تبدأ قصة رام الله من مكان بعيد، تحديداً من مدينة الكرك الأردنية، عندما قرر «راشد الحدادين»، في منتصف القرن السادس عشر الجلاء عن مدينته، بسبب تعقيدات العادات البدوية، ولم يكن يخطر بباله حينها أنه سيؤسس مدينة جديدة، وسيصنع تاريخاً. وحسب الرواية المتداولة، رُزق راشد الحدادين بطفلة، وخلال تلقيه التهاني بها، تلقى مباركة من أحد شيوخ الكرك المسلمين (واسمه ابن قيصوم) فرد عليه الحدادين قائلاً، وعلى عادة البدو: إنها ستكون له، ويبدو أن الشيخ أخذ الأمر على محمل الجد، وعندما كبرت الطفلة، عاد لراشد يطالبه بالإيفاء بوعده، فما كان منه إلا شد الرحال ليلاً، فاصطحب عائلته وتوجه غرباً، وعندما تعب حط رحاله في خربة رام الله المهجورة، المجاورة لقرية البيرة، كان المكان يحوي آثاراً رومانية وكهوفاً قديمة وعيون ماء وغابات من الأشجار الحرجية، فبدا مثالياً للسكن ولممارسته مهنته وهي الحدادة، فاشترى الأرض من أصحابها عائلة (الغزاونة)، وهم من أهالي البيرة.
كبرت القرية، وغدت بلدة.. وفي العام 1907 صار لها بلدية، وهي الآن العاصمة السياسية والإدارية المؤقتة لدولة فلسطين، قال عنها محمود درويش: إنها مدينة تبنى على عَجَل، كما ظهرت في العديد من أعمال الكتّاب والشعراء والباحثين، وتناولتها روايات عديدة، آخرها رواية الرفيق حيدر عوض الله «سكنة الهجير»، حيث كتب عنها: «أحببت رام الله، ففيها تختلط الأشياء في انسجام يأخذ الأنفاس، المحجبات والسافرات، صوت الآذان وأجراس الكنائس، مطاعم مفتوحة على أذواق وجيوب متنوعة، رجال ملتحون وآخرون معطرون بكامل أناقتهم الغربية، الكحول ملقاة على رفوف المحلات إلى جانب الفجل والبقدونس، ريفيات يفترشن الأرصفة ويحتللن الهواء بالميرمية والزعتر.. لا تلقي رام الله بالاً لروادها، ولا تحفل من أين جاؤوا، وإلى أين سينصرفون..».
تميزت عن سائر المدن الفلسطينية بانفتاحها وليبراليتها وتنوعها وأجوائها العصرية والحداثية، وسعيها لتصبح مدينة «كوزموبوليتانية». ومثل أي مدينة أخرى، لها أوجه متعددة.. لكنها حتماً ليست عرضاً جانبياً لفشل مشروع الدولة، وليست نتاج أوسلو، ولم تظهر فجأة من العدم، بل هي صاحبة ماض عريق.
وبسبب مناخها المعتدل وطبيعتها الخلابة، كانت قبل احتلالها في العام 1967 مصيف الشرق الأوسط، ونافست بيروت.. كانت تضم 21 فندفاً.. منها فندق حرب، الذي استضاف أمير الكويت المرحوم جابر الصباح، واستضاف أيضاً الملك فهد (حين كان أميراً)، وحينها أُعجب بفتاة من المدينة فتزوجها.
في مقهى حنظلة وسط رام الله، وفي حديث ممتع عن تاريخ المدينة مع الصديق نقولا، قال لي: إن هذا المكان كان قبل نحو ثلاثمائة سنة معصرة لإنتاج النبيذ، وأشار إلى الغرف الثلاث المقابلة، وقال: إنها كانت قبواً لتخزين النبيذ، الذي صُدّر بعض منه إلى الهند. وفي زاوية أخرى أشار لما كان حوضاً للعنب، حيث كانت الفتيات تدوسه بأقدامهن تمهيداً لعصره.. وكان العنب يُجمع من كروم وبساتين رام الله والبيرة، التي تحتضن أجود أنواع الكرمة، إلى جانب أشجار الزيتون الرومي.
وأوضح «نقولا» أن هذا المكان الذي ورثه عن أجداده، تحول منذ أربعينيات القرن الماضي إلى «نادي رام الله» وقد احتوى على مقهى ومطعم، إلى جانب كونه صالة أفراح، وقد استضاف فنانين وفنانات كبار أبرزهم/ن فايزة أحمد، فهد بلان، جميل العاص، سلوى، توفيق النمري، عبده موسى.. ولأن رام الله كانت تستضيف أستوديوهات الإذاعة الأردنية، ومحطة البث (في شارع الإرسال).. كان الفنانون العرب والأردنيون يحلون في المدينة ويقيمون فيها الحفلات.. فقد استضافت الفنان الراحل فريد الأطرش الذي نزل في فندق عودة، ويقال: إنه نزل في فندق هيلتون المطل على شارع القدس، وهو اليوم مقر لمعهد الإعلام العصري.. ولا ننسى أن أم كلثوم غنت في يافا، وهناك تم منحها لقب كوكب الشرق.
كما كان في المدينة عشرات المطاعم والمقاهي والمتنزهات، وكانت تقام في أصيافها المهرجانات الفنية، حيث تأتي الفرق الفنية من دول الجوار، وقد افتتح الملك الحسين مهرجان 1966. بصحبة عبد المنعم الرفاعي الذي سيصير رئيساً للوزراء، ويومها ألقى الرفاعي قصيدة نظمها تغزلاً بالمدينة. وكان مهرجان رام الله يُقام بالتزامن مع مهرجان بعلبك اللبناني.
من ضمن الفرق التي شاركت في مهرجانات رام الله فرقة الأنوار اللبنانية، وفرقة الفنون الشعبية الأردنية، بقيادة الفنانة وديعة حداد، وهي شقيقة المناضل الراحل وديع حداد.
في تلك الأصياف الوادعة، كان رواد الفنادق من الزوار العرب يفيقون مبكرين قاصدين المطاعم القريبة لتناول الإفطار، فقد كانت الفنادق أيامها لا تقدم وجبة الصباح.. أما في المساء فيخرج الأهالي إلى الشوارع المزينة بالأضواء، ويقيمون الاحتفالات، ويرقصون الدبكة، ويتناولون المرطبات والمثلجات من بوظة ركب، والتي أكسبت الشارع الذي تحل فيه اسمها، وهو اليوم أهم شارع في رام الله، وأكثرها حيوية.
كان الأثرياء العراقيون والأشقاء الخليجيون عامّة يؤمّون رام الله كل صيف، بعضهم كانوا يستأجرون شققاً مفروشة، ويتركون زوجاتهم وأطفالهم فيها لينعموا بجو رام الله الساحر ونسيمها العليل، أما هم فينطلقون عبر مطار قلنديا إلى بيروت، حيث الأجواء أكثر صخباً، وحيث صالات القمار والنوادي الليلية.. يظلون هناك أسبوعاً، ثم يعودون إلى رام الله لأخذ عوائلهم، ثم يعودون إلى بلدانهم.
تميزت بيوت رام الله القديمة بطرازها المعماري الفريد، بيوت حجرية أشبه بالفلل، مسقوفة بالقرميد الأحمر، تحيطها حاكورة مشجرة، ما زالت العشرات منها شاهدة على ذلك الزمن الجميل، إلا أن بعض المقاولين ممن لا يقدرون الفن أخذوا يقضمون من ذلك الجمال، ويحولون المدينة إلى غابة أسمنتية.
ومؤخراً ظهرت جهات أخرى لتشوه جمال المدينة.. قاصدة روحها الحرة، وقلبها النابض بالحب، وعقلها المتنور المنفتح على التنوع والتعددية.
تنظم رام الله هذه الأيام مهرجانها السنوي للرقص المعاصر، وكما يحدث كل عام، يتعرض المهرجان لسيل من الانتقادات السلبية، والادعاء أن هذه المهرجانات تتعارض مع قيم المجتمع الفلسطيني!
أغلب الانتقادات وإن كان غلافها دينياً، أو اجتماعياً، إلا أنها في جوهرها سياسية، تنتقد المدينة بوصفها أيقونة السلطة الوطنية. ويبدو أن هؤلاء المنتقدون لا يعرفون شيئاً عن تاريخ رام الله، ولا عن تاريخ فلسطين.
عبد الغني سلامة
كبرت القرية، وغدت بلدة.. وفي العام 1907 صار لها بلدية، وهي الآن العاصمة السياسية والإدارية المؤقتة لدولة فلسطين، قال عنها محمود درويش: إنها مدينة تبنى على عَجَل، كما ظهرت في العديد من أعمال الكتّاب والشعراء والباحثين، وتناولتها روايات عديدة، آخرها رواية الرفيق حيدر عوض الله «سكنة الهجير»، حيث كتب عنها: «أحببت رام الله، ففيها تختلط الأشياء في انسجام يأخذ الأنفاس، المحجبات والسافرات، صوت الآذان وأجراس الكنائس، مطاعم مفتوحة على أذواق وجيوب متنوعة، رجال ملتحون وآخرون معطرون بكامل أناقتهم الغربية، الكحول ملقاة على رفوف المحلات إلى جانب الفجل والبقدونس، ريفيات يفترشن الأرصفة ويحتللن الهواء بالميرمية والزعتر.. لا تلقي رام الله بالاً لروادها، ولا تحفل من أين جاؤوا، وإلى أين سينصرفون..».
تميزت عن سائر المدن الفلسطينية بانفتاحها وليبراليتها وتنوعها وأجوائها العصرية والحداثية، وسعيها لتصبح مدينة «كوزموبوليتانية». ومثل أي مدينة أخرى، لها أوجه متعددة.. لكنها حتماً ليست عرضاً جانبياً لفشل مشروع الدولة، وليست نتاج أوسلو، ولم تظهر فجأة من العدم، بل هي صاحبة ماض عريق.
وبسبب مناخها المعتدل وطبيعتها الخلابة، كانت قبل احتلالها في العام 1967 مصيف الشرق الأوسط، ونافست بيروت.. كانت تضم 21 فندفاً.. منها فندق حرب، الذي استضاف أمير الكويت المرحوم جابر الصباح، واستضاف أيضاً الملك فهد (حين كان أميراً)، وحينها أُعجب بفتاة من المدينة فتزوجها.
في مقهى حنظلة وسط رام الله، وفي حديث ممتع عن تاريخ المدينة مع الصديق نقولا، قال لي: إن هذا المكان كان قبل نحو ثلاثمائة سنة معصرة لإنتاج النبيذ، وأشار إلى الغرف الثلاث المقابلة، وقال: إنها كانت قبواً لتخزين النبيذ، الذي صُدّر بعض منه إلى الهند. وفي زاوية أخرى أشار لما كان حوضاً للعنب، حيث كانت الفتيات تدوسه بأقدامهن تمهيداً لعصره.. وكان العنب يُجمع من كروم وبساتين رام الله والبيرة، التي تحتضن أجود أنواع الكرمة، إلى جانب أشجار الزيتون الرومي.
وأوضح «نقولا» أن هذا المكان الذي ورثه عن أجداده، تحول منذ أربعينيات القرن الماضي إلى «نادي رام الله» وقد احتوى على مقهى ومطعم، إلى جانب كونه صالة أفراح، وقد استضاف فنانين وفنانات كبار أبرزهم/ن فايزة أحمد، فهد بلان، جميل العاص، سلوى، توفيق النمري، عبده موسى.. ولأن رام الله كانت تستضيف أستوديوهات الإذاعة الأردنية، ومحطة البث (في شارع الإرسال).. كان الفنانون العرب والأردنيون يحلون في المدينة ويقيمون فيها الحفلات.. فقد استضافت الفنان الراحل فريد الأطرش الذي نزل في فندق عودة، ويقال: إنه نزل في فندق هيلتون المطل على شارع القدس، وهو اليوم مقر لمعهد الإعلام العصري.. ولا ننسى أن أم كلثوم غنت في يافا، وهناك تم منحها لقب كوكب الشرق.
كما كان في المدينة عشرات المطاعم والمقاهي والمتنزهات، وكانت تقام في أصيافها المهرجانات الفنية، حيث تأتي الفرق الفنية من دول الجوار، وقد افتتح الملك الحسين مهرجان 1966. بصحبة عبد المنعم الرفاعي الذي سيصير رئيساً للوزراء، ويومها ألقى الرفاعي قصيدة نظمها تغزلاً بالمدينة. وكان مهرجان رام الله يُقام بالتزامن مع مهرجان بعلبك اللبناني.
من ضمن الفرق التي شاركت في مهرجانات رام الله فرقة الأنوار اللبنانية، وفرقة الفنون الشعبية الأردنية، بقيادة الفنانة وديعة حداد، وهي شقيقة المناضل الراحل وديع حداد.
في تلك الأصياف الوادعة، كان رواد الفنادق من الزوار العرب يفيقون مبكرين قاصدين المطاعم القريبة لتناول الإفطار، فقد كانت الفنادق أيامها لا تقدم وجبة الصباح.. أما في المساء فيخرج الأهالي إلى الشوارع المزينة بالأضواء، ويقيمون الاحتفالات، ويرقصون الدبكة، ويتناولون المرطبات والمثلجات من بوظة ركب، والتي أكسبت الشارع الذي تحل فيه اسمها، وهو اليوم أهم شارع في رام الله، وأكثرها حيوية.
كان الأثرياء العراقيون والأشقاء الخليجيون عامّة يؤمّون رام الله كل صيف، بعضهم كانوا يستأجرون شققاً مفروشة، ويتركون زوجاتهم وأطفالهم فيها لينعموا بجو رام الله الساحر ونسيمها العليل، أما هم فينطلقون عبر مطار قلنديا إلى بيروت، حيث الأجواء أكثر صخباً، وحيث صالات القمار والنوادي الليلية.. يظلون هناك أسبوعاً، ثم يعودون إلى رام الله لأخذ عوائلهم، ثم يعودون إلى بلدانهم.
تميزت بيوت رام الله القديمة بطرازها المعماري الفريد، بيوت حجرية أشبه بالفلل، مسقوفة بالقرميد الأحمر، تحيطها حاكورة مشجرة، ما زالت العشرات منها شاهدة على ذلك الزمن الجميل، إلا أن بعض المقاولين ممن لا يقدرون الفن أخذوا يقضمون من ذلك الجمال، ويحولون المدينة إلى غابة أسمنتية.
ومؤخراً ظهرت جهات أخرى لتشوه جمال المدينة.. قاصدة روحها الحرة، وقلبها النابض بالحب، وعقلها المتنور المنفتح على التنوع والتعددية.
تنظم رام الله هذه الأيام مهرجانها السنوي للرقص المعاصر، وكما يحدث كل عام، يتعرض المهرجان لسيل من الانتقادات السلبية، والادعاء أن هذه المهرجانات تتعارض مع قيم المجتمع الفلسطيني!
أغلب الانتقادات وإن كان غلافها دينياً، أو اجتماعياً، إلا أنها في جوهرها سياسية، تنتقد المدينة بوصفها أيقونة السلطة الوطنية. ويبدو أن هؤلاء المنتقدون لا يعرفون شيئاً عن تاريخ رام الله، ولا عن تاريخ فلسطين.
عبد الغني سلامة
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com