أمل الكردفاني - نحس أغسطس

تتجمع الغيوم بسرعة في أغسطس، أسرع من المتوقع، وتفرغ محتواها بسرعة أيضاً في هطول واحد. هكذا يحدث في شمال خط الاستواء، يكون اليوم الثاني مشمساً وحاراً مشبعاً بالرطوبة، وتمتلئ القيعان بمياه الأمطار، والأشجار الشوكية في السافنا الفقيرة تنكمش ويتحول لون لحائها إلى السواد. تنق الضفادع، وتغمر الكلاب جسدها في الطين اللازب، ويلعب الأطفال في المستنقعات، ويغرق الكثير من المراهقين في الأنهار. تنقطع السبل بالقرى، وتنهار الطرق المعبدة بسبب الفساد في التشييد. من قرية "فكونا" يخرج بائعوا الماء بحميرهم دفعة واحدة عند الفجر متجهين إلى أقرب مدينة، فحتى في أغسطس يظل الماء النظيف مطلوباً في القرية والقرى المجاورة. تجر الحمير الصهاريج الحديدية المدهونة باللون الأزرق، وتحاور الطين بصعوبة، حتى تستقر على شارع مستوٍ أعلى من الأرض.
من قرية فكونا ينشق الصبي عن جماعته ليزور القرية المجاورة، يشك مؤخرة الحمار بعصا ويجز أضراسه مشقشقاً كي يحفز حماره على متابعة السير. يبتسم أحياناً بأسنان نصفها مصبوغ بالجير الأصفر، حين يتذكر الصبية. إنه يخسر كثيراً من الوقت، مع ذلك فلا بد أن يزورها كل صباح، يدق الباب بعصا الهش وهو لا يزال فوق عربته، فتخرج الصبية.
- كيفكم؟
يقول فتنظر الصبية إليه..
- كويسين..
ثم يغادر متابعاً طريقه إلى المدينة.
توفر المنظمة الدولية فناطيز ضخمة ممتلئة بماء الشرب النظيف، وفق برنامج محدد لتوفير المياه مجاناً للقرى البعيدة. ولكي توفر على نفسها المجهود، فهى تترك لبائعي المياه لعب هذا الدور مقابل ربحهم للقليل من المال. بل وفرت لبعضهم صهاريج متنقلة لحملها فوق عربة الحمار. قرابة ألف حمار يتجمعون في أوقات متفرقة ومحددة، يكون أصحاب الحمير في القرى الأقرب هم آخر من يحصل على المياه وهكذا.
قبل أن يصل الصبي المتأخر إلى المدينة رأى رهط بائعي الماء عائداً، وأخبروه بأن المنظمة قد تم طردها من البلد. كانت تلك كارثة، وقال كبير بائعي المياه من فوق ظهر حماره:
- وجدوهم يقدمون السلاح للمتمردين فتم طردهم من البلد..
وهكذا انقلبوا عائدين والصمت يلفهم. لقد خسروا مصدر رزقهم الوحيد.
هطلت أمطار كثيفة في مساء ذلك اليوم ونبت الحنظل بين أثلام الطين، والكثير من الأعشاب نبتت بشكل عشوائي في شكل رقاع متفرقة. انسربت بعض المياه في خيران صغيرة تلوت كالأفعى وهي تمضي بوهن إلى مصبها في أدنى الأرض. وفي صباح اليوم التالي حرر الصبي الحمار من الصهريج الذي لم يعد له فائدة، ثم نخسه وهو يحاول الوصول إلى القرية الأخرى. دق الباب فخرجت إليه بشعرها المنكوش الناعم ذو الاطراف البنية..
- كيفكم؟
- كويسين..
نظرت خلف الحمار فقال:
- أوقفوا توزيع المياه
حجبت عينيها بكفيها من ضوء الشمس..
- ما بتجينا تاني؟..
انتفض قلبه وأجاب بسرعة
- بجي..
أسدلت كفها وشرعت في غلق الباب وهي تقول:
- سمح..
- سلام..
- سلام..
جز أضراسه وحرك الحمار عائداً إلى قريته..كانت عودته غداً غير مبررة أبداً..كان كل شيء غير واضح في تلك اللحظة..كسؤالها عن إحتمالية عدم حضوره مرة أخرى.. لكنه هش الحمار ومضى بصمت..كان يكفيه هذا الشعور الغامض بالحب.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى