ؛ من يخاطب الشاعِرُ هنا ؛ في بداية قراءتي النص قدّرتُ أن هناكَ خطأً في تثبيت صيغة الخطاب ، ولعلّ الشاعر يخاطبُ المرأةَ نفسها التي حمت قطيعها من الذئب مَرّةً بالهروبِ بهِ من البادية إلى مرابعها ومَرّة بتفقّدِ صغار البهائم ليلاً ، وقد غفلت الكلاب الضوالِعُ بعد أن حققت مُرادها ، لكنني نفيتُ هذا الاحتمال ، فما كان لمثلها أن تنامَ وهي ترى الذئبَ يحوّم حولَ القطيع ، ولاسيّما أن الشاعِرَ قَدَّمَها متعلّقةً ببهمها بصورةٍ تدعو إلى الغرابة ؛ حتى أنّ الأهون عليها أن يقتنِصَ الصَّيادُ أحدَ أبنائِها من أن ينالَ واحداً مِنها ، وعليه رجّحت أن يكونَ الشاعِرُ فريقاً رابعاً في المشهد ينظرُ إليهِ من بعيد ويراقبُ كل ما يدور ويحدُث دونَ أن يتدخّل ، حتى أنّهُ يتناول طعامَه وينامُ كنوم الفهدِ حَذِراً يقظاً . إنّ هذا الشكل من تدخّل المؤلف في نصّه ذكرّني كما قلتُ بطريقةٍ فنيّة في بناء السرد القصصي والروائي ستستخدَمُ في هذا الجنسِ الأدبي بعدَ زمن الشاعِرِ بألفِ سنةٍ على الأقل يقدّمُ المشهَدُ أيضاً معرفةً عميقةً بعالم الوحشِ ولاسيّما الذئب في هذا المقام لقد وصفَهُ الشاعِرُ من الخارج في البداية ، فقدّمَ لنا هيئتَهُ ، لونَهُ ، هُزالَهُ ، مشيتَهُ ، مستثمراً الموجوداتِ من حوله في هذا الوصف فساقاهُ حين يعسلُ في مشيتِهِ كغصني " الساسِم المتتايع "؛ هزيلتان بالتأكيد ، لكن مرنتانِ وصُلبتان وهكذا ... ثُمّ وصفَ سلوكه وحالته النفسيّة ، إنّه شديدُ الصبر والجَلد ، والكبرياء فحين يخشى جور أحدٍ عليه ينطلقُ في البراري الواسعة مُغادراً موطن الجور ، وحين يجوعُ لا يتذمّر ولا يخضَعُ بالمقابل ، بل يصبر ثُمّ يسعى لاقتناصِ صيدٍ يدفع عنه مرارةُ الجوع ، فإذا بسحابةٍ من الطير تُرافقه عَلّها تصيبُ من صيدِهِ شيئاً ، وقد عَوّدها على ذلك فهو يتركُ لها ما تقتاتُ به من فريسته ، وإلى ذلك وصفَ الشاعِرُ حذر هذا المخلوق الشديد ؛ إنّه حتى خلال نومِه يظلُّ يقظاً ؛ فيغمضُ عيناً ويفتَحُ أخرى ..

وذئبُ حميدٍ الهلالي ـ بعدُ ـ مترددٌ لسبب لا نعرفُهُ ؛ هل هو طبعٌ في الذئاب . أم أن تردّد الذئبِ يعكسُ حالةً نفسيةً عند الشاعِر ، أو يصوّر صفةً جوّانيةً من صفاتِ مبدع الأبيات نفسه ؟ يبقى السؤالُ مفتوحاً لا جوابَ له ، لأننا لا نزعُمُ معرفتنا بصفات الشاعِر النفسيّة ولاسيّما أن ما يفصلنا عنهُ ألف وأربعمئة عام من الزمنِ والتحوّلات والتغيرّات .

كعب بن زهير والذئب :

كعبُ بن زهير بن أبي سُلمى المزني شاعِرٌ من الشعراء المخضرمين الفحول ، ينتمي إلى بيتٍ من أعرقِ بيوت العرب في الشعر ، هو ابن زهير ، وأخوهُ بجير ، وابنُهُ عقبة ، وحفيدُهُ العوّام ، وكلّهم شعراء ، كان الرجُلُ من المشهورين في الجاهلية ، وحين انطلقت الدعوة المحمّدية وقفَ منها موقِفَ المعارض وهجا النبي (e) ، وتغزّلَ بنساء المسلمينَ للنكاية " فهدرَ النبي دَمه ، فضاق كعبُ ذرعاً ، ثم جاءَ إلى النبي مستأمِناً وقد أسلم ، وأنشدَهُ معتذراً لاميته المشهورة ، التي مطلعها :

بانتَ سعادَ فقلبي اليوم مبتولُ = متيمٌ إثرها ، لم يُفدَ مكبولُ

فعفا عنهُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وخلَعَ عليهِ بُردَتهُ ، ثُمّ توفيَ سنةَ 645 م" ([44]) وكعبُ كما هو معروف واحدٌ من " عبيد الشعر "، وهم مجموعة من الشعراء امتازوا بالعملِ حولاً كاملاً على القصيدة قبل نشرها ، تهذيباً وتنقيحاً وتكثيفاً و " تحكيكاً "، حتى تبرز إلى الناس بصورة مُثلى ، من هؤلاء زهير وأوس بن حَجْر والحطيئة .

لكعب بن زهير لاميّة معروفة مطلعها :

ألا بكَرتْ عرسي تلومْ وتعذِلُ = وغير الذي قالتْ أعفُّ وأجمَلُ ([45])

تقعُ في ثلاثةٍ وخمسينَ بيتاً ([46])، خَصّ الشاعِرُ مشهدَ الذئب فيها بسبعةَ عَشَرَ بيتاً من الثاني عشر حتى الثامن والعشرين يقول فيها :

وصرماءَ مذكارٍ كأنّ دويَّها = بُعَيدَ جنانِ الليل ممّا يُخيَّلُ ([47])
حديثُ أُناسيٍّ فلّما سمعتُهُ = إذا ليس فيه ما أبينُ فأعقِلُ
قطعتُ يُماشيني بها مُتضائلٌ = من الطُلسِ أحياناً يخبُّ ويعسلُ ([48])
يحبُّ دنوَّ الأُنسِ منه وما بهِ = إلى أحدٍ يوماً من الأنسِ منزِلُ
تقرّبَ حتى قلتُ لم يدنُ هكذا = من الأنسِ إلا جاهِلٌ أو مضلَّلُ
مدى النبلِ ، تغشاني إذا ما زجرتُهُ = قُشعريرةٌ من وجهِهِ وهو مقبلُ
إذا ما عَوى مُستقبلَ الريحَ جاوبت = مسامِعَهُ فاهُ على الزّاد مُعْوِلُ
كسوبٌ إلى أن شبَّ عن كسبِ واحدٍ = مُخالِفُهُ الإقتارُ لا يتحوّلُ
كأن دخانَ الرِمثِ خالَطَ لونَهُ = يُغلُّ بهِ من باطنٍ ويُجَلَّلُ ([49])
بصيرٌ بأدغالِ الضَّراءِ إذا خَدَا = يعيلُ ويخفى بالجهادِ ويمثُلُ ([50])
تراهُ سميناً ما شتا وكأنّهُ = حَميٌّ إذا ما صافَ أو هو أهْزَلُ ([51])
كأنَ نَساهُ شرعَةٌ وكأنَّهُ = إذا ما تمطّى وجهةَ الريحِ مِحْمَلُ ([52])
وحَمْشٌ بصير المقلتينِ كأنّهُ = إذا ما مشى مستكرِهَ الريحِ أقزَلُ ([53])
يكادُ يرى ما لا ترى عينُ واحدٍ = يثيرُ لَهُ ما غيَّبَ التُربُ مِعْولُ
إذا حضراني قلتُ لو تعلمانِهِ = ألم تعلما أني من الزادِ مُرمِلُ
غُرابٌ وذئبٌ ينظرانِ متى أرى = مُناخَ مبيتٍ أو مقيلاً فأنزِلُ
أغارا على ما خَيَّلتْ وكلاهُما = سيخلُفُهُ منّي للذي كانَ يأمَلُ

يقطعُ الشاعر أرضاً قاحلةً مُخيفة ، لا يجرؤ على عبورها إلا الذكور ؛ فإذا ما هبط الليل عليهِ راح يسمَعُ في جنباتِها دويّاً غريباً ؛ ظنّهُ للوهلة الأولى أُنسيّاً ، فحاولَ أن يتبيّن معناه لكن دون جدوى ؛ عندها فهم أن هذا الدويّ ليس إلا عزيفَ الجنِ ، وربّما لحسنِ حظّهِ ما شاهُ في هذهِ المفازة ذئبٌ أغبرُ اللونِ إلى سواد ، هزيل الجسد ، ذئبٌ بهِ ما بالشاعِرِ ـ على الأرجح ـ من إحساسٍ بالوحشةِ والرهبة ، ولعلّ هذا ما دَفَعَهُ إلى الاقتراب من الشاعِر ، وربّما من غيرِه أيضاً في مثلِ حالتهما .. كان الذئب يَعْسِلُ ويخبُّ ، ويدنو حتى أصبَحَ في مَرمى النبلِ ؛ مما جعَلَ الشاعر يحدّث نفسه قائلاً : ما من وحشٍ يقتربُ من بني البشرِ على هذا النحو إلا إذا كانَ غِراً جاهلاً لا خبرةَ لديهِ ، أو ضالاً ضائعاً يريدُ من الآدميِّ أن يُرشده . حتى إذا تجاوزَ الذئبُ في دنّوه من الشاعِر حَدّ الأمان ، رأيناه يزجرُهُ فتعلو وجههُ قشعريرة ، ويعوي عكسَ الريحِ فتصفر داخِلَهُ لخلاءِ معدتِه وأمعائه ، كنايةً عن الجوع ويمضي كعب بن زهير وفي وصف شكل الذئبِ ولونه بعدَ أن اقتربَ منه كما أسلفتُ إلى مسافة جعلت ذلك مُمكناً ، ثُمَّ يُقارِنُ بين حالي الذئب في الشتاء والصيف ليقول لنا إن الذئبَ لا يكون هزيلاً جائعاً في الشتاء مثلما هو في الصيف لأن الطعام يكون وافراً عندئذٍ .

وفجأةً يظهرُ في المشهدِ غُرابٌ نحيلُ الساقين ، جائعٌ أيضاً كصاحبِهِ الذئب ، فيراقبُ الاثنانِ كعباً عَلَّهُ ينزِلُ في مكان ما ويبسطُ ما مَعَهُ من زاد ، فيقدّمُ لهما شيئاً منه لكن الشاعِرَ يخاطبهما بوضوح : إن أملهما لن يتحقق لأنّهُ هو أيضاً مُرمِل ، لا زادَ عند ويرجعان خائبين جائعين .

إن هذا المشهد ـ وما سبقَهُ أيضاً وربّما ما سندرسُهُ لاحقاً ـ يعتمدُ بصورةٍ كبيرة على عُنصر السردِ والقص ، ولعلّ طبيعة الحكاية التي يقوم عليها تفرض ذلك ، لكننا نلاحظ هنا حضور شكلين من أشكال الحوار ؛ الأوّل داخلي على شكل مونولوج حين خاطب الشاعر نفسه قائلاً :

تقرّبَ حتّى قلتُ لم يدنُ هكذا = من الإنسِ إلا جاهلٌ أو مُضّللُ

والثاني خارجي يتوجّهُ فيه الشاعِر إلى مرافقَيه ؛ الذئب والغراب :

إذا حضراني قلتُ لو تعلمانِهِ = ألم تعلما أنّي من الزاد مُرمِلُ

وهذانِ الحواران جعلا النص لصيقاً بالقصّة القصيرة ، وبعثا الدمّ والتشويق في جسدِهِ وكشفا ـ مع العناصر الأخرى في اللوحة ـ الحالة النفسية لشخوص المشهد وما اعتَمَلَ في نفوسِهم ، إزاء وحشة المكانِ ، والجوع والعطش وهي أمور مُلازمة لطبيعة العيش في الصحراء .






([1]) المعلّقات العشر، دراسة ونصوص: تقديم بولس سلامة، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت، لبنان 1969 ص (214 ـ 215) ـ شَعوب: المنيّة. محروب: مسلوب .

([2]) د. وهب أحمد روميّة، شعرُنا القديم والنقد الجديد، علم المعرفة 207، الكويت، آذار 1996، (ص 197 ـ 198).

([3]) هو عمرو بن مالك بن طبيعة .. من نزار بن عدنان، سُمّي المرقّش بقوله :

الدار قفرٌ والرسوم كما
= رقّش في ظهر الأديم قلم

انظر : ابن قتيبة الشعر والشعراء، ج 1، ص 138.

([4]) الجواهري، الجمهرة، ج 1، العصر الجاهلي، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1985، ص 136.

([5]) المفضليات، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون، ط 4، دار المعارف بمصر 1964، ص 221.

([6]) المفضليات، (سابق)، المفضليّة رقم (47) مؤلفة من (20) بيتاً، الأبيات (14، 15، 16) في وصف الذئب ص 226.

عرانا : أتانا ـ أطلس : أغبر اللون إلى سواد .

([7]) حُزّة: قطعة ـ الكمى المجُالِس: الشجاع الشديد الذي لا يبرح مكانَهُ في الحرب .

([8]) سيد : ذئب ـ عَمّلس : قوي على السير والجري ـ أرقطُ زهلول : نمر أملس ـ عرفاء : أي ذات عُرف ـ وجيأل : من أسماء الضبع ، أي الضبع ذات العرف الطويل ، وهو شعر أعلى العنق .

([9]) جر : ارتكبَ جريرةً أو إثماً .

([10]) أبيٌّ : صاحب أنفةٍ وعِزّة ـ باسل : شُجاع .

([11]) د. وهب أحمد روميّة، شعرُنا القديم والنقد الجديد، سابق، ص (265 ـ 266).

([12]) فُرعُل : ولد الضبع ـ عَسَّ : طافَ .

([13]) د. عناد غزوان إسماعيل، قراءة عصريّة في أدب الذئب عند العرب، مجلّة المورد، المجلد الثامن، العدد الأوّل، بغداد 1979، الصفحات (81 ـ 103)/نقلاً عن د. محمّد بديع شريف، لاميّة العرب، ص 7.

([14]) نفسه ص 84 نقلاً عن د. محمّد صبري "الشوامخ، الشعر الجاهلي ـ خصائصه وأعلامه، مطبعة دار الكتب المصريّة، القاهرة 1944، ص 125.

([15]) د. محيي الدين صُبحي، دراسات رؤويّة، وزارة الثقافة، دمشق 1987، ص 192.

([16]) أزل: الذئب خفيفُ الوركين، لقلّةِ لحم الوركين ـ تهاداهُ: تهديه المفازةُ لأخرى ـ التنائف: جمع تنوفَ وهي المفازة. الأرض القفر ـ أطحل: الذئب الذي لونه بين الغبرةِ والبياض. الأملح.

([17]) طاوياً: جائعاً ـ يذهب يميناً وشمالاً من شدّة الجوع، وقد يعني السرعة في العدو، إذا حف على الأرض واشتدّ عدوه ـ يخوت: ينقضّ ـ أذناب الشعاب: أواخرها، والشعاب الطرق في الجبال ـ يعسل: يمشي خبباً ويسرع.

([18]) لواه: دفعه وامتنع عليه ـ أمَّهُ: قصَدهُ ـ نظائر: أشباه، أمثال ـ نُحّل: مهازيل وضوامر.

([19]) مهلهلةٌ: خفيفة اللحم ـ شيب الوجوه: مبيضّه ـ القداح: جمع القدح، وهو السهم قبل أن يُراش. الياسر: اللاعب بسهام الميسر ـ قلقلها: حَرّكها.

([20]) الخشرم: رئيس النحل، أو النحل ـ المبعوث: الذي انبعث في السير: أي أسرع ـ حثحثَ: حَضَّ ـ دبرَهُ: الدبر جماعة النحل ـ محابيض: ج محبض: عود يكون مع مشتار العسل يثير به النحل ـ أرواهنّ: ثبتهن ومكنهن ـ سامَ: اسم فاعل من السمو؛ المرتفع العالي ـ المعُسِّل: طالب العسل.

([21]) مهَّرتهٌ: مشقوق الفم شقّاً واسعاً؛ أي واسعة الأشداق ـ فوهٌ: جمع أفوه وفوهاء، مفتوحة الفم، واسعة الفم. شدوقُها: جمع شدق، وهو جانب الفم ـ كالحات: الكلوح، تكشّر في عبوس ـ بُسّلُ: كريهة الوجوه.

([22]) فضجَّ: يقال أضجّ القوم اضجاجاً إذ جلبوا وصاحوا ـ البَرَاح: الأرض الواسعة لا رزعَ فيها ولا شجر ـ نُوحٌ: النساء النوائح، جمع نائحة، والتناوح في الأصل تقابل الشجر بعضها بعضاً.

([23]) الإغضاء: إدناء الجفون بعضها من بعض ـ اتسى: امتثل واقتدى ـ المراميل: جمع مرملة، الفاقدة غذاءها

([24]) ارعوى: تركَ، سكت ـ شكا: بث حزنه.

([25]) فاءَ: رَجَعَ ـ بادرات: مُسرعات ـ النكظُ: الجوع الشديد ـ المجمل: الصابر على مضض.

([26]) ما يؤكد وجهة النظر هذه هو تشيبه الشنفرى نفسه وجماعته بالذئاب في بعض أشعاره :

خرجنا فلم نَعْهَد وقلّتْ وَصَاتُنا
= ثمانيةٌ ما بَعْدها مُتعتّبُ

سَراحينُ فتيانٌ كأن وجوهَهُمْ
= مصابيحُ أو لَوْنٌ من الماءِ مُذْهَبُ

والسراحين: جمع سرحان وهو الذئب. أنظر: الأغاني ج 21، ص 141 ـ 142.

([27]) د. عناد غزوان إسماعيل، سابق، ص 87.

([28]) ديوان حميد بن ثور الهلالي، عبد العزيز الميمني، مصر، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1951، ص: ون.

([29]) د. عناد غزوان إسماعيل، سابق، ص 91.

([30]) ضائع: يقصد هنا جائع.

([31]) تعسُّ: تطلبُ مُرادها ليلاً ـ الضوالع من الكلاب: التي تطلبُ السِفاد.

([32]) الأطحل: الرمادي اللون.

([33]) مصير ـ معي ويجمع على مصران، وجمع الجمع مصارين ـ طوِي: ضامر البطن ـ سُؤْر: بقعة ـ ناقع: وصفٌ من نقعَ الماءُ العطشَ نقوعاً إذا سَكّنه.

([34]) البَعِل: البرمُ بأمره.

([35]) يعسلان: يهتزان، وعيل الذئب مضى مُسرعاً مضطرباً في عدوه ـ الساسم: شجرٌ تصنعُ منه السهام ـ المتتايع: الذي لا عُقدَ فيه ولا ميول.

([36]) المتواسِع: وصفٌ من السعة.

([37]) باتَ وحشاً: يقصد جائعاً.

([38]) قَرّة: باردة ـ المخاض: الحوامل من النوق ـ النزاع: جمع نازع، وهي الناقة تحن إلى موطنها.

([39]) حضنا بلدة: جانباها ـ طُرَّ: طُرِدَ بشدّة.

([40]) البُوع والباع: قَدْرُ مد اليدين وما بينهما من البدن.

([41]) تعاديا: تباعدا ـ صأى: صاحَ ـ أقعى: جلسَ على إليته ونص فخذيه ـ بلاقع: أراض مقفرة.

([42]) خباش: نخلٌ لبني يكثر باليمامة، وقيل هضبة.

([43]) غيايةً: ما يظل الإنسان من سحابة أو غبرة أو ظلمة.

([44]) محمّد مهدي الجواهري، الجمهرة، ج 2، ق 1، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1990، ص 80.

([45]) شرح ديوان كعب بن زهير، صنعه السكري، الدار القوميّة للطباعة والنشر، القاهرة، 1965، ص 41.

([46]) نفسه، ص (41 ـ 60).

([47]) صرماء: أرض قاحلة ـ مذكار: لا يسلكها إلا الرجال، لأنها مخوفة ـ الدويّ: الأصوات الغريبة، يقصد هنا عزيف الجن ـ جنان الليل: هبوط الظلام.

([48]) المتضائل: الهزيل النحيف ـ الأطلس: الذئبُ الأمعط؛ في لونِهِ غُبرة إلى السواد ـ يخب: الخبب ضربٌ من العدو، يعسل: يعدو مُسرعاً.

([49]) الرِمث: شجر يشبه الفضا، لا يطولُ بل ينبسط ورقه ـ يُغل به: يدخُل ـ يُجلّل: يكسوه ويظهر على متنيه.

([50]) الضّراء: ما وراء المرءَ من شجرٍ أو غيره ـ خدا: سارَ مُسرعاً ـ يُعيلُ: يميلُ في ناحيته، ويقالَ عالَ في الأرض يعيل عيلاً وعيولاً إذا ضربَ فيها وذهَبَ ودار ـ الجهاد: الأرض الغليظة الصلبة لا نبتَ فيها ـ يمثل: يظهر.

([51]) حمي: مُحتمٍ ـ

([52]) نساه: النسا عرق في الساق ينحدر من الورك ـ شرعة: وتر، جمعها شِرَعٌ وشِرْعٌ.

([53]) حَمْش: غراب ـ مستكره الريح: أي يستقبل الريح فتصدّه ـ أقزل: أعرج.


د . ثائر زين الدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى