* هدية خاصة لــ نقوس المهدي
خضراء منطقة ريفيّة نائية جدا. تتالت عليها سنوات الخصب فطابت بها الحياة، وابتسمت لأبنائها فتزاوجوا وتكاثروا وبأرضها تشبثوا، يعطونها الحب، تعطيهم النسل. ابن وحيد من أبنائها فر منها منذ الصّغر يلاحق حلقات العلم وازدهار الحياة في المدن المتقدمة حتى عاد إليها طبيبا في ريعان شبابه، محملا بأسرار التقدم وبحب لا يوصف لأهلها وبإخلاص مبالغ فيه لعمله. و وجد نفسه طبيبها الوحيد ومعالج أمراضها، لذلك عمل على أن تكون عيادته مفتوحة ليلا نهارا حتى أضحت تعج بمرضى يعالجهم مجانا، فهمه الوحيد ليس جمع المال كما الأطباء في المناطق الحضرية المتقدمة. إن مهنته كطبيب جعلته إنسانيا إلى أبعد الحدود،وحسب درجة إنسانيته حدد أهداف حياته، إنها التضحية التي لا تنضب من أجل حماية أهله من الأمراض الخطيرة، لكنه اكتشف أن أمراضهم غريبة عما درسه،فكل السكان يعانون من حدة البصر،حتى المتقدمون في السن منهم لم يضعف الدهر بصرهم .. لذلك عمل الطبيب جاهدا على صنع مستحضر يقضي نهائيا على هذا المرض ،ولما أكمل صنعه سماه "الكُحلي" لأنه يزيد العيون سوادا وجمالية والأهم من ذلك أنه يجعلها لا تبصر، فالعمى في عهده نعمة للمساكين "لا عين ترى لا قلب يوجع".
وما أن كاد يطمئن على راحة قلوب أهله حتى اكتشف الطبيب البارع أن القلوب لا تتألم فقط لما تراه العين،بل أيضا لما تسمعه الأذنان فازداد حرصه على ضرورة توفير الراحة التامة لقلوب معذبة،خاصة وأن اتساع ممتلكاتهم وتشتت سكنهم عودهم على مخاطبة بعضهم البعض عن بعد حتى أصيبت حناجرهم بمرض خطير جدا، وأصبحت أصواتهم قوية خشنة، وعجزوا عن التهامس،حتى أنك تخال الواحد منهم وهو يحادثك إنما يسعى إلى إيصال صوته إلى أقصى أنحاء المعمورة، مما قد يقلق راحة بعضهم البعض خاصة وأنه لكلّ واحد منهم قصصٌ يدمي القلوبَ سماعُها، لذلك سهر الطبيب المسكين الليالي الطوال يخلط عقاقيره ويستشير مدرسيه في المدن البعيدة حتى صنع مستحضرا يخفت الأصوات سماه "اللجام" وجربه عليهم فانتهى بهم إلى الخرس التّام، وهذا أفضل فهكذا لا يسمع بعضهم شتيمة بعض وتنتفي الخصومات نهائيا ويكون "غل البكّوش في صدره".
ومرة أخرى اكتشف طبيب خضراء أن هذا الدواء لا يكفي فقد تمزّق سكون الأهالي أصواتُ الدواب أو حتى هسهسة الريح ما داموا قادرين على السمع،لذلك لا بد من صنع دواء يخلصهم من هذه الحاسة أيضا،وسرعان ما اكتشف مستحضرا آخر سماه "نعمة الطرش" وأنعم به عليهم "سعدو الأطرش يمشي في الزفة وما تقلقوش أبواقها".
هكذا تلذذ الأهالي نعمة الراحة وأصبحوا لا يملونها بل ويطالبون بالمزيد إنهم لا يقدرون تضحياته حق قدرها.. يريدون منه أن ينفق العمر في السّهر على راحتهم دون التفكير في راحته.. إنهم أنانيون. سنين طويلة وهو يعمل ويكد ليخلصهم من الآفات الخطيرة كالسمع و النطق والبصر، وعندما حقق لهم ذلك بدأ الجميع يتأفف من رائحة عقاقيره، حتى حاسة الشم فيهم أصبحت تعكر عليه صفوه، واقتنع طبيبنا أخيرا بأن قدره أن ينفق العمر في سبيل أهله وبلده إنه "يحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد"، ومن يحب البلاد عليه أن يسهر على راحة أهلها، ومن يقدر على ذلك سوى ابنها البار؟ حكميها الأوحد، قاهر الأمراض وصانع المستحيل، إنه عينها الساهرة وأذنها الصاغية ولسانها الناطق باسمها أبدا وعقلها المدبر.. فهل يمكن أن يتخلى عنها؟.
فكر الطبيب جيدا فلم يجد بدا من أن يضحي بفترة أخرى من حياته في البحث عن دواء يحد من حاسة الشم عل أهل خضراء ينعمون بالهدوء المطلق، فأقفل باب مخبره عليه كالعادة ليصنع "محطم الأنوف" فيخلص من تأفف الأهالي من كل الروائح الكريهة "ما أجمل حياة الدّيكة لا تعكرها رائحة الأوساخ".
هكذا استطاع الابن البار أن يوفر لخضرائه هدوءا وسكينة منقطعي النظير، لكن خضراء الجحود، ما شكرته يوما ولا نوهت بخصاله، وحتى لما أراد أن يتباهى أمامها بانجازاته مذكرا بفضله على أهلها اكتشف أن لا أحد قادر على أن يدقق فيه النظر أو أن يسمعه أم حتى يتلذذ رائحة البنفسج التي تعبق بها خطاباته الرنانة.
خضراء منطقة ريفيّة نائية جدا. تتالت عليها سنوات الخصب فطابت بها الحياة، وابتسمت لأبنائها فتزاوجوا وتكاثروا وبأرضها تشبثوا، يعطونها الحب، تعطيهم النسل. ابن وحيد من أبنائها فر منها منذ الصّغر يلاحق حلقات العلم وازدهار الحياة في المدن المتقدمة حتى عاد إليها طبيبا في ريعان شبابه، محملا بأسرار التقدم وبحب لا يوصف لأهلها وبإخلاص مبالغ فيه لعمله. و وجد نفسه طبيبها الوحيد ومعالج أمراضها، لذلك عمل على أن تكون عيادته مفتوحة ليلا نهارا حتى أضحت تعج بمرضى يعالجهم مجانا، فهمه الوحيد ليس جمع المال كما الأطباء في المناطق الحضرية المتقدمة. إن مهنته كطبيب جعلته إنسانيا إلى أبعد الحدود،وحسب درجة إنسانيته حدد أهداف حياته، إنها التضحية التي لا تنضب من أجل حماية أهله من الأمراض الخطيرة، لكنه اكتشف أن أمراضهم غريبة عما درسه،فكل السكان يعانون من حدة البصر،حتى المتقدمون في السن منهم لم يضعف الدهر بصرهم .. لذلك عمل الطبيب جاهدا على صنع مستحضر يقضي نهائيا على هذا المرض ،ولما أكمل صنعه سماه "الكُحلي" لأنه يزيد العيون سوادا وجمالية والأهم من ذلك أنه يجعلها لا تبصر، فالعمى في عهده نعمة للمساكين "لا عين ترى لا قلب يوجع".
وما أن كاد يطمئن على راحة قلوب أهله حتى اكتشف الطبيب البارع أن القلوب لا تتألم فقط لما تراه العين،بل أيضا لما تسمعه الأذنان فازداد حرصه على ضرورة توفير الراحة التامة لقلوب معذبة،خاصة وأن اتساع ممتلكاتهم وتشتت سكنهم عودهم على مخاطبة بعضهم البعض عن بعد حتى أصيبت حناجرهم بمرض خطير جدا، وأصبحت أصواتهم قوية خشنة، وعجزوا عن التهامس،حتى أنك تخال الواحد منهم وهو يحادثك إنما يسعى إلى إيصال صوته إلى أقصى أنحاء المعمورة، مما قد يقلق راحة بعضهم البعض خاصة وأنه لكلّ واحد منهم قصصٌ يدمي القلوبَ سماعُها، لذلك سهر الطبيب المسكين الليالي الطوال يخلط عقاقيره ويستشير مدرسيه في المدن البعيدة حتى صنع مستحضرا يخفت الأصوات سماه "اللجام" وجربه عليهم فانتهى بهم إلى الخرس التّام، وهذا أفضل فهكذا لا يسمع بعضهم شتيمة بعض وتنتفي الخصومات نهائيا ويكون "غل البكّوش في صدره".
ومرة أخرى اكتشف طبيب خضراء أن هذا الدواء لا يكفي فقد تمزّق سكون الأهالي أصواتُ الدواب أو حتى هسهسة الريح ما داموا قادرين على السمع،لذلك لا بد من صنع دواء يخلصهم من هذه الحاسة أيضا،وسرعان ما اكتشف مستحضرا آخر سماه "نعمة الطرش" وأنعم به عليهم "سعدو الأطرش يمشي في الزفة وما تقلقوش أبواقها".
هكذا تلذذ الأهالي نعمة الراحة وأصبحوا لا يملونها بل ويطالبون بالمزيد إنهم لا يقدرون تضحياته حق قدرها.. يريدون منه أن ينفق العمر في السّهر على راحتهم دون التفكير في راحته.. إنهم أنانيون. سنين طويلة وهو يعمل ويكد ليخلصهم من الآفات الخطيرة كالسمع و النطق والبصر، وعندما حقق لهم ذلك بدأ الجميع يتأفف من رائحة عقاقيره، حتى حاسة الشم فيهم أصبحت تعكر عليه صفوه، واقتنع طبيبنا أخيرا بأن قدره أن ينفق العمر في سبيل أهله وبلده إنه "يحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد"، ومن يحب البلاد عليه أن يسهر على راحة أهلها، ومن يقدر على ذلك سوى ابنها البار؟ حكميها الأوحد، قاهر الأمراض وصانع المستحيل، إنه عينها الساهرة وأذنها الصاغية ولسانها الناطق باسمها أبدا وعقلها المدبر.. فهل يمكن أن يتخلى عنها؟.
فكر الطبيب جيدا فلم يجد بدا من أن يضحي بفترة أخرى من حياته في البحث عن دواء يحد من حاسة الشم عل أهل خضراء ينعمون بالهدوء المطلق، فأقفل باب مخبره عليه كالعادة ليصنع "محطم الأنوف" فيخلص من تأفف الأهالي من كل الروائح الكريهة "ما أجمل حياة الدّيكة لا تعكرها رائحة الأوساخ".
هكذا استطاع الابن البار أن يوفر لخضرائه هدوءا وسكينة منقطعي النظير، لكن خضراء الجحود، ما شكرته يوما ولا نوهت بخصاله، وحتى لما أراد أن يتباهى أمامها بانجازاته مذكرا بفضله على أهلها اكتشف أن لا أحد قادر على أن يدقق فيه النظر أو أن يسمعه أم حتى يتلذذ رائحة البنفسج التي تعبق بها خطاباته الرنانة.