د. محمد عبدالله القواسمة - لا معارك أدبية ونقدية خسارة الثقافة

على ضوء ما تشهده منطقتنا من معارك تستخدم فيها الأسلحة المختلفة من قذائف، وصواريخ، وبراميل متفجرة، نتساءل عن معارك من نوع آخر، معارك في الجبهة الثقافية لا يستخدم فيها غير سلاح القلم وحده. لقد بتنا حقًا نفتقد إلى معارك أدبية ونقدية بين الشعراء أنفسهم أو بين غيرهم من النقاد ومتذوقي الأدب.
يحضرنا في هذا المقام تلك المعركة التي اشتعلت في النصف الأول من القرن العشرين حول مفهوم الشعر بين أقطاب مدرسة الديوان: عباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني، ومدرسة المهجر التي منها جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني من ناحية، وبين أقطاب مدرسة الإحباء أو الكلاسيكية التي منها طه حسين، وحافظ إبراهيم، ومصطفى صادق الرافعي. وكذلك المعركة التي اشتعلت بين الرافعي والعقاد، عندما انتقد العقاد كتاب الرافعي «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية» فرد عليه الرافعي بمجموعة مقالات تحت عنوان «على السفود» التي نشرت متتابعة سنة 1929، وفيها تهجم الرافعي على العقاد وشعره.
ولا ننسى من هذه المعارك الأدبية والنقدية المعركة التي أثارها كتاب « في الشعر الجاهلي» لعميد الأدب العربي طه حسين عندما تصدى للرد عليه في شكه بالشعر الجاهلي مجموعة من علماء الأزهر، من بينهم: الرافعي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضر حسين وغيرهم. ولا بد من ذكر المعركة التي شهدتها الساحة الثقافية العربية في العراق قبيل منتصف القرن الماضي حول ريادة الشعر الحر، التي اشترك فيها بدر شاكر السياب، ونازل الملائكة، ثم عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري. كما نذكر المعركة التي واكبت ظهور قصيدة النثر التي تفجرت مع ظهور مجلة «شعر» في خمسينيات القرن الماضي، وكان فرسانها: أنسي الحاج، وأدونيس، وشوقي أبي شقرا، والشاعر العراقي سركون بولص. ويعد أنسي الحاج الممثل الشرعي لقصيدة النثر مع صدور دبوانه «لن» عام 1960.
لقد ازدهرت هذه المعارك وغيرها من المعارك الأدبية والفكرية في ظل نوع من الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تلك البلاد التي ظهرت فيها وبخاصة مصر، وساعد على هذا الازدهار احتضان الصحافة لها، ومشاركتها فيها، كما لاقت القبول والاستحسان من فئات كثيرة من الناس. ومع أنها في بعض الأحيان كانت تميل إلى السخرية القاسية، وعنف القول، متأثرة بالمصالح الشخصية، والخصومات السياسية للأطراف المشتركة فيها غير أنها أفادت المشهد الثقافي العربي، وجعلته نابضًا بالحركة والفاعلية.
في أيامنا لا نكاد نجد معارك من هذا النوع الذي شهدناه في الماضي الجميل، لقد طغى على حياتنا الثقافية المدح والمجاملة، وغياب النقد الموضوعي الذي يساعد على تجويد الأدب وتطويره؛ ولم يعد كثير من النقاد والأدباء يحتملون ما يوجه إلى نتاجهم من نقد يتناول ما فيه من عيوب؛ وإذا ما انفلت ناقد وتجرأ على السائد وقارب نصًّا أدبيًّا أو خطابًا نقديًّا وفق رؤية موضوعية فإنه يكون قد اقترف إثمًا كبيرًا، فيتصدى له ليس صاحب النص المنقود وحده بل أيضًا كثيرون من أصدقائه ومعارفه وعشيرته، فيتهمونه بالتجني، والغباء، وربما يشتكونه إلى القضاء دون التمعن بما قدّمه من نقد.
لعل أمثال هذه المواقف وغياب المعارك النقدية يعود إلى اضطراب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، وإلى موت الأيديولوجيات التي كانت سائدة في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وما تبع ذلك من سيطرة التكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي؛ فلا شك أن النقد الموضوعي يحتاج إلى زيادة الوعي، والفكر الناقد، وتوافر الظروف الملائمة لازدهار قيم التسامح، وسيادة التعايش بين الفئات المختلفة.
إننا نحتاج إلى أن نعود إلى نقد موضوعي ينصب على النص الأدبي، ويقدم الناقد فيه رؤيته دونما اهتمام بالظروف التي لا صلة بينها وبين النص. إننا نطمح إلى نقد جريء غير شخصاني، نقد خالص لوجه النقد. كما أن على المتلقين سواء أكانوا نقادًا أم أدباء أو من الناس العاديين أن يرحبوا بسلاح القلم، ويتعاملوا مع النتاج الأدبي والثقافي بسلاح العقل والفكر، وبروح من التسامح والمحبة. بغير هذا لن يكون في بلادنا نقد حي مثمر، وسيبقى المشهد الثقافي في حالة من الجمود والجفاف.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى