د. سامي عبد العال - عن اللامُبالاة و الأنامَالية

"اللامبالاة والأنامالية" ... موقفان سلبيان يَظهران كثيراً في حياتنا العامة، ولاسيما إزاء الممارسات الإجتماعية والسياسية وما يقترنُ بها من تداعياتٍ. يقول ( الموقف اللامُبالي).. لن أهتم بما يحدثُ مهما يكُّن، بينما يردد ( الموقف الأنا مالي ) ليس من شأني ما يحدث حتى ولو حدث غيرُه ضمن الاتجاه نفسه. وهما موقفان يعضدّان بعضهما البعض في مجتمعات لا تعبأ بإنسانية الإنسان، وتعتبره مجرد ترس في عجلة تدهس كافة الغايات والأحلام المشتركة ومن ثمَّ إفشال التفاعل الخلّاق والتواصُل الحر. وقد يجري ذلك بإسقاط الواقع المُؤثر من الحسبان لدى البشر، وربما لعدم الاكتراثِ به ابتداءً، أو لأنَّ واقعاً كهذا يُبادلنا ( عبثاً بعبثٍ ) مقابل إهمال الأنظمة الحاكمة القمعية التي بتنا محاصرين بها.

هذا في الفلسفة لا يعني موتَا لواقع معين أمام ( العالم الافتراضي مثلاً ) كما يذهب مفكرو الذكاء الاصطناعيartificial intelligence . ولكننا نعلم عادةً وزن ( الواقع الفعلي )، إذ ليس لنا خلاله أدنى تأثيرٌ، ليتم الرد السلبي باللامبالاة على المستوى ذاته من التجاهُل. كما أنَّ ( هذا الواقع ) عصيٌّ على أيَّة تحولات انسانيةٍ كرهان قوي في المجتمعات الحية. فالمعروف أنً كائناً مُتفاعلاً مع محيطه هو الإنسان، وإذا وَجَدَ ( مُحيطاً أعمى وأصم ) لا يرى مصيره، سيصرف النظرَ عنه. والأمر نفسه مع مقولة " الأنامالية "، فهي موقف ذو توجُه وليست صفراً انطولوجيا بين الناس. إنَّ الموجود هناك ( أي هذا الإنسان ) بتعبير هيدجر قد قررَ مواصلة النأي بنفسه أثناء الحياة مع الآخرين. فالواقع لا يعيره أدنى إهتمام، وبالتالي: فليكن الواقعُ أيضاً ملقً هنالك، حيث يتعادلُ في مداه البعيد ( مع اللاشيء )، على الرغم من أنَّ الواقع يشغلنا بمجملِّ الرؤى والتصورات الناجمة عنه.

يظهر الإنسان " اللامُبالي" كائناً على الحافة الآمنة، هو يريد الوقوف فوق ظلاله الشخصية ليس أكثر. إنه كائن كالضفادع التي تُدمن نقيقاً متواصلاً يُردد أصداءَ بعضه البعض، حين تسمع كلامه ستجده ضجيجاً دون نسقٍ ولا توجُه. يتوالد لدي اللامبالي أسلوب دفاعي قائلاً: " أنا مالي" كلما صادفته مشكلات ومزالق وسط الآخرين. فيغدو( جيئةً وذهاباً) متجنباً خوضَ غمار المخاطرة التي تعيده إنساناً ذا موقف. إنَّه يشعر عندئذ بالسكينة لمجرد ابتعاده عن دائرة الممارسة. صحيح أن اللامبالاة هي ممارسة مقلوبة إلى فعلٍّ سلبيٍّ، لكنها تقلص وجودنا الإنساني بشكلٍّ حادٍ. ولذلك من المهم معرفة: كيف تجري حقيقة اللامبالاة ؟ وكيف تميز إنساناً دون غيره؟ وهل تتسع إلى نطاقٍ اجتماعيٍّ أكبر من الناس بحيث تكون صفة لازمة وعامة؟

فلسفياً تبرز حالة " اللامبالاة " نتيجة ضياع ( الموضوع ) الملائم للفكر والممارسة. فالموضوع المشترك القابل للإنجاز بين الناس ( مُغتصّبٌ ) دوماً لصالح قوةٍ ما هي المسيطرة عليه. ذلك حتى وإنْ كانت هذه القوة الغالبة هي المجتمع نفسه، بسبب أنَّ المجتمعات العربية لا تعيش كذلك حياة متنوعة ومفتوحة بالمفهوم الحداثي. فمن المفترض أنَّها كيانات ذات حيثية تاريخية ومعرفية قطعت أشواطاً من التطور والتراكم الفاعل، بيد أنَّها مجتمعات لا توجد هكذا في الحقيقة. هي مجرد تجمعات بشرية فاقدة ( الأصالة والإبداع في الحياة المشتركة )، أغلبها نُسخ مشوهة من حيوات أخرى. لأنَّ رؤى العالم والتاريخ لديها تتشكل بالإنابة ( بالاستعارة ) عن كل عملٍّ أصيل.

الشعوب اللامبالية لا تعيش أزمنتها المتنوعة بكل عمق وفاعلية، إنما تعيش عصورَ الماضي أكثر من الحاضر. هي شعوب لا تأكل مما تزرع ولا تُنبت تربتها حب الحصيد، ولا تفكر بأصالة في حياتها ومشكلاتها، بل تقتات كالطفيليات على ثقافات العالم المتقدم. كما لا ترسم أدوارها السياسية بحسب وجودها الحقيقي، بل يسيطر عليها ( منطق الضحية، منطق المفعول به دائماً ). ولذلك تأتي مجتمعاتنا متأخرةً حضارياً طالما تستغرق في حالة من الإهمال والدعة، مع أنها تعيش أكثر الأزمنة تطوراً. ولعل هذه التناقضات الحادة تزداد شراسة من قت لآخر وتزيدنا ضعفاً في الوقت نفسه!!

حتى أنَّ التاريخ نفسه يقف من العالم العربي موقفَ اللامبالي. فمع الكوارث السياسية التي يمر بها العرب يطل التاريخ كمراقبٍ من بعيدٍ فقط. إذ كيف يُنصِف ( هذا التاريخ ) من لا يعرف ماهيته وآلياته؟ فالتاريخ دونما مشاركة في صناعة أحداثه يأتي كقطار كوني بلا سائق في ليل بهيم، قد يدهس شعوباً بأكملها بينما ينقل أخرى إلى عصور تالية وقد يطور غيرها إلى الأفضل. حيث تمثل لا مبالاته عماءً ليس قادراً على التمييز. حتى أنَّ مكانة الدول خلال هذا التاريخ إنما تتحدّد فقط بإمكانيتها على إدارته لا تجاهله. والقضية هنا اشكالية بالفعل عندما يُوصف شعبٌ ما باللامبالاة هكذا مرةً واحدة... وما إذا كانت الأخيرة ستصنعُ حدثاً عاماً أم لا؟

إنَّ اللامبالاة درجة من التشبُع بفقدان التأثير إلى حدِّ الغثيان تجاه الأمور الجارية. وفي بعضٍ منها تمثل غياب الأمل في مجتمع أفضلٍ. لأنَّ تكرار عدم اتخاذ مواقف حرة من المشاركة في الحياة يحوْل دون أي قرار قادم. حتى يصبح الإنسانُ ذا( إرادة بلهاء) لا قيمة لها. وينتهي به الحال إلى مجرد ( عينين ) تنظران وتبرقان بسُحب الاخفاق ليس أكثر. ويصبح الواقع عنواناً للفشل بحجم الأمال والأهداف المحبّطة.

وفشل التأثير الذي كان يرجوه الإنسان قد يتم أيضاً بفعل فاعل، وليست هناك مبررات ذاتية هي المنفردة بحياتنا على الدوام. وقد تكون النتائج المترتبة عليه موضوعيةً بما هي كذلك. من هنا، فإنَّ هذا الضياع لا يمتلكه الأفراد مثلما لا يقدرون على الفاعلية المطلوبة لممارسة الحياة. وهذا ناتج بالتحديد عن غياب جوهر الحرية في مجتمعاتنا العربية. فقضية الحرية أيضاً من قبيل اللامبالاة تُطرح هكذا: الحرية ... ككلمة مجردة من حيث المبدأ. وبالتالي، فهي كممارسة والتزام وقيم مضافة وصراع الرؤى الخصيبة غير معروفة بوجودها الإنساني الفاعل عبر المجتمعات العربية، لأن التجريد اللغوي للكلمات والمصطلحات ضمن ( مجتمع فارغ المحتوى ) يدمرُ أيَّ شكلٍّ لها وأيَّ مضمون مختلفٍ.

الحرية لدينا ( مساحة بلهاء ) مشغولة سلفاً بكل صنوف القيود والإكراهات، دوماً ننتظر مَنْ يعطيها لنا ويمنحها مجاناً لا مَنْ يصنعها ولا من يشق دروبها في الحياة. والفارق كبير بين ( هذا وذاك )، فمَنْ يعطيها للآخرين على كفي يديه، لن يفعل ذلك بلا مقابلٍ، ولن يرضى بديلاً عن عبودية كاملةٍ تعطى له بالمقابل. كما أنَّ هذا التدّخل القسري سيصل إلى ماهية الكائن الإنساني مجرداً إياه من قدراته، من إنسانيته. فالعبودية في المجتمعات العربية مازالت لم تختفِ، لكنها أخذت ( أشكالاً مؤسساتية وأبنيةً أكثر مكراً ) ضمن ثقافتنا اليومية. بينما الإنسان الذي يصنع الحرية باستطاعته ابداعها يومياً مع أدنى الأعمال إلى أقصاها. هي ستكون جوهر ممارساته، لأنَّه بالأساس ينشد عالماً مغايراً من حيث مواكبة التطور والتنوع.

إن مقطع " اللا " في كلمة( اللا- مبالاة ) هي نفي المبالاة( الاهتمام والعناية) بموجب التجنب العمدي لوجود الآخر، ولأثره الحياتي. أي سيتم نفي الوجود الخاص به حيث يجري تجاهله عمداً مع سبق الاصرار والترصد. فتأتي " الأنا مالية " ظاهرةً مكملة في هامش المعنى نتيجة اعتداد الذوات بنرجسيتها. فكلّما واجَه الإنسانُ حدثاً طارئاً، ذهب إلى اعتباره معدوماً كأن شيئاً لم يكن. لأنَّ ردّ فعله يصبح غير مهم، ليس بالنسبة إليه فقط، بل كذلك بالنسبة إلى ( ما يحدث وما سيحدث )، أي بالنسبة إلى المجتمع. لأن كل شيء يحدث في وجودنا المشترك يفترض أنه يهمنا جميعاً. والشيء نفسه يجري مع العلاقات إذ تمثل تجاهلاً للآخرين غير عابئة بهم.

فالتواصل كفعل انساني هو علاقة ضرورية بين الفاعلين الحقيقيين في المجتمع. ولكن حينما تتغلغل خلاله " الأنامالية " كسمة عامةٍ، لن يكون ثمة نتاجٌ ايجابي بين الذوات. سيكون المجتمع مهدَّداً بتعطيل قواه المثمرة التي تنتج حياة إنسانية مشتركة. وسرعان ما تستدير الكائنات الإنسانية ظهراً لظهر أمام بعضها البعض. هل نتخيل هذا الوضع العجيب.. هناك أقفية بشرية لرؤوس بلا معالم تقابل وتواجه رؤوساً أخرى. أي هو مجتمع يتكون من( الرؤوس المقلُّوبة ) التي لا تسمع ولا ترى. حينئذ ماذاعساها أنْ تقول هذه الأقفية؟ إنّه لن يحدث هناك أي تلاقٍ، إنما سيغيب الوجه، سيسود الصمت التام. وهو في العادة صمت أبلغ من كل كلام. لكنه صمت أخرس، صمت مشوّه هذه المرة، صمت ليس به أي معنى ثري بقدر ما يعبر عن اغتراب طويل وغير محتمل.

على الجانب الآخر، كانت " اللامبالاة " المفروضة على الإنسان في مجتمعاتنا( قتلاً آمناً ) بعلم الوصول وجهاً لوجه مع المقتول. هي كراهية ناعمة متسللة بحكم تجاهل الآخر. وبهذا تفرز اللامبالاة لدينا نوعاً من التصدي للفضول الداخلي بتعويم الأفعال التي يشتم منها رائحة التأثير. تقول اللامبالاة دّع الآخر الغالب واقعاً هناك، فإنَّ صمتي عنه سيقتله دون صوت. و" اللامبالاة " من هذه الزاوية هي تدمير كاتم للصوت تجاه من أهمل الإنسان، نوع من التجنب المقصود، نوع من البعد المؤثر هذه المرة.

والأنا كما يُضاف إلى المتكلم ( أنا كذا...) يعني نفياً لشيء يراه خاصاً به. لأنَّه ليس قادراً على العيش في خطرٍ بحسب مقولة نيتشه الشهيرة. ولذلك، فإن الأنا قاسم مشترك بين "اللامبالاة و الأنا مالية ". هو أنا عارٍ في وضع مسطَّح لدى أي موقف مستجد. فمع قدرته على التمركز حول نفسه سيكون الآخر بالنسبة إليه بعيداً. ومهما يقترب منه، سيذهب عنه إلى زاوية يصبح بها مجهولاً. ولذلك ستنزلق على سطح الأنا جميعُ الأبعاد الإنسانية الحميمة التي قد يشعر بها في وجود الآخرين وأثناء التفاعل الخلاق معهم على نحو عام.

من ثمَّ تسود ( اللامبالاة ) في مجتمعات تتضخم فيها الأناوات ويختفي خلالها مبدأ الواقع. وفي الثقافة العربية، يذهب هذا التضخم حداً تشكل معه أنظمةُ القيم والسياسة والتدين كلَّ لا مبالاة ممكنة. لأنها حالات حادثة دون اهتمام بالإنسان رغم هواجسها المفترضة حوله كما أشرت. وذلك يؤدي إلى وجود أناس غير فاعلين، يمارسون حياتّهم كأنَّهم ( قواقع بحرية- أصداف لامعة ) قذفها بحر الحياة الصاخب خارج أمواجه العاتية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى