عندما نزل المطر لأول مرة على مدينة صنعاء، أصيب الناس بالفزع، والخوف الشديدين ؛
فلم يسبق لهم أن شاهدوا الماء ينزل عليهم من السماء !! فقد كانوا يعتمدون في حياتهم على الآبار القريبة، والعيون المنتشرة تحت الجبال،
وزاد صوت الرعد العنيف، وضوء البرق القوي من رعبهم وفزعهم .
في البداية ظن السكان أن جيوش الأعداء قد أحاطت بالسور الذي يحمي المدينة، وأن صوت الرعد يصدر من طبول عظيمة يضربون عليها بعصي غليظة، وأن البرق عبارة عن مشاعل قوية تومض وتختفي بسرعة خلف قمم الجبال الشاهقة، وأن العدو في الوقت ذاته يرشقهم بسهام وحصي تشبه قطرات الماء !!
تحصن الناس داخل بيوتهم، وأمضوا ليلتهم في خوف، وترقب، وحذر ، ورغم توقف المطر قبل طلوع الفجر ، إلا أنهم ظلوا داخلها حتى عم الضياء كل الارجاء، فخرجوا يتطلعون حولهم بحذر، فيما هرع الملك مع حراسه وحاشيته وعلى رأسهم وزيره الذي فشل في إخفاء اضطرابه فأخذ يرتعد في تلك اللحظة من شدة الخوف.
وعند باب القصر احتشد الجنود، وكل رجال ونساء المدينة شاهرين سيوفهم، وخناجرهم، وأسلحتهم متوجسين شرا، وفي حالة استنفار عظيمة لمواجهة هذا العدو الذي بلل مدينتهم بالماء، فاعتلوا الأسوار، وأخذوا ينظرون بدهشة إلى مسطحات الماء المتجمع حولهم داخل وخارج السور !! ، وبعد تردد طويل قرروا فتح (باب اليمن) وهو الباب الرئيسي، وأكبر أبواب السور المحيط بالمدينة ، وبحذر شديد خرجوا يفتشون في كل مكان، إلا أنهم لم يجدوا شيئا غير برك الماء ! .
أشار الوزير على الملك بأن لا يقترب أو يلمس أحد تلك المياه فقد تكون فخا، كما أشار عليه إرسال العيون والجواسيس حول المدينة، ففعل الملك ما أشار به الوزير فقد كان الملك يثق به، ويعرف مدى حذر وحرص وزيره على مصالح المملكة، بعكس الرعية الذين كانوا يكرهون الوزير لكثرة شكوكه، وسوء ظنه الدائم وهو ما كان يؤدي إلى رمي كثير من الأبرياء في السجن .
أما الملك فقد عمل بنصيحة الوزير وأرسل العيون والجواسيس إلى خارج حدود مدينة صنعاء، وسريعا ما عادوا وهم يبشرون الملك بأن لا وجود لأي غرباء، وأن عيون الماء التي كانت مصدرهم الوحيد قد امتلأت ،وفاضت، وأن الماء قد تجمع في شكل بحيرات في بطون الأودية .
شعر الملك بشيء من الارتياح لكن الوزير المرتاب أسرع في تبديد حسن ظن الملك مشيرا عليه بأن يمنع الناس من شرب الماء مدة اسبوع، خشية أن يكون العدو قد رشقهم بالسم ليمتزج مع مياه الينابيع والآبار التي يشربون منها حتى يهلك المملكة بالسم البطيء ،فأصدر الملك أمره للناس بعدم الاقتراب من الماء ،وأن يصوموا عنه مدة اسبوع كامل .
أذعن الناس لأمر ملكهم المحبوب، ومر الأسبوع على الناس والحيوانات بصعوبة، حتى أن بعض الحيوانات هلكت من العطش داخل الزرائب والحضائر، وزاد من مشقة الناس حين يتطلعون إلى صفحات الماء التي تملأ شوارعهم وأراضيهم،وتعكس ضوء الشمس على وجوههم الشاحبة ،و رؤية العصافير والكلاب وهي تلعب و تشرب وتسبح دون أن يصيبها شيء ،مما زاد من مشقتهم، وتذمرهم .
وما كادت تنقضي آخر ساعة من أيام الأسبوع حتى انطلق الناس يعبون الماء، ويسبحون، ويلعبون، ويلعنون سرا الوزير المرتاب الذي همس من جديد في اذن الملك مفسدا عليه شعوره بالاطمئنان، وأشار عليه بأن يبعث العيون إلى كل أرجاء المملكة ليطلع على كل الحصون والثغور، وأن يرسل الرسل والسفراء إلى الأعداء ليستوثق من سلامة العهود بينهم، ولعلهم يكتشفون سر ذلك الماء الذي أصابهم .
وبالفعل انطلقت العيون، ومواكب الرسل، والسفراء، وفيما الملك ووزيره يترقبان عودتهم بدأت الأرض بالتغير ، فنما العشب، واورقت الأشجار، واعشوشبت الأرض ، وازهرت البراعم، وأينعت الثمار، وتوافدت أسراب الطيور والعصافير ، وانتشرت خلايا النحل فسال العسل، وسمنت الأبقار، والماعز فدر من ضروعها الحليب، و تلبدت جلودها بالصوف، وثقلت غصون البن، والرمان، والعنب، واكتست مدرجات الجبال بالسندس الأخضر الرائع...
وبعد شهور عاد الرسل، والسفراء يبشرون الملك بأن كل شيء على ما يرام، وأن الحصون والثغور قوية، والملوك يرسلون له خالص التحية، فرح الملك وابتهج،ثم التفت نحو وزيره لكنه لم يجده فبعث بمن يحضره، ويتفقد أمر غيابه، فلم يجدوا له أثر ،تعجب الملك وشعر بالقلق على وزيره فذهب بنفسه إلى غرفة الوزير فوجده ملقى على الأرض، قد نحل جسده، وجف جلده، وأخذ يلعق الأرض من شدة العطش، فأمر الملك بجلب الماء، وجثم على الأرض ليرفع رأس الوزير ويضعه على حجره، وأخذ يسقيه جرعات صغيرة وهو يقول له :
- هون عليك أيها الوزير ، إنه ماء نقي إشرب.. إشرب..
فشرب الوزير حتى ارتوى، وما أن رفع الملك الإناء حتى شعر الوزير بتقطع أمعاءه، فانكفا متكورا على نفسه من شدة الألم ، ثم لم يلبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة .
بكى الملك عليه وأمر بصنع تمثال للوزير كتب عليه ( وحدها الأفكار من تحيل الماء إلى سم قاتل) .
عبدالله عبدالإله باسلامه .
اليمن /2021م .
فلم يسبق لهم أن شاهدوا الماء ينزل عليهم من السماء !! فقد كانوا يعتمدون في حياتهم على الآبار القريبة، والعيون المنتشرة تحت الجبال،
وزاد صوت الرعد العنيف، وضوء البرق القوي من رعبهم وفزعهم .
في البداية ظن السكان أن جيوش الأعداء قد أحاطت بالسور الذي يحمي المدينة، وأن صوت الرعد يصدر من طبول عظيمة يضربون عليها بعصي غليظة، وأن البرق عبارة عن مشاعل قوية تومض وتختفي بسرعة خلف قمم الجبال الشاهقة، وأن العدو في الوقت ذاته يرشقهم بسهام وحصي تشبه قطرات الماء !!
تحصن الناس داخل بيوتهم، وأمضوا ليلتهم في خوف، وترقب، وحذر ، ورغم توقف المطر قبل طلوع الفجر ، إلا أنهم ظلوا داخلها حتى عم الضياء كل الارجاء، فخرجوا يتطلعون حولهم بحذر، فيما هرع الملك مع حراسه وحاشيته وعلى رأسهم وزيره الذي فشل في إخفاء اضطرابه فأخذ يرتعد في تلك اللحظة من شدة الخوف.
وعند باب القصر احتشد الجنود، وكل رجال ونساء المدينة شاهرين سيوفهم، وخناجرهم، وأسلحتهم متوجسين شرا، وفي حالة استنفار عظيمة لمواجهة هذا العدو الذي بلل مدينتهم بالماء، فاعتلوا الأسوار، وأخذوا ينظرون بدهشة إلى مسطحات الماء المتجمع حولهم داخل وخارج السور !! ، وبعد تردد طويل قرروا فتح (باب اليمن) وهو الباب الرئيسي، وأكبر أبواب السور المحيط بالمدينة ، وبحذر شديد خرجوا يفتشون في كل مكان، إلا أنهم لم يجدوا شيئا غير برك الماء ! .
أشار الوزير على الملك بأن لا يقترب أو يلمس أحد تلك المياه فقد تكون فخا، كما أشار عليه إرسال العيون والجواسيس حول المدينة، ففعل الملك ما أشار به الوزير فقد كان الملك يثق به، ويعرف مدى حذر وحرص وزيره على مصالح المملكة، بعكس الرعية الذين كانوا يكرهون الوزير لكثرة شكوكه، وسوء ظنه الدائم وهو ما كان يؤدي إلى رمي كثير من الأبرياء في السجن .
أما الملك فقد عمل بنصيحة الوزير وأرسل العيون والجواسيس إلى خارج حدود مدينة صنعاء، وسريعا ما عادوا وهم يبشرون الملك بأن لا وجود لأي غرباء، وأن عيون الماء التي كانت مصدرهم الوحيد قد امتلأت ،وفاضت، وأن الماء قد تجمع في شكل بحيرات في بطون الأودية .
شعر الملك بشيء من الارتياح لكن الوزير المرتاب أسرع في تبديد حسن ظن الملك مشيرا عليه بأن يمنع الناس من شرب الماء مدة اسبوع، خشية أن يكون العدو قد رشقهم بالسم ليمتزج مع مياه الينابيع والآبار التي يشربون منها حتى يهلك المملكة بالسم البطيء ،فأصدر الملك أمره للناس بعدم الاقتراب من الماء ،وأن يصوموا عنه مدة اسبوع كامل .
أذعن الناس لأمر ملكهم المحبوب، ومر الأسبوع على الناس والحيوانات بصعوبة، حتى أن بعض الحيوانات هلكت من العطش داخل الزرائب والحضائر، وزاد من مشقة الناس حين يتطلعون إلى صفحات الماء التي تملأ شوارعهم وأراضيهم،وتعكس ضوء الشمس على وجوههم الشاحبة ،و رؤية العصافير والكلاب وهي تلعب و تشرب وتسبح دون أن يصيبها شيء ،مما زاد من مشقتهم، وتذمرهم .
وما كادت تنقضي آخر ساعة من أيام الأسبوع حتى انطلق الناس يعبون الماء، ويسبحون، ويلعبون، ويلعنون سرا الوزير المرتاب الذي همس من جديد في اذن الملك مفسدا عليه شعوره بالاطمئنان، وأشار عليه بأن يبعث العيون إلى كل أرجاء المملكة ليطلع على كل الحصون والثغور، وأن يرسل الرسل والسفراء إلى الأعداء ليستوثق من سلامة العهود بينهم، ولعلهم يكتشفون سر ذلك الماء الذي أصابهم .
وبالفعل انطلقت العيون، ومواكب الرسل، والسفراء، وفيما الملك ووزيره يترقبان عودتهم بدأت الأرض بالتغير ، فنما العشب، واورقت الأشجار، واعشوشبت الأرض ، وازهرت البراعم، وأينعت الثمار، وتوافدت أسراب الطيور والعصافير ، وانتشرت خلايا النحل فسال العسل، وسمنت الأبقار، والماعز فدر من ضروعها الحليب، و تلبدت جلودها بالصوف، وثقلت غصون البن، والرمان، والعنب، واكتست مدرجات الجبال بالسندس الأخضر الرائع...
وبعد شهور عاد الرسل، والسفراء يبشرون الملك بأن كل شيء على ما يرام، وأن الحصون والثغور قوية، والملوك يرسلون له خالص التحية، فرح الملك وابتهج،ثم التفت نحو وزيره لكنه لم يجده فبعث بمن يحضره، ويتفقد أمر غيابه، فلم يجدوا له أثر ،تعجب الملك وشعر بالقلق على وزيره فذهب بنفسه إلى غرفة الوزير فوجده ملقى على الأرض، قد نحل جسده، وجف جلده، وأخذ يلعق الأرض من شدة العطش، فأمر الملك بجلب الماء، وجثم على الأرض ليرفع رأس الوزير ويضعه على حجره، وأخذ يسقيه جرعات صغيرة وهو يقول له :
- هون عليك أيها الوزير ، إنه ماء نقي إشرب.. إشرب..
فشرب الوزير حتى ارتوى، وما أن رفع الملك الإناء حتى شعر الوزير بتقطع أمعاءه، فانكفا متكورا على نفسه من شدة الألم ، ثم لم يلبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة .
بكى الملك عليه وأمر بصنع تمثال للوزير كتب عليه ( وحدها الأفكار من تحيل الماء إلى سم قاتل) .
عبدالله عبدالإله باسلامه .
اليمن /2021م .