كان عليَّ أن أصعد السلالم في الظلام، وعليَّ فوق هذا أن أصعد بتؤدة، فهذه السن لا تتحمل كسر المخاريق. أصابع يدي بدأت ترتعش، أسناني صارت رمادية، عيوني باهتة العدسات. وضحكت وهمست: "أنا أتداعى". أربع درجات ثم أتوقف لأخذ أنفاسي، ثم ثلاث، ثم درجتان، ثم درجة، ثم جلست على عتبة السلم. تمدد لي ظل داخل الظلام، وهذا ما فاجأني حقاً؛ أن يكون لي ظل في الظلمة. ليس وهماً من عينيَّ الضعيفتين، بل هناك حقاً ظل أكثر سواداً من ظلام السلم الضيق. خلعت حذائي وعرضت قدميَّ للهواء كي يجفا من العرق، والعفونة بين الأصابع المتورمة. لم أكن أتوقع ذلك أبداً، أن أصل لهذه المرحلة المتأخرة من حضور الكينونة داخل الكون. ها أنا كينونة لا معنى لها البتة..ولكنها..يا إلهي..ولكنها حاضرة.
رأيت ظلي يتمدد، طويلاً طويلاً، بعيداً بعيداً. فضحكت بصوتٍ عالٍ. ارتديت حذائي ورفعت جسدي وأنا أغمغم: هل زادت الجاذبية الأرضية قوة؟ وداهمني سرب بعوض، فاسرعت خطاي.
لا زلتُ أحمل روح الصبا، تلك الروح التي لم تفارقني البتة. استغرقت محاولات إدخال المفتاح في الثقب عشرة دقائق، ثم دفعت الباب، فانزاح مفضياً مساحة لظلمة تالية. ولفحتني رائحة عطنة. ليست رائحة جثتي بالتأكيد. المسافة بين الباب والغرفة تبدو كملايين الأميال. خلعُ ملابسي كالخروج من دبابة، الارتماء عارياً على السرير، هو الحلم الوحيد الذي يتحقق من ضمن أحلامي التي تبخرت أو لم تعد مناسبة لسني.
عيناي في الظلام تحدقان في السقف، وترى أشباح ظلال تتراقص في الظلام. "متى ستعود الكهرباء؟". أرى كريات شفافة تسبح في الظلام، وخيوط موجية زرقاء خفيفة تحلق وتتبدد. والصمت يلفني كقبر.
لن استرجع أحداث هذا اليوم، بل لن أحاول استرجاع ذكريات ثلاثين عاماً انقضت منذ خروجي. أغمضت عينيَّ لأبقى في الراهن. هنا حيث كل شيء أرنبي؛ مسالم، يمضغ الصمت بفم يدور عكس عقارب الساعة. ضحكت مرة أخرى. إنني بت أضحك كثيراً، حيث لم تعد للحكمة أي أهمية. سعلت سعلتين وهذا يعني بأنني سأنام رغم أنني يجب أن اتبول، لكنني مرهق. سأنام وسأتبول على سريري دون أن اشعر بذلك وهذا جيد، تماماً كعدم الشعور بخيانة زوجتك. من الجيد ألا تعلم حتى لا تضطر لاتخاذ موقف ما. ولماذا يجب أن أتخذ موقفاً ما؟! لا أدري لماذا كنت أفكر بتلك الطريقة الخرقاء. عشرون عاماً في السجن بلا مبرر منطقي. عشرون عاماً أعدمتني وأنا حي، كان بإمكاني أن أطلقها أو حتى أبقيها معي متجاهلاً المسألة كلها ما دامت تؤدي دورها كزوجة طيبة. لم تكن تستحق أن يكتسي وجهها بتلك النظرة الجزعة. حدقتاها متسعتان وباردتان كلحم الضب. فمها مفتوح وأسنانها اصطبغت بزرقة مفاجئة، ولأول مرة أعرف أن ضروسها على الجانبين كلها محشوة بالملغم الفضي. برز طرف لسانها للأمام حين ضغطت على عنقها وظل هكذا بارزاً وهي جثة هامدة. عشيقها ضربني على رأسي وقفز من النافذة وكسر ساقه. نفس هذه النافذة التي تركتها مفتوحة حتى اثناء أعتى الأعاصير الترابية. من هنا قفز، ومن هنا حاولت القفز وراءه حين شدتني يد ما إلى الوراء. ولا أتذكر ما حدث بعد ذلك.
منذ ان خرجت من السجن قبل عشر سنوات وأنا لم أزر ابنتي، إنني اشعر بالخجل من نفسي لأنني تركتها يتيمة.
ماذا لو وجدتها الآن بين أحضان عشيقها؟ ما كنت لأقتلها أبداً، فلا شيء يستحق أن نسلب من أجله روح إنسان.
نمت ثلاث ساعات فقط، واستيقظت على طرقات خافتة تبدو جزعة. لا زالت الكهرباء مقطوعة، ولا زالت أشباح الظلال ترقص على السقف والحيطان الصماء. إنني متعب، متعب جداً. تزداد المسافات بعداً.
ورأيت من خلف الظلام أختها تحدق في وجهي.
"لقد انتحرت"
نظرت إليها فاضافت:
" قفزت من النافذة".
غير أن مشاعري كانت محايدة بشكل مذهل. الفكرة الوحيدة التي تبادرت إلى ذهني هي ضرورة إلغاء النوافذ من تصاميم المنازل. ما حاجتنا للنوافذ سوى الانتحار. ثم، ما المشكلة لو انتحرنا، وأخذ كل البشر يقفزون من النوافذ في ليل مدلهم السواد. ما الذي سيحدث؟ في الواقع لن يحدث شيء، فلا أهمية حقيقية للبشر سوى تلك التي يصبغونها على أنفسهم.
تركت الباب مفتوحاً وعدت ورقدت على السرير فشعرت ببرودة البول وشممت رائحته، يبدو كرائحة منظف طلاء الأظافر...قتلت زوجتي وانتحرت ابنتي التي لا أعرف ملامحها بعد أن كبرت. وخالتها تقف على الباب، أو ربما غادرت. داهمني فضول عارم، فنهضت من السرير وأشباح ظلالي تتمدد أمامي، ومن بعيد رأيت هيكل خالتها لا يزال منتصباً أمام الباب. ظللنا نحدق في هياكلنا من على البعد. قلت بصوت بارد:
- أرقصي...
ورأيت لمعان أحد أسنانها حين ابتسمت..
قالت:
- كما كنا نفعل في السابق؟
هززتُ رأسي، ورغم الظلام شعرت بأنها رأتني.
أخذ جسدها المظلم يتمايل كأذرع أخطبوط في عمق البحر.
- لا زلتِ محتفظة برشاقتك.
ضحكت دون أن تعلق ودون أن تتوقف عن التمايل.
ثم توقفت وأخذت تعيد تنظيم أنفاسها المتسارعة.
- هل علِمَت؟
ورأيتها تهز رأسها.
- من أخبرها؟
- ابنتك...
ارتميت على شبح الأريكة التي حفظت مكانها وقلت:
- هل تتذكرين الأغنية؟
ارتمت بدورها قربي، فهي أيضاً تحفظ مكان تلك الاريكة عن ظهر قلب. وحين أسندت رأسها على صدري تذكرت جسدها القديم.
- من الجيد أن لا تكون هناك كهرباء..
قلت فتنهدت وقالت بصوت خفيض:
- نعم...دعنا نغيب في ملامح الذكرى..
مؤخرتها لم تعد طرية كالسابق، أصبحت عظاماً حادة الزوايا. شعرها اختفى، نهداها تحولا لكرتين من الجوارب.
- نغيب في ملامح الذكرى!..
قلت ولفنا الصمت، إلا من صوت مسحها على صدري بكفين جافتين ومرتعشتين.
- لا شيء كان يستحق كل ذلك؟
سألتها فأجابت:
- لا أعرف..ربما كان ذلك أفضل ما حدث لنا جميعاً..
ولم أستطع فهم إجابتها بصورة واضحة.
- الأشياء تحدث فقط..
- نعم..
قربتُ شفتيّ من شفتيها وشممت رائحة أحمر شفاه.
قالت وهي تتحسس مؤخرتي:
- هل تبولتَ على نفسك؟
ضحكت..ورأيت ظلالي تنكمش..وتتبدد ببطء..
ضحكتْ معي بجزل فقلت:
- الأشياء تحدث فقط؟
- تحدث فقط..
اعتصرت جسدها الواهن وأنا أشعر بوحشة غامرة تجتاحني...
- هل تريد أن تموت؟ أن نموت سوياً..
قلت:
- كروميو وجوليت؟
هزت راسها:
- لا.. إنما لنصنع الحدث لأول مرة في حياتنا.. ما رأيك..
قلت:
- لم أغلق النافذة بعد..
نهضَت بخفة وهي تقبض على كفي..
- لا تفكر..لا تتردد..سنقفز فوراً..
- حسنٌ..
دلفت بي إلى الغرفة وبرشاقة وضعت كرسياً تحت النافذة وتراجعت إلى الخلف ثم أمسكت بيدي... وبمحاولة بائسة للجري.. اندفعنا نحو الكرسي، واعتلت أقدامنا الكرسي ثم هوينا من النافذة..
صاحت ونحن نسقط:
- هذا هو الطابق التاسع..أليس كذلك؟
- نعم..
كانت النجوم تحيط بنا..وتعبر جسدينا.. والرياح تعصف بملابسنا فترفرف أطرافها..
قالت:
- لأول مرة أرى الكون هكذا..
- هل تلاحظين ذلك؟
- لم نصل إلى الأرض بعد..
- نعم..إننا نسقط فقط...
- لكنني أسمع أصوات اندفاع السيارات في الطرق السريعة، وأبواقها الحادة..
- وأنا اسمع أصوات ملاعق من ياكلون في المطاعم.. وصراخ النساء الحبليات في المستفيات..أسمع اصوات دبيب النمل..
- غريب كل هذا..
- أنظر..
رأيت جثة زوجتي تتدلى على يساري.. بذات وجهها متسع الحدقتين وممدود اللسان..
- وهذه ابنتك...
- أمي..إنها أمي..
- كلهم يسقطون..
تقلبت أجسادنا في الهواء.. وكانت الأرض غير الأرض والسماء غير السماء...ونحن لسنا نحن...
صرخت:
- هل تسمعينني؟..
تمزق صوتي لكنها قالت:
- إلى حد ما.. فلقد نسيت ارتداء سماعات الأذن...
- متى سنصل؟
صاحت:
- لن نصل أبداً.. متى قُدر لنا أن نصل؟ إن كل شيء كما قلت لك..
قلنا بصوت واحد:
- يحدث فقط..
(تمت)
رأيت ظلي يتمدد، طويلاً طويلاً، بعيداً بعيداً. فضحكت بصوتٍ عالٍ. ارتديت حذائي ورفعت جسدي وأنا أغمغم: هل زادت الجاذبية الأرضية قوة؟ وداهمني سرب بعوض، فاسرعت خطاي.
لا زلتُ أحمل روح الصبا، تلك الروح التي لم تفارقني البتة. استغرقت محاولات إدخال المفتاح في الثقب عشرة دقائق، ثم دفعت الباب، فانزاح مفضياً مساحة لظلمة تالية. ولفحتني رائحة عطنة. ليست رائحة جثتي بالتأكيد. المسافة بين الباب والغرفة تبدو كملايين الأميال. خلعُ ملابسي كالخروج من دبابة، الارتماء عارياً على السرير، هو الحلم الوحيد الذي يتحقق من ضمن أحلامي التي تبخرت أو لم تعد مناسبة لسني.
عيناي في الظلام تحدقان في السقف، وترى أشباح ظلال تتراقص في الظلام. "متى ستعود الكهرباء؟". أرى كريات شفافة تسبح في الظلام، وخيوط موجية زرقاء خفيفة تحلق وتتبدد. والصمت يلفني كقبر.
لن استرجع أحداث هذا اليوم، بل لن أحاول استرجاع ذكريات ثلاثين عاماً انقضت منذ خروجي. أغمضت عينيَّ لأبقى في الراهن. هنا حيث كل شيء أرنبي؛ مسالم، يمضغ الصمت بفم يدور عكس عقارب الساعة. ضحكت مرة أخرى. إنني بت أضحك كثيراً، حيث لم تعد للحكمة أي أهمية. سعلت سعلتين وهذا يعني بأنني سأنام رغم أنني يجب أن اتبول، لكنني مرهق. سأنام وسأتبول على سريري دون أن اشعر بذلك وهذا جيد، تماماً كعدم الشعور بخيانة زوجتك. من الجيد ألا تعلم حتى لا تضطر لاتخاذ موقف ما. ولماذا يجب أن أتخذ موقفاً ما؟! لا أدري لماذا كنت أفكر بتلك الطريقة الخرقاء. عشرون عاماً في السجن بلا مبرر منطقي. عشرون عاماً أعدمتني وأنا حي، كان بإمكاني أن أطلقها أو حتى أبقيها معي متجاهلاً المسألة كلها ما دامت تؤدي دورها كزوجة طيبة. لم تكن تستحق أن يكتسي وجهها بتلك النظرة الجزعة. حدقتاها متسعتان وباردتان كلحم الضب. فمها مفتوح وأسنانها اصطبغت بزرقة مفاجئة، ولأول مرة أعرف أن ضروسها على الجانبين كلها محشوة بالملغم الفضي. برز طرف لسانها للأمام حين ضغطت على عنقها وظل هكذا بارزاً وهي جثة هامدة. عشيقها ضربني على رأسي وقفز من النافذة وكسر ساقه. نفس هذه النافذة التي تركتها مفتوحة حتى اثناء أعتى الأعاصير الترابية. من هنا قفز، ومن هنا حاولت القفز وراءه حين شدتني يد ما إلى الوراء. ولا أتذكر ما حدث بعد ذلك.
منذ ان خرجت من السجن قبل عشر سنوات وأنا لم أزر ابنتي، إنني اشعر بالخجل من نفسي لأنني تركتها يتيمة.
ماذا لو وجدتها الآن بين أحضان عشيقها؟ ما كنت لأقتلها أبداً، فلا شيء يستحق أن نسلب من أجله روح إنسان.
نمت ثلاث ساعات فقط، واستيقظت على طرقات خافتة تبدو جزعة. لا زالت الكهرباء مقطوعة، ولا زالت أشباح الظلال ترقص على السقف والحيطان الصماء. إنني متعب، متعب جداً. تزداد المسافات بعداً.
ورأيت من خلف الظلام أختها تحدق في وجهي.
"لقد انتحرت"
نظرت إليها فاضافت:
" قفزت من النافذة".
غير أن مشاعري كانت محايدة بشكل مذهل. الفكرة الوحيدة التي تبادرت إلى ذهني هي ضرورة إلغاء النوافذ من تصاميم المنازل. ما حاجتنا للنوافذ سوى الانتحار. ثم، ما المشكلة لو انتحرنا، وأخذ كل البشر يقفزون من النوافذ في ليل مدلهم السواد. ما الذي سيحدث؟ في الواقع لن يحدث شيء، فلا أهمية حقيقية للبشر سوى تلك التي يصبغونها على أنفسهم.
تركت الباب مفتوحاً وعدت ورقدت على السرير فشعرت ببرودة البول وشممت رائحته، يبدو كرائحة منظف طلاء الأظافر...قتلت زوجتي وانتحرت ابنتي التي لا أعرف ملامحها بعد أن كبرت. وخالتها تقف على الباب، أو ربما غادرت. داهمني فضول عارم، فنهضت من السرير وأشباح ظلالي تتمدد أمامي، ومن بعيد رأيت هيكل خالتها لا يزال منتصباً أمام الباب. ظللنا نحدق في هياكلنا من على البعد. قلت بصوت بارد:
- أرقصي...
ورأيت لمعان أحد أسنانها حين ابتسمت..
قالت:
- كما كنا نفعل في السابق؟
هززتُ رأسي، ورغم الظلام شعرت بأنها رأتني.
أخذ جسدها المظلم يتمايل كأذرع أخطبوط في عمق البحر.
- لا زلتِ محتفظة برشاقتك.
ضحكت دون أن تعلق ودون أن تتوقف عن التمايل.
ثم توقفت وأخذت تعيد تنظيم أنفاسها المتسارعة.
- هل علِمَت؟
ورأيتها تهز رأسها.
- من أخبرها؟
- ابنتك...
ارتميت على شبح الأريكة التي حفظت مكانها وقلت:
- هل تتذكرين الأغنية؟
ارتمت بدورها قربي، فهي أيضاً تحفظ مكان تلك الاريكة عن ظهر قلب. وحين أسندت رأسها على صدري تذكرت جسدها القديم.
- من الجيد أن لا تكون هناك كهرباء..
قلت فتنهدت وقالت بصوت خفيض:
- نعم...دعنا نغيب في ملامح الذكرى..
مؤخرتها لم تعد طرية كالسابق، أصبحت عظاماً حادة الزوايا. شعرها اختفى، نهداها تحولا لكرتين من الجوارب.
- نغيب في ملامح الذكرى!..
قلت ولفنا الصمت، إلا من صوت مسحها على صدري بكفين جافتين ومرتعشتين.
- لا شيء كان يستحق كل ذلك؟
سألتها فأجابت:
- لا أعرف..ربما كان ذلك أفضل ما حدث لنا جميعاً..
ولم أستطع فهم إجابتها بصورة واضحة.
- الأشياء تحدث فقط..
- نعم..
قربتُ شفتيّ من شفتيها وشممت رائحة أحمر شفاه.
قالت وهي تتحسس مؤخرتي:
- هل تبولتَ على نفسك؟
ضحكت..ورأيت ظلالي تنكمش..وتتبدد ببطء..
ضحكتْ معي بجزل فقلت:
- الأشياء تحدث فقط؟
- تحدث فقط..
اعتصرت جسدها الواهن وأنا أشعر بوحشة غامرة تجتاحني...
- هل تريد أن تموت؟ أن نموت سوياً..
قلت:
- كروميو وجوليت؟
هزت راسها:
- لا.. إنما لنصنع الحدث لأول مرة في حياتنا.. ما رأيك..
قلت:
- لم أغلق النافذة بعد..
نهضَت بخفة وهي تقبض على كفي..
- لا تفكر..لا تتردد..سنقفز فوراً..
- حسنٌ..
دلفت بي إلى الغرفة وبرشاقة وضعت كرسياً تحت النافذة وتراجعت إلى الخلف ثم أمسكت بيدي... وبمحاولة بائسة للجري.. اندفعنا نحو الكرسي، واعتلت أقدامنا الكرسي ثم هوينا من النافذة..
صاحت ونحن نسقط:
- هذا هو الطابق التاسع..أليس كذلك؟
- نعم..
كانت النجوم تحيط بنا..وتعبر جسدينا.. والرياح تعصف بملابسنا فترفرف أطرافها..
قالت:
- لأول مرة أرى الكون هكذا..
- هل تلاحظين ذلك؟
- لم نصل إلى الأرض بعد..
- نعم..إننا نسقط فقط...
- لكنني أسمع أصوات اندفاع السيارات في الطرق السريعة، وأبواقها الحادة..
- وأنا اسمع أصوات ملاعق من ياكلون في المطاعم.. وصراخ النساء الحبليات في المستفيات..أسمع اصوات دبيب النمل..
- غريب كل هذا..
- أنظر..
رأيت جثة زوجتي تتدلى على يساري.. بذات وجهها متسع الحدقتين وممدود اللسان..
- وهذه ابنتك...
- أمي..إنها أمي..
- كلهم يسقطون..
تقلبت أجسادنا في الهواء.. وكانت الأرض غير الأرض والسماء غير السماء...ونحن لسنا نحن...
صرخت:
- هل تسمعينني؟..
تمزق صوتي لكنها قالت:
- إلى حد ما.. فلقد نسيت ارتداء سماعات الأذن...
- متى سنصل؟
صاحت:
- لن نصل أبداً.. متى قُدر لنا أن نصل؟ إن كل شيء كما قلت لك..
قلنا بصوت واحد:
- يحدث فقط..
(تمت)