حسين أكرم غويلي - قراءة في كتاب:"الدين والاغتراب الميتافيزيقي" لعبدالجبار الرفاعي

تتذوق بقراءة كتابات د. عبد الجبار الرفاعي الكلمات كما تتذوق طعاما لذيذا، تجد الرفاعي كأنه يذيب العسل بالحليب، فيغذي الروح الظامئة لعطشها الأنطولوجي، ويرويها بعذب المناهل الروحية الأخلاقية.
أقرأ في كتاباته لمسات أدبية خاصة، لغته مضيئة، تستقي من لغة العرفاء، وتلتقي واللغة الرومانسية في الفكر الغربي. عباراته شغوفة بالمعاني الروحية الأخلاقية. ترى في لغته ضوءًا يهتدي به من هو بعيد عن الله والدين. يكشف لنا الرفاعي عن صورة بهيجة للدين، ويدلل على ضرورته في الحياة.
تشعر معه انك ترتوي من منبع إلهام روحي يكرس التدين الذي يجعلك ترى أجمل صورة لله. يكشف الرفاعي عن جوهر الدين الروحي الأخلاقي الإنساني بمهارة خبير متمرس. كلماته مكتوبة بلغة ايمانية شفافة، تقربك لله، حتى تشعر كأنك تراه.
كتاب عبدالجبار الرفاعي "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" يدرس ضرورة تحقّق الدين في مجاله الأنطولوجي الخاص، محيلًا موضوعات الكتاب لرؤية تتبنى فهمًا للدين لا يكرر كثيرًا ما هو متداول في الكتابات المختلفة عن الدين، محاولًا أن يعيد تصنيف حاجات الإنسان، ويرسم خارطةً لمراتبها، ويتعرّف على طرائق استيفائها، بالشكل الذي يكشف عن أن الحاجة الوجودية للدين تقع في مرتبة خاصة لا يمكن الاستغناء عنها، يفرضها وجود الإنسان.
يذهب الرفاعي إلى أن كل إنسان يولد في الأرض تولد معه سلسلة حاجات: مادية أولًا، وبموازاتها يولد معه صنف ثانٍ من حاجات ليست مادية (معنوية)، وبموازاتها يولد مع الإنسان صنف ثالث من الحاجة، هي حاجته للدين، التي تفرضها كينونته وهويته الوجودية، تشكّل هذه الحاجات مثلثًا ذا ثلاثة أضلاع ليست متطابقة، ولا متساوية… ‏تصنيف الرفاعي للحاجات البشرية الأساسية لا يتطابق مع التصنيف المشهور لهرم ماسلو، ‏الذي قدّمه ابراهام ماسلو في ورقته البحثيّة "نظريّة الدافع البشري" عام 1943، المنشورة في مجلة "المراجعة النفسية".
يرى الرفاعي ان عدم الوعي بهذه الحاجات، أو عدم تأمين أي ضلع منها، بالشكل المناسب لكيفية تلك الحاجات، يؤدي إلى اختلال في حضور الإنسان في العالم، ومتاعب وآلام في عيشه، وقلق وجودي.
يجد القارئ في موضوعات هذا الكتاب كيف يخرج الدين من حقله، بوصفه حاجةً وجوديةً، ليهيمن على حقول الحياة الأخرى التي هي من اختصاص العقل والعلوم والمعارف، فيتحول الدين من كونه حلًا للحاجة الوجودية إلى مشكلة تهدد العقل، وتحول دون تراكم الخبرة البشرية. وهكذا يرى القارئ أن أكثر مشكلاتنا تكمن في تمدد وتضخم هذه الحاجة، وإهدارها لغيرها من الحاجات الأخرى الأساسية، وابتلاعها لكل شيء في حياة الناس داخل مجتمعاتنا، فكثير من مشاكل عالَم الإسلام تعود إلى الإخفاق في التعرف على الحقل الحقيقي للدين، وحدود مهمته في حياة الكائن البشري، وما نتج عن ذلك من زحف وتمدد الدين وهيمنته على حقول الحياة الأخرى، والإخلال بوظيفة العقل والعلم والمعرفة، وإهمال قيمة تراكم التجربة والخبرة البشرية، وأثرها الأساسي في البناء والتنمية.
يحاول هذا الكتاب إرساء لَبَنات فهم الدين، ويرسم بوصلة ترشد لمنطق فهم آيات القرآن الكريم، من أجل بناء رؤية "إنسانية إيمانية" حسب مصطلح الرفاعي الخاص، وكما يقول: عساها تطل بنا على أفق مضيء، نرى فيه الدين من منظور مختلف، يصير فيه الدين دواءً لا داءً، والإيمان محررًا لا مستعبدًا، والتدين حالةً روحانيةً أخلاقية جمالية، تتجلى فيها أجمل صورة لله والإنسان والعالَم.
تتجلى روعة هذا الكتاب للقارئ، تحديدًا عند الباب الحادي عشر منه، تحت عنوان: "التصوف الفلسفي وعلم الكلام: رؤيتان للتوحيد"، وتتجلى روعة هذا الباب عند جزئية "الاغتراب الميتافيزيقي"، إذ تعتلي الروعة معالجة التشوه ببناء صلة الخالق بخلقه، وصلة الخلق بخالقهم، من اذ صاغ علم الكلام ذلك التشوه المتبادل بين الله والإنسان، عبر تشكيل صورة لخالق عنيف جزار سادي مازوخي، متعطش لتعذيب مخلوقاته، بل والتفنن في عذابهم.
يحاول الرفاعي هنا صياغة مختلفة موفقة لإزالة ذلك التشوه، وتشخيصه، ومعالجته روحيًا إيمانيًا إنسانيًا دينيًا نفسانيًا، يُزيل إغتراب الروح عن الله، واحتجاب صورة الله الرحيم الودود الرؤوف، الذي يتجسد بحب متبادل بين الخالق والمخلوق، حبًّا صادقًا يسمو لعلياء السماء لا لقعر الجحيم. حبًّا يسمو به الخلق لخالقه، ويتصل الخالق بمخلوقاته، ليتسامى ذلك الحب ويتصل وجوديًا بالحق؛ وعندئذ تتلاشى المسافات بين الإنسان ومقام الربوبية، لتتكون علاقة تتكلم لغة المحبة النابضة بالرحمة بين الخالق وخلقه، وعلاقة تراحم بين الخلق، وبناء صلة عضوية ميتافيزيقية بين الله والإنسان، تعلو لعلياء الروح المتعطشة لظمئها الأنطولوجي، الذي لا يرتوي الا بالصلة الحية بالله، التي هي صلة محبة ووداد، وليست علاقة عدائية عقابية.





1629066972050.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى