خير جليس د. محمد عبدالله القواسمة - الكتب والذكريات

هذه الكتب التي على رفوف مكتبة كل منا، أو حتى تلك المتناثرة في زوايا البيت، أو تلك التي ترقد في أدراج مكاتبنا المغلقة، لا شك في أن كل واحد منها، يبعث في نفوسنا عند رؤيته ذكريات تعود إلى زمان خبرناه، أو إلى مكان عشنا فيه، أو تحيي في عقولنا حدثًا مهمًا كان له تأثير كبير في حياتنا، أو تعيد إلى الأذهان صورة إنسان أحببناه كان في غياهب النسيان.
الكتب التي في بيتي تغرقني بالذكريات التي لا أستطيع منها فكاكًا؛ فأنى التفت إلى اليمين أو اليسار أرى كتبًا. لقد فاضت بها مكتبتي حتى زحفت إلى المطبخ، وغرفة المعيشة، وبيت الدرج. وما زالت تتكاثر في كل ركن وزاوية مع كل خروج لي من البيت وعودتي إليه؛ حتى باتت تهدد بطردنا أو حشرنا في غرفة ضيقة.
الذكريات التي تبعثها الكتب كثيرة ومتنوعة؛ فمن الكتب حين أراها قائمة أو منبطحة على الرفوف تعيدني إلى ذكريات مرحلة الطفولة؛ فهي كتب نحيلة، أغلفتها مصورة وسميكة، وورقها أبيض مصقول. وبعض الكتب تحمل ذكريات زياراتي لمعارض الكتاب، مثل معرض عمان الدولي للكتاب، أو معرض الشارقة، أو معرض طرابلس، أو معرض دمشق الدولي قبل أحداث ما يسمى الربيع العربي. ومن الكتب ما يبعث الذكريات الحزينة مثل تلك التي رافقتني في أيام ترددي على المستشفيات لزيارة أعزاء لفترات طويلة. ومثل هذه الذكريات تثيرها كتب تحمل كلمات إهدائية كتبها لي مؤلفوها بعضهم ما زالوا أحياء فأتمنى أن ألتقي بهم كثيرًا، وآخرون رحلوا عن هذه الدنيا فأدعو لهم بالرحمة والغفران. وفي المقايل توجد في مكتبتي كتب تبعث الذكريات الجميلة مثل تلك التي رافقتني في سفرات طويلة في بعض بقاع الأرض، وتلك التي كنت قرأتها في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية.
لعل أفضل الكتب وأهمها تلك الباعثة للذكريات التي تحمل في طياتها، أو ترافقها أحاسيس قوية، ومشاعر صادقة حول تجارب عشناها في مراحل العمر المختلفة. فنحن نعود إلى أي من هذه الكتب لنسترجع تلك المشاعر والأحاسيس. فأي منا ينسى الذكريات التي تتعلق بتلك المرحلة الجميلة من حياته، وهو يقرأ كتب أشعار نزار قباني، أو كتب المنفلوطي، مثل: العبرات والنظرات، وقصصه المترجمة، مثل: الفضيلة، ومجدولين، والشاعر، وفي سبيل التاج؟! وأي منا ينسى الذكريات التي تعبق بالألفة والمؤانسة تثيرها الكتب التي كان يقرأها وهو حول المدفأة في ليالي الشتاء الطويلة، مثل روايات فيكتور هوغو: البؤساء، وأحدب نوتردام، والرجل الضاحك؟! وأي منا يتجاهل أو ينسى الكريات الطافحة بالتنوير والأمل تبعثها الكتب الشعرية لصلاح عبد الصبور، واحمد عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل؟! وكذلك كتب طه حسين، وروايات نجيب محفوظ، ويوسف إدريس؟! لا شك أنها ذكريات يمكن استعادتها من خلال النظر إلى تلك الكتب التي قرأناها في زمن ما.
من دواعي الأسى أن الكتب تتعرض هذه الأيام في شكلها الورقي مع تقدم التكنولوجيا ووسائل الإعلام إلى خطر الاندثار والتلاشي. ولكنها مع ذلك سواء أكانت ورقية أم إلكترونية فستظل، بعد أن نقرأها، حاملًة، فضلًا عما تحمله من مواد علمية وأدبية، كثيرًا من ذكرياتنا التي لا يمكن لأحد أن يقدر على طمسها أو إضعافها.
الكتب، وبخاصة الجيدة منها، ليست مجرد أوعية معلومات مصنوعة من الورق بل هي كائنات تنبض بالحياة، وتغتني بالمعاني الكثيرة، والرموز الموحية. إنها كائنات لغوية بامتياز تستطيع أن تحكي لك حكاية، أو تخبرك بمعلومات مهمة، وتزودك بأفكار مفيدة. وهي فوق كل ذلك وبخاصة عند من يقتنونها في مكتباتهم تستطيع أن تبعث فيهم الذكريات، وتأخذهم إلى كل الاتجاهات الجميلة والحزينة، المتشائمة والمتفائلة، الغاضبة والهادئة. ستبقى الكتب على أي شكل كانت محركة للذكريات، فضلًا عن أنها مركز إشعاع للمعرفة أيضًا.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى