أ. د. محمد عبد الرحمن عطا الله - الحلم وماورائية السرد عند سيد شعبان

ظهر مذهب أدبي جديد في القرن السابع عشر الميلادي؛ تجلَّى في الشعر الميتافيزيقي، أو ما يُسمى بشعر ما وراء الطبيعة، وحمل راية هذا المذهب الشاعر " دون جون "، واقتفى أثره مجموعة من شعراء إنجلترا؛ من أبرزهم " هنري فون "، و " أنرو مارفيل "، و" ريتشارد كرشوا"، واهتم هؤلاء الشعراء بالقضايا الفلسفية، والتساؤلات الماورائية؛ كالموت والحياة، وعالم البرزخ، وما بعد الموت، وعالم الأرواح.
ولا تكمن المشكلة في هذه القضايا- وهي قضايا يمكن أن يتناولها أي شاعر- بل المشكلة كامنة في الفلسفة التي تثيرها هذه القضايا، وهذا ما وضحه " إليوت" في مقاله عن شعراء الميتافيزيقا الشعرية، وقضاياهم الفلسفية والجدلية.
ولم تتجاوز الميتافيزيقا الشعرية موضوعَ الموت عند الشعراء العرب؛ أمثال: "إيليا أبي ماضي"، و" صلاح عبد الصبور"، و" ومحمود درويش" و" أمل دنقل".
وقد كتبت مقالًا - من قبل- عنونته الميتافيزيقا وأسئلة بيضاء مجنونة لحسين السنونة؛ حيث نقل الميتافيزيقا من عالم الشعر إلى عالم السرد؛ عبر قصته القصيرة " أسئلة بيضاء مجنونة"، وقد مثَّلت ثنائية الحياة والموت ثيمة النص؛ مثيرة مجموعة من التساؤلات الماورائية.
وينقلنا الدكتور سيد شعبان إلى عالم الميتافيزيقا من خلال الماورائية السردية "نبأ عاجل"؛ تلك القصة القصيرة الذي يهيمن عليها زمن الحلم؛ باعتباره زمنًا غيبيًّا، ومهما بالغ المبدع في أحلامه؛ لا يبتعد عن الواقع كثيرًا؛ إنما غياب السارد سبع ساعات نائمًا؛ لا يُعدُّ غيابًا حقيقيًّا، وهو غياب ميتافيزيقي، ومن هنا حطَّم السرد منطق الأشياء، وكَسَر أفق التلقي؛ محبطًا التوقع من خلال المراوحة بين التوقع وعدم التوقع.
" عندما كنت نائمًا حدثت أمور غير معتادة؛ صنبور الماء نزل منه تمساح كبير؛ أخبرني طفلي بهذا؛ لم أنتبه جيَّدًا للمفردة الأخيرة؛ إنه يشاهد قنوات الخيال العلمي؛ يبدو أنه مصاب بداء التوحد مع العالم الآخر".
نرى من خلال المقتبس السابق الملفوظَ السردي خرْقًا للإلْف، ومخالفةً للمعتاد، ولم يهرب السارد وحده إلى العالم الميتافيزيقي، بل تبعه الابن أيضًا؛ لكن عالم الابن الماورائي؛ يختلف عن عالم الأب النائم.
وتمارس الزوجة التسلط؛ فتمثل أعلى سلطة في البيت، ولم يقف عنفوان السلطة الأنثوية عند بيت السارد، بل يَطال كل بيوت المدينة؛ وإن أخبرنا البطل بأنه سِّيد البيت؛ إلا أن تلك السيادة مزيفة؛ تجافي الحقيقة، وتخالف الواقع " إنها لا يشغلها غير أن تستولي على راتبي لا تكتفي بأن جعلت مني بقرة حلوبًا؛ كل زملائي في العمل يبدون هكذا؛ وحدي مَنْ أصرَّ أنني سيّد بيته؛ يا للسخرية!"
ويبلغ تسلط المرأة/ السلطة غايةً عظمى؛ فتجثم على الصدور، وتكتم الأنفاس " صوت الراوي مصاب بالخرس؛ لا يملك أن يقول الحقيقة؛ يحتاج إلى تصريح من جهة التكتم على الأنفاس".
وفارق صنبور المرأة/ السلطة مهمتَه، و" يبدو أن مصفاته اتسعت؛ ليعبر من خلالها تمساح بحجم فيل إفريقي"، والتمساح المعادل الموضوعي للمذيع الذي حلَّ بالبيت؛ ليجري حديثًا مع زوجة السارد الذي يمثِّل طبقة الفقراء، وإن كان التمساح يبتلع قوت الفقراء؛ فإن المذيع يلتهم " شطيرة اللحم الأحمر؛ للأسف لم يأتنا غيره؛ فنحن منذ عام نشتهي طبق حساء؛ نبت الفول في جدران أمعائنا".
وتتكاثر التماسيح في مدة سبع ساعات، وهي زمن نوم البطل، ومن ثم نعاين " الأشجار في حديقة المدينة التي نسكنها تركت أماكنها، وأخذت تتجول في الطرقات الإسفلتية؛ تجاوبت معها البيوت، بدا أن المدينة على وشك الانهيار".
لم تكتفِ التماسيح بتجويع الفقراء، بل جاست خلال الديار؛ مفسدة في أرض المدينة؛ حتى كادت أن تتلاشى وتختفي من الوجود.
والسارد الذي ضاق ذرعًا بالقيد، وتسلط الزوج؛ تمنى في نهاية النص " أن يلتهم تمساح الصنبور تلك الزوجة، أو يخنقها مذيع نشرة الأخبار؛ حتى ولو جاء ذلك في نبأ عاجل"
إن ميتافزيقية السرد لا تمنع من استدعاء الواقع؛ فاختفاء المدينة ربما يشير إلى التغير المناخي الذي تسبب فيه التماسيح البشرية، مما يهدد حياة البشر، وقد تختفي بعض المدن من خارطة الكرة الأرضية.
وكما بدأ الكاتب النص بالعنوان " نبأ عاجل"؛ أنهاه بالنبأ العاجل؛ فمنح نصه تماسكًا لفظيًّا، وترابطًا دلاليًّا؛ فأعرض ونأى بجانبه عن الترهل، وخلا من الحشو والتقريرية، ونحا نحو الجمالية والفنية.




1629795251658.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى