وقفت قُبالة مرآتها تدقِّق نظرها في محاسنها الصّارخة ، تميل برأسِها تتجاوب وهمس فتنتها الذائبة بين ثيابِها الرَّخيصة ، تُضاحِك خيالها المُتَراءي في وهجٍّ ، سرعان ما تُريق كؤوس جمالها شهية تنطق بآياتِ الجلال ، ببطئ تتحسّس خصرها المفتول ، تستنطِق طراوته ، تنثني في ميوعةٍ ، فترسل لواحظها اللّينة متفجرة بكُلِّ غوايةٍ ، تفلتت بعينها جهةِ النّافذةِ المُطلّة على حارتها الفقيرة ، استندت بذقنها لترسل من صدرها تنهداتٍ حارقة ، وفي استعبارٍ ، قالت : كيف يطاوعني قلبي دفن هذا الحُسن بين حُطَام الفقر ، أليسَ صَنعة الله وهبته ، أليسَ من الواجبِ التّحدّت بتلك النِّعمة، ثم كركرت بصوتٍ عالِ فيهِ براءة الطّفولة ، وسذاجة الصّبا والاستهتار ، لم تكن " وداد" ابنة " جمالات" بائعة الجبن لترضى بحياةٍ ملؤها الفقر والعَوز ، وهي من هي أنوثة وجمال ، يساورها هذا الخاطر المُخيف ؛ أن تعيش كأمّها حبيسة لا تعرف من شواغلِ دنياها ، إلّا صفائح الجبن وروائحه الفَجَّة ، تبرقُ في كوامنها آثار رفيف أملٍ هزيل ، تبدو مبدّدة الخاطرِ ، شيء ما يهصر قلبها ، يدفعها لأن تُعلِن عن ثورتها ، تتفجّر تلك الهواجس في نفسها المُشبعة بالفورانِ ، كلّما اختلت بنفسها ، تُعَاود كلمات الإطراء المُلتَهبة تَرنُّ في مسامعها ؛ تَتعبّد بآياتِ بجمالها الأخَاذ ، في الحقيقةِ لم يكن ليستميلَ هذه الغادة الحسناء معسول الكلام ، بعدئذ استغنت بأحلامِ الثراء عن كُلِّ قولٍ ، تَشبُّ بين جوانحها آمال مستقبلٍ باسم ، يفتح ذراعيهِ مُعلِنا ميلاد مليكته المنتظرة.
سارت كأنثى كاملة الإغواء ، مستعينة بجمالها عن كُلّ رزانةٍ ، ذهبت توسلات أمها المنكسرة أدراج الرِّياح، حتى تهديدها بثَأرِ أبناء عمومتها الذين غلت عروقهم بدماءِ النَّخوة ، لم تفلح في كَبح جِماحها، لم تكن بمنأى عن عينِ " سرحان " ابن شيخ البلد المُستهتر ، حينَ عَقدَ رهانه في خُصِّ " عبدالمولى " حين أقسَمَ برأسِ أمه ، أن تكون "وداد" مِلكهُ وحده ، حتى وإن بَذلَ في سَبيلها آخر قرشٍ في محفظتهِ ، شُغِل باله بصيدهِ الثمين ، لا همَّ لهُ إلّا الإيقاع بها ، تلتمع عينيهِ لنظراتها الجريئة ، بدأ الأمرُ هَزلا ، وبمرورِ الأيام ما جعله قلِقا مهتاجا ، طافح النفس خافِقَ القلب ، يزدحم ذهنه بالفكرِ ، تلقاه بابتسامةٍ جسورةٍ ونظرة جريئة ، تُنعِش فؤاده ، غير أنّها تعود سريعا فتلطمه بصدودٍ مصطنع ؛ يجرح عِزّته ويهين كبريائه ، ويجعل منه أضحُوكةً بينَ رفاقهِ ، فهي وإن تعمّدت ملاعبة الشّباب بنظراتها الحَارِقة ، بيد أن أمانيّ الغَدّ الهانئ ، تتراءى لها عشيةً وضحاها ، فتخال نفسها مُنعّمة في عشِّ الزّوجية، مع فتى أحلامها ، و" سرحان " في نظرها إن هو إلا غرير مدلّل ، أفسده مال أبيهِ، وقضى عليه ميراث أمه ، لا يُطمئن إلى جانبهِ ، مرّت الأيامُ كئيبة حسيرة على صاحبنا ، تتوزّعه الشواغل ، يخرج من فمهِ الكلمات مضطربة واهية ، مُبلّلة بالأسى ، تنصهر في كيانهِ الأشواق ، تفورُ في عروقه دماء الطيش والتهور ، دَلَقَ في جوفهِ عشرات من كؤوس شرابه ، وقف يترنح ذاتَ مرة ، وذيول الفجر تلوّح في الفضاء الفضي الممجوج متوعدا : اقسم برأس أمي لأقتلنها..
لم يدر الجميع أن حُبّ " وداد " قد لامسَ قلبه ، وتحول الرّهان لعشقٍ وهيام ، يشعره بالظمأ المُحرِق يكوي مهجته، يتتبّع أنفاسها في كُلّ شيء حوله ، ذات صباح صحت القرية على فاجعةٍ لم تكن في الحسبان ، الغندورة جثةً هامدة تشخبُ أوداجها دما ، وأمها تنهد في حزنٍ دفين ، تبكي شباب المغدورة..
محمد فيض خالد / مصر
سارت كأنثى كاملة الإغواء ، مستعينة بجمالها عن كُلّ رزانةٍ ، ذهبت توسلات أمها المنكسرة أدراج الرِّياح، حتى تهديدها بثَأرِ أبناء عمومتها الذين غلت عروقهم بدماءِ النَّخوة ، لم تفلح في كَبح جِماحها، لم تكن بمنأى عن عينِ " سرحان " ابن شيخ البلد المُستهتر ، حينَ عَقدَ رهانه في خُصِّ " عبدالمولى " حين أقسَمَ برأسِ أمه ، أن تكون "وداد" مِلكهُ وحده ، حتى وإن بَذلَ في سَبيلها آخر قرشٍ في محفظتهِ ، شُغِل باله بصيدهِ الثمين ، لا همَّ لهُ إلّا الإيقاع بها ، تلتمع عينيهِ لنظراتها الجريئة ، بدأ الأمرُ هَزلا ، وبمرورِ الأيام ما جعله قلِقا مهتاجا ، طافح النفس خافِقَ القلب ، يزدحم ذهنه بالفكرِ ، تلقاه بابتسامةٍ جسورةٍ ونظرة جريئة ، تُنعِش فؤاده ، غير أنّها تعود سريعا فتلطمه بصدودٍ مصطنع ؛ يجرح عِزّته ويهين كبريائه ، ويجعل منه أضحُوكةً بينَ رفاقهِ ، فهي وإن تعمّدت ملاعبة الشّباب بنظراتها الحَارِقة ، بيد أن أمانيّ الغَدّ الهانئ ، تتراءى لها عشيةً وضحاها ، فتخال نفسها مُنعّمة في عشِّ الزّوجية، مع فتى أحلامها ، و" سرحان " في نظرها إن هو إلا غرير مدلّل ، أفسده مال أبيهِ، وقضى عليه ميراث أمه ، لا يُطمئن إلى جانبهِ ، مرّت الأيامُ كئيبة حسيرة على صاحبنا ، تتوزّعه الشواغل ، يخرج من فمهِ الكلمات مضطربة واهية ، مُبلّلة بالأسى ، تنصهر في كيانهِ الأشواق ، تفورُ في عروقه دماء الطيش والتهور ، دَلَقَ في جوفهِ عشرات من كؤوس شرابه ، وقف يترنح ذاتَ مرة ، وذيول الفجر تلوّح في الفضاء الفضي الممجوج متوعدا : اقسم برأس أمي لأقتلنها..
لم يدر الجميع أن حُبّ " وداد " قد لامسَ قلبه ، وتحول الرّهان لعشقٍ وهيام ، يشعره بالظمأ المُحرِق يكوي مهجته، يتتبّع أنفاسها في كُلّ شيء حوله ، ذات صباح صحت القرية على فاجعةٍ لم تكن في الحسبان ، الغندورة جثةً هامدة تشخبُ أوداجها دما ، وأمها تنهد في حزنٍ دفين ، تبكي شباب المغدورة..
محمد فيض خالد / مصر