ورِثنا الحقَّ فيهِ ، كإرثِ أنسابنا وأقدارها ، صغيرا ألِفَ المشاقّ كمَا ألِف حليب أمه ، مُنذ كانَ غَضّا فتيّا يمرحُ خَلفها بينَ الحقولِ ، يتسمّع أنينها المضني تحتَ أحمالها فلا يكترث ، ساعتها لم يكن يعلم عن أمرِ مستقبلهِ وعذاباته شيئا ، حتى وعى الحقيقة المُرّة بلا ترتيب ، ذاتَ صباحٍ اُحتجِز عن الخروجِ كعادتهِ ، وضِعَت البردعة فوقَ ظهرهِ اللّينِ ، ويدٌ غليظة تهوي بهراوةٍ صلبة ، تحثّه السّير بلا تواني ، مُنذ السّاعة انقطعَ لأحمالهِ ، ما إن ينقضي شقاء نهاره ، حتى يستأنف عناء ليله ، مع انبلاجِ بياض نهاره تُفرغ فوق كاهلهِ أثقالا ، لا يجد في حياته علالة من عيشٍ ، بل باتَ يتلظى بنارها ، وكأنّ التّعاسة ما وجدت إلّا له، بني بينه وبينَ ماضيه سدّا منيعا ، لا يعرف من حياته إلّا جحودا ونُكرانا ، وأكبادا غليظة تُذِيقه صنوف الهوان ، وآلاما تسيلُ لوقعها دموع الفضيلة حُزنا وأسى ، مُذ وعيت وأنا أرى " حمار العيلة " مشاعا تتخطّفهُ يد الحاجة ، تمطرهُ سحائب اللّعنة أينما سارَ ، وبمرورِ الزّمنِ عَلَقَ مع هؤلاءِ علوقا لا نجاة منه ، ما إن يراني حتى يُحرِك ذيله في استعطافٍ ، تتراقص أذنه في هُزالٍ ، يدكَّ قدمه المعتّلة في مربطها ، ينفر نفرات مُحرِقة ، يُجَمجِمُ بصوتٍ حَسير تَطيرُ لُه شَظَايا القلوب ، جَمجَمة الأسير الذي انقطعت عنهُ حَبائل النَّجَاة ، اللَّهم إلّا عن ودِّ فتىً لا يملك من أمرهِ ، غير أن يَسمح جَسدهِ المُشقَى بكفٍّ حانيةٍ ، دَاعِيا لهُ بالصّبرِ والثباتِ ، تَطفحُ عينيه بالدّمعِ ، لا يدع قطرة فيهما إلّا نَضحها ، يشكو جور الإنسان ، ويبكي تصاريف زمانه العابث ، غواه شيطانه فانفلتَ من محبسهِ في غفلةٍ من سجانهِ ، عند انسلاخ الفجر فوقَ الحقولِ ، شَرَع يهرول طائشا حول الدار فرِحا مسرورا ، ينفث منتشيا نفثات الحرية والانطلاق ، في عنفوانٍ تحتَ أثقالِ التّوجسِ ، لم يدر إلّا ويد غليظة ؛ توزّع لها فؤاده اشتاتا ، تطبقُ فوقَ عنقهِ ، وتجرّه لتودعه حيث كانَ ، وعصابة من طالبيهِ غِلاظ الأكباد ، تُدمي جسده بعصيها القاسية ، سارعت في تلهفٍ كباقي أبناء العائلة ، تتوزّعني الهواجس حول مصيرِ المسكين ، لكنّ ما إن لمحني حتى بَرَمَ جسده المُدمى جهة الجدارِ ، يُرسلُ أناته التي تُذيب الجماد مُستَسلِما لنيرِ سِياط جلاديه ، في هاتهِ اللحظة تغافلت عن تُراهات القوم من الحمقى ، يتهمونني بتدليلِ الحمار حتى تلفت أخلاقه وأعلن عصيانه، لم اتمالك مشاعري هاجمني انقباض غريب ، طالعته بنظرةٍ قلقة مريبة عما ينتظره ،زهد المسكين الحياة ، انقطع تماما بعدَ أيامٍ عن طعامهِ ، بينَ عَشيةٍ وضُحاها اعتراه يأس غريب ، وتوجس من كُلّ شيء ، حتى أناملي الحانية تُداعِبُ جسده الضّامر لم يعد لها القبول ، ها هو يقفُ مُتداعيا تحَتَ الجِدارِ ينتظر موتا محتوما، لم يمرّ الأسبوع حتى لقي الشّقي حتفه ، ودّعت العائلة حمارها الرّاحل بامتعاضٍ مصطنع ، سويعات وعادت الحياة كما كانت ، رَجَع القوم لسابق عهدهم ليتخيّروا صاحب النّصيب .
محمد فيض خالد / مصر
محمد فيض خالد / مصر