أمل الكردفاني - روح العبيد.. قصة

يقال أن العبودية ليست لوناً ولا عرقاً ولا طبقة اجتماعية، العبودية هي روح، وهذا هو الفارق بين العبد والحر. فرغم أن عنترة كان فارساً غير أن روح العبودية هي التي جعلته يحارب لإقناع قومه بفائدته، وعندما أحب عبلة، إنما أحبها لأنها سيدته، فلو تزوجها أو لم يتزوجها، فسيظل عبداً في نظرها، أما الإنسان الحر، فهو الذي قد توضع القيود في أقدامه ومعصميه، وتلف السلاسل حول جسده، ويجلد بالسياط، لكن روحه تظل روحاً حرة. وكم من السوء أن تقبع في صدر الإنسان روح العبودية، حيث يعشق سيده، ويحب من يضربه، ويتمسح في رضى جلاده. وهكذا كان "سيد"؛ الذي لم يحمل من السيادة سوى اسمه فقط. إذ كان سيد، يعبد الزوجة الثانية التي طلقته بعد أن وجدها في أحضان رجل آخر فضربه عشيقها وطرده من المنزل، ويعبد مديره في العمل الذي يهينه كل صباح، ويسعى سعياً حثيثاً لإرضاء كل من يرى في عينيه احتقاراً له. عاش سيد عبداً، فكان يكره زوجته الأولى التي كانت تحبه، ويكره المراسلة الذي يعمل تحته في الدرجة الوظيفية، ويكره من يقدم له أي خدمة تنم عن وضع سيد في الاعتبار الآدمي.
وسيد هذا التقيته وأنا موظف في الهيئة العامة، حيث كان موظفاً في الإرشيف، موظف ذكي، وهو يتمسح في المدراء ليس تملقاً ولا من أجل مصلحة شخصية، بل يتمسح فيهم بروح العبيد، إذ أنه يراهم كأسياده دوماً، وكلما أذلوه ازداد ارتياحاً ورضى عن عبوديته. ولما كنت إنسانياً معه، فقد كرهني أيما كره. وإذ كنت حديث عهد بهذه النوعيات من البشر، فقد اندهشت من عدائه غير المبرر لي، حتى رأيتها وهي تدلف إلى المكتب باحثة عنه، كانت زوجته الأولى أو طليقته الأولى، والتي لم تجد من تشكو له بؤس حالها، هي وبناتها الثلاث، إذ لفظهم سيد في العراء بلا مأوى، ولم يكلف نفسه حتى رؤيتهم. قالت المرأة ودموعها تترقرق بين جفنيها:
- لا أريد منه مصاريفاً ولم أطلب ذلك حتى بعد أن توقف عن الإنفاق عليهم، لكن فقط أرجوه ان يتصل ببناته.
وحكت المرأة، كل الوقائع، وعندها تمكنت من تحليل شخصيته.. ولذلك قررت اختبار نظريتي.
بعد أسبوع خرج سيد من السجن بالضمان، إذ سجنته طليقته الثانية بعد ان اتهمته زوراً بسرقة مصاغها، فعاد إلى العمل وجلس في درج مكتبه قربنا، حينها سأله احد الزملاء عن سبب تغيبه، فحكى القصة وهو مكفهر الوجه، قلت له:
- ليس من المستبعد أن تكون قد سرقتها؟
جزعت عيناه وقال:
- لست لصاً..
قلت له باحتقار:
- لا أجزم بأنك لص غير أنني أرى في وجه الكئيب روح اللصوصية..
فاتسعت عيناه أكثر وأكثر، ولاحظت من بعدها تغير تصرفاته تجاهي. لقد اصبح يعمل بجد واجتهاد ليقنعني بأنه ليس لصاً وأنه إنسان طيب، بات يحمل حقيبتي عندما يراني أنزل من السيارة. أو يأتني بهدايا، فاوقفته عن تقديم الهدايا وزجرته بعنف:
- ايها اللص الدنيئ..ادفع هذه الهدايا لبناتك اللائي هجرتهن بلا رحمة..أنك كائن منحط فلا تقترب مني أيها المتعفن..
ورغم ذلك فقد ازداد خضوعاً لي.. كنت أنهره امام الموظفين:
- اذهب وآتنا بشاي وقهوة..
فيمتقع وجهه ويخرج ليأتنا بالشاي والقهوة..فأقول:
- لا تدخل صباعك في الفنجان حتى لا يتنجس..
فيبعد أصابعه كلها ويضع الأكواب بارتباك على الطاولة.
أضيف قائلاً للزملاء:
- هذا الكلب لص فحافظوا عل هواتفكم وممتلكاتكم..
فيبكي منكراً لصوصيته، ويزداد حباً لي...
جئت يوماً بأنشوطة، وطلبت منه أن يلفها حول رقبته ففعل، وبدأ في الحبو وانا آمره بأن ينبح، وكان ينبح كالكلب بالفعل.
إحدى الزميلات اصابها الغثيان من رؤية ذلك المشهد فتقيأت ثم غادرت وهي تبكي.
صحت:
- الحق بها أيها العبد الكسول وعد بها إلينا..
فاتسعت عيناه برعب وجرى نحوها لكنه عاد بدونها لأنها رفضت العودة.
تأكدت بعدها من صواب تحليلي لشخصيته. ولكنني لم أعرف ماذا افعل بعد ذلك. كنت أمام خيارين، إما أن أعامله كإنسان فيكرهني، أو أعامله كعبد فيحبني...وكان كلا الخيارين مراً، فتقدمت بطلب لنقلي إلى فرع آخر من فروع الهيئة...وهناك اكتشفت بأنني أنا نفسي قد تغيرت، لقد أصبحت أميل لإذلال الآخرين، وكان ذلك شعوراً يدغدغ غروري، لذلك وبسرعة ترقيت إلى المدير العام للهيئة.
ولكي أضمن سير عملي بدون معوقات قدمت طلباً للوزارة لتعيين سيد مديراً لمكتبي..وقد كان.
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى