الحكاية هي العمود الفقري للرواية، فالرواية تروي حكاية، وبدون الحكاية تنتفي الرواية، وفكري داود حكاء بطبعة، ويعرف كيف يجذب مستمعه أو قارئه، مستخدما سلاح التشويق، فحكاياته لا تنفد وهي حوادث متصلة منفصلة، ويتخذ من القرية المصرية مسرحا لأحداث معظم قصصه ورواياته، فهو نشأ بإحدى قرى دمياط، وخبر أهلها وناسها، شوارعها وحواريها وأزقتها، مزروعاتها وحيواناتها وطيورها، عاش فيها عمرا مديدا، سبر غورها، واستكن جوهرها، قلّب في تربتها، ولم يقنع بالطلاء والقشور، ولكنه راح يبحث في الطوايا والأعماق، يبحث عن الجذور، عن التحولات والتغيرات التي حدثت للقرية المصرية منذ ثورة يوليو أو ماقبلها بقليل وحتى إرهاصات الإنفتاح الاقتصادي ومعاهدة الصلح مع العدو وما بعدهما، راصدا الآثار المقيتة لهذين القرارين على الواقع المصري وعلى الشخصية المصرية، والتي خلخلت الثوابت، وخلخلت الجذور، فاختلت منظومة القيم، وانقلب سلم الهرم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وإذا كانت القرى في مصر تتشابه وسير بعض أهل القرى تتشابه أيضا وقد تصل حد التطابق، كما يقول الكاتب، وهذا صحيح إلى حد كبير، وتتشابه قرية الكاتب مع القرى التي تناولها الكُتّاب الأخرىن، وسنتناول في عجالة التقاطعات والعوامل المشتركة بين قرية الكاتب والقرية المصرية عموما :
1 – المولد :
لاتخلو قرية في مصر من ضريح لولي، ويقام له مولد كل عام، يتم اختيار توقيته بعناية فائقة، بعد موسم الحصاد غالبا، حيث يتوفر في جيوب الناس الأموال، فبعد موسم كد وتعب في زراعة المحصول، يأتي المولد ليلبي حاجات إقتصادية من خلال حركة البيع لهذه التجمعات الكبيرة، وحاجات دينية من خلال حلقات الذكر، والإنشاد الديني وسرد سير الصالحين، وحاجات ترفيهية من خلال الألعاب ويلبي أيضا حاجات المراهقين، فالفرصة سانحة للقاء المحبين، وقد عالج الكاتب هذه الظاهرة من خلال مولد سيدي " اللاوندي " شأنه شأن معظم الكُتّاب الذين تناولوا هذه الظاهرة.
2 – طقوس الزواج والممات :
رصد الكاتب مراسم وطقوس الزواج ومراسم وطقوس الممات في القرية، ولم تختلف هذه المراسم والطقوس عنها في القرى الأخرى التي رصدها الكُتّاب أيضا.
3 - عبيط القرية أو البهلول :
معظم الكُتّاب الذين تناولوا القرية، أشاروا إلى البهلول والذي يرمز إلى الجنس وهو كائن نصف عاقل ونصف عبيط، تتعلق به بعض النساء اللائي غادرهن أزواجهن لفترات طويلة بحثا عن لقمة العيش، أو النساء اللواتي لم يشبعهن أزواجهن الذين يعملون في أعمال شاقة تأخذ كل جهدهم وطاقتهم وعافيتهم.
وفكري تناول ظاهرة الجنس من خلال البهلول وغيره، وللحنس عند فكري حضوره الطاغي في الرواية وسنتناوله تفصيلا لاحقا.
4 – التخطيط العشوائي للقرية :
تتشابه قرية الكاتب مع معظم القرى التي تناولها الكُتّاب، المباني الفقيرة العشوائية والتي تخلو من أية مسحة من جمال، والشوارع الضيقة، والحواري، والأزقة، وقرية الكاتب كانت من المرونة الجغرافية بحيث استطاعت أن تجذب الغرباء والموسرين الجُدد، أثرياء الانفتاح، فنشأ الحي الجديد، بمبانية الأسمنتية، وشوارعه الواسعة، واستوعب الحي الجديد، المستجدات على القرية من بوتيكات وستوديو للتصوير، وكوافير للسيدات، ومقاهي، و .. و ..
5 – بعض العادات والتقاليد المتوارثة :
على سبيل المثال لا الحصر : المرأة التي لا يعيش لها ولد، معتقدة بأن العين التي فلقت الحجر هي سبب موت ولدها، فتحتال على ذلك بتسمية المولود الشحات أو رمرام أو بغل أو حتى كلب ..
" اسم يتلهى الناس بفجاجته، وينفلت صاحبه من العين التي ستؤدي حتما إلى لحاقه بسابقيه ". والإعتقاد بالحسد، وبالسحر والعديد من الموروثات.
6 – توارث المهن :
يرصد الكاتب ارتباط لقب الجد الأكبر بمهنته، ويسوق لنا أمثلة عديدة، منها :
أ – فوزي الساعاتي، الذي ورث بيع الساعات بمحلات المدينة لسنوات، وعودته إلى القرية ممتهنا إصلاح الساعات بها.
ب – عائلة العربجي : يعملون حوذية على عرباتهم الكارو، أو على عربات غيرهم بالأجر.
ج – العم صادق نجار السواقي، يلتصق لقب النجار باسمه، يقضي الساعات الطوال لإصلاح مدارات السواقي.
وكان الكاتب بارعا في رسم هذه الشخصيات، وجاء رسمه لهذه الشصيات أقرب إلى الصوة الكاريكاتورية، مستفيدا من خصائص فن " الكاريكاتير " فى رسمها، ومن الصعب أن ينسى القارئ شخصية فوزي الساعاتي أو العم صادق النجار أو العم عطية بعربته الزاحفة كسلحفاة عرجاء، ولا ينسى مواله الضاحك والذي حفظه عنه أهل القرية.
7 – حلاق القرية :
الصورة التي رسمها الكاتب لحلاق القرية لا تختلف كثيرا عن الصورة التي رسمها الكتاب له، فاعتدنا أن نراه، جالسا القرفصاء، لصق بغلة الكوبري، أو معتليا مصاطب البيوت، أو فوق حجر تحت شجرة، وقد يفترش حشيش الغيطان، وهو ممسك برأس الزبون، يفعل به ما يشاء، كما يمسك ببطيخة يريد فحصها، يتلاعب بالأقفية، وبالشوارب المتهدلة، المصفرة من دخان السجائر الرخيصة والجوز، ....
8 – الداية :
الداية ( وداد ) لم يقف عملها عند الكاتب عند حدود، حف الوجوه، ونتف شعور الأجساد، وختان البنات، ومساعدة العريس المرتبك في فض بكارة عروسه ليلة الدخلة، والتدليس أحيانا على العريس، وإيهامة بأن عروسه عذراء، بإعدادها المسبق لقماشة ملطخة ببقع الدم، وذلك نظير أجر متفق عليه مع أهل العروس، وداية داود يمتد عملها لختان الصبية، ولها في الجنس صولات وجولات ليس بآخرها اعتلاء البهلول في الخُص، ولا محاولتها ممارسة الشذوذ مع أحلام!!.
9 – الغجرية ( العرافة ).
المرأة الغجرية التي يتم دعوتها، لتكشف عن سارق، أو تقرأ طالع عانس لم تتزوج، وماذا تخبأ لها الأيام، وعرافة داود عرفت كيف تحتال على أحلام، وتسرق ذهبها، و .. و ..
.......
.......
ستظل لقرية فكري داود خصوصيتها، وتميزها، وعبقها، ومن أسباب تميزها في رأيي :
1 – تشبع حواس الكاتب بالقرية، فجاءت لغته مفعمة بالصور السمعية والبصرية، من خلال إحساساته الصوتية الرهيفة والعالية بأصوات الحيوانات والطيور حتى نقيق الضفادع ووشوشات النسيم وخرير المياه، وكأنه موسيقار قادر على أن يطرب آذاننا بلحن القرية التي لم يستنطقها موسيقيا أي من الكتاب الذين تناولوا القرية قبل فكري بهذا العمق الموسيقي، وقدم لنا من الصور البصرية لوحات تشكيلية مكثفة للقرية، ونجح الكاتب في جعل القارئ يشم بأنفه ويسمع بأذنيه ويرى بعينيه ويتذوق بلسانه ويعيش أجواء القرية بكل مفرداتها إعاشة كاملة.
2 – التتبع والسير نحو تقصي الحوادث، والشخصيات، والتحولات السياسية والاحتماعية والاقتصادية، والوصول إلى جذورها، ومنابعها الأولى، مستخدما بحذر ووعي شديد علمي المنطق والاحتمالات في الرياضيات، فهو ينظر للحدث من كل الزوايا، ومن شتى الجوانب، ويقلبه على كل الاحتمالات الممكنة، وكل ذلك دون الوقوع في صرامة العقل ولغة العلم.
3 – إقامة الكاتب بالقرية، وعدم مغادرته لها، إلا للعمل متعاقدا كمعلم للغة العربية بالمملكة العربية السعودية، وأتاح هذا البُعد المكاني والزماني، الفرصة للكاتب في مراجعة حوادث وهموم وقضايا القرية والوطن، وقد رقت الأحداث في نفسه، وشفت، وجاءت لغته مقطرة، بعيدة عن الانفعال المباشر، وخلص سرده من اللغو والثرثرة، حيث لا ترهل ولا زوائد ولا فضول.
4 – عدم الوقوع في فخاخ المباشرة الفجة، والشعارات الكبيرة، والقرارات المصيرية، فهو يرصد الاثار لهذه الشعارات ولهذه القرارات على البشر، ومدى تأثيرها على حياتهم، فعندما يتحدث مثلا عن حروب 1948م، 1956م، 1967م، فهو لايتحدث عن أزيز طائرات، وطلقات دانات المدافع، ورصاصات البنادق، ولكنه يتحدث عن أثر هذه الحروب، ليس بالضرورة على الإنسان الذي خاض الحرب، ولكن على الإنسان الذي لم يخض الحرب، ويرصد الأثار الاجتماعية والاقتصادية، وقس على هذا قرارات مثل تأميم الأراضي، وقراري الصلح مع العدو، وقرار الانفتاح الاقتصادي، وغيرها من القرارات التي مست حياة الناس، وأثرت فيها، بل غيرت المجتمع من حال إلى حال، وتحول المجتمع مائة وثمانون درجة، صعود طبقات جديدة، وانحسار طبقات أخرى، واختفاء ثالثة.
........
إضاءة حول قرية الكاتب :
( 1 )
قرية الكاتب من القرى البائسة، لم يستفد من قرار تحديد الملكية الزراعية الذي أصدره الزعيم، غير قلة قليلة جدا، فالقرية ليس بها غير عائلتين فقط من الإقطاعيين الذين يملكون المساحات الشاسعة من الأراضي، ولكن هذه المساحات تقع للأسف في زمامات أخرى، مما حرم معظم فقراء القرية والأجراء من الاستفادة من قرار اقتطاع مساحات من أراضي الإقطاعيين وإعادة توزيعها على هؤلاء ليصبحوا من زمرة الملاك، كما حدث للكثيرين في الزمامات والمناحي الأخرى القريبة والمتاخمة لهذه القرية، وكأن أهل القرية كما يقول الكاتب :
" كتب عليهم الغرس في أرض غيرهم، والتربية في غير ولدهم "، فمعظمهم خرج من مولد تأميم الأراضي بخفي حنين كما يقول المثل العربي، وربما هذا ما يفسر هشاشة وانحسار الطبفة المتوسطة في هذه القرية التي لم يستفد أهلها من قرار الزعيم، فظل الأُجراء أجراء، وربما تأتي هذه القرية البائسة استثناء من كل قرى مصر الذي ارتفعت فيها أسهم الفلاح والعامل، والأغلبية الساحقة من فقراء الفلاحين والعمال، انتفلت من الهامش إلى المتن، وانتقلوا بسرعة من طبقة الحفاة العراة إلى الطبقة المتوسطة التي تنامت سريعا، وتكاثرت، وتم بفضل إنحياز الزعيم إلى هؤلاء، القضاء على مجتمع النصف بالمائة، نصف بالمائة هم السادة، وبافي الناس أقرب إلى العبيد، يتفانوا في خدمة هؤلاء السادة، وهذا الانحياز أفرز الطبقة المتوسطة، وأصبحت هي الطبقة الكبرى التي تقوم عليها كل خطط التنمية، وأصبحت عصب المجتمع، ولكن قرية الكاتب لم تستفد بالقدر الكافي من هذه القرارات مثل القرى الأخرى، لتظل الأغلبية الساحقة حفاة عراة، يستجدون لقمة العيش، ويعيشون حياة الكفاف.
.........
( 2 )
الغرباء وصيد اليمام :
أشار الكاتب إلى الغرباء الذين يأتون إلى القرية بسيارات فارهة، في مواقيت معينة من كل عام، لصيد اليمام، وينصبون خيامهم لأيام، وتعلو من داخلها اصوات الكاسيتات بصاخب الأنغام، ورائحة الشواء تعبق بأجواء القرية، ويخلفون وراءهم أجولة من الفحم، وزجاجات فارغة لمشروبات مجهولة، ويلعب هؤلاء مع قادم الأيام دورا في التغيرات التي طرأت على القرية، وخاصة في زمن الانفتاح!.
( 3 )
أهم عائلات القرية :
العائلة الأولى :
على نفقتها بنت المسجد الكبير، وتوارثت العمدية كابرعن كابر، ويهتم أبناء هذه العائلة بأعمال الزراعة، وتربية البهائم.
العائلة الثانية :
عائلة آدمون، عائلة مسيحية ولها باع طويل في العطاء، بنت المدرسة اليتيمة بالقرية، يعيشون على حافة الناحية، بسرايتهم وسط حيازتهم، ويقوم على أمر الفلاحة لديهم حشود من أسر الشغيلة، وهم على تواصل دائم مع العاصمة، وخاصة في أيام الأحاد، ولهم في التجارة باع طويل.
أثر قرار التأميم على العائلتين :
وكأن المصائب لا تأتي فرادى، فجاء نبأ مصرع العمدة وولدة في حادث بشع، وهما يشتريان ماكينة للري، متزامنا مع قرار التأميم، وركب الإصرار الجدة الأم على ترك الناحية التي باتت شؤما، ولم تحتمل قرار الزعيم الذي جعلهم يتفرجون على أملاكهم، وهي تئول لمن عاشوا بينهم راضين بأدوارهم كعمال وخدم، فغادروا الناحية وحذا حذوهم آل أدمون، ولم يتركوا غير أقل القليل الذي يذكرهم في قادم الأيام بأيام مجدهم وعزهم، ولم يبق من العائلة الأولى غير من له الحق في العمدية بعد مصرع والدة، وهو غير راغب فيها، وأخ له مجذوب، يهيم على وجهه، ومن العائلة الثانية آثر آدمون وزوجته تريز البقاء، فقد ارتبط بالقرية ارتباطا نفسيا وعاطفيا، سيجئ ذكر سببه لاحقا، فيما غادر باقي العائلة القرية.
لكل مرحلة رجالها :
وظهر الشيخ إمام كوسيط بين هذه العائلة الإقطاعية ومشتر من العُمد الأجلاف، نظير مقابل كبير( عمولة )، هذا المقابل خطا به خطوات واسعة نحو الثراء.
وظهر بعد ذلك الكثير من الوسطاء والمتعهدين نظير أجر في بيع أراض آل أدمون إلى غرباء لا يعرف أحد من أي مكان جاءوا.
وحاولت الطبقة الأرستقراطية الاحتيال على هذا الوضع، بمصاهرة بعض كبار رجال الحكومة!!
وهذه الطبقة الأرستقراطية هي التي حظى أولادها بتعليم جيد سواء في القاهرة أو في بعض العواصم الأوربية، ومنهم الأطباء والمهندسين والمحامين، والقُضاة.
عائلة الشيخ إمام :
1 – الشيخ إمام، قدمه الكاتب كرجل دين وسطي، يقوم على أمر المسجد، ويؤم المصلين، أحبه الجميع ويعتقد البعض في بركاته، وقدرته على شفاء المريض، بفضل صلاحه وتقواه، وقربه من الله.
" يشيع أغلب الناس، حمله ورع الصالحين بين جنباته، وباعا واسعا من العلم، بسيرة الرسول الكريم، وصحابته والتابعين، يعي قلبه آيات القرآن، ويتوقف لخاشع تلاوته، سابح الطير في السماء، وثمة يقين عجيب يسكن النفوس، في قدرته على تطبيب الموجوعين بالرقيا، أو بالتلاوة حول الرءوس المحمومة "
2 – هانم : الابنه الكبرى للشيخ إمام، تزوجت من ناظر زراعة أرض آل أدمون
3 – أمين : يصغر أخته هانم بعشرين سنة، وأربع ذكور جاءوا بينهما ولم يعمروا.
= زينب : البنت الصغرى للشيخ إمام، وماتت أمها عقب ولادتها، ورفض الشيخ الزواج، ولم تنقطع رجل هانم عن الدار لتقوم بشئون ورعاية الصغار، وتنهض بأعباء الدار.
4 – شريف : الابن البكري لأمين وحفيد الشيخ إمام
6 – بهنس : الابن البكر لهانم، وحفيد الشيخ إمام، وفي عمر خاله آمين، وتقاربهما في السن جعلهما كما يقول الكاتب كديكي الحلبة :
" كلما توفرت حاجة وحيدة تصلح لطفل واحد، من تراه أحق بهما من الصغيرين، الولد أم خاله؟!
لتمتد معهما المبارزة بامتداد الصبا، من تراه أحق بقيادة فريق كرة الشراب؟ ومن أولى بحماية بنات العائلة من معاكسات الصبية وهن عائدات من الحنفية العمومية، بجرارهن الملأى، و ... ؟ ومن ...؟ " وستدور بينهما صراعات رهيبة حول من الأولى بالعمدية التي تخلى عنها العمدة، ولم يعد راغبا فيها، ويلجأ قدري إلى أخس الطرق وأقذرها، ليفوز بالعمدية.
.....
زيزي وهريدي :
امرأة غجرية عاقر، حياتها تشبه كثيرا حياة أحلام، وهذا التشابه قرب بينهما، ولجأت إلى كل الحيل والوسائل الممكنة منها وغير الممكنة، المشروعة منها، وغير المشروعة، لتحقق أمومتها وتنجب، ولكن كل الحيل والوسائل باءت بالفشل، واكتفت بالعمل كقوادة، والإشراف على جلسات المزاج للطبقة الموسرة، وجلب الراقصات، واختيار الجميلات من بنات ونساء القرية، ليقضين وقتا مع الزبون نظير مقابل، وتزوجت من هريدي، رجل ديوث
........
أهم الأفكار والموضوعات التي أثارتها الرواية :
1 – سطوة الجمال واسبداده.
2 – استبداد المال وطغيانه.
3 – الاستبداد الديني.
4 – الحضور الطاغي للجنس.
5 – دور المثقف في القرية.
6 – السياسة الحاضرة أبدا.
7 – انتظار المخلص.
.......
1 – سطوة الجمال واستبداده.
اهتم الكاتب بشخصياته اهتماما بالغا، ورسمها بعناية فائقة، ومن أهم شخصيات الرواية شخصية " أحلام " التي لعبت دورا محوريا في القرية، ساعدها على القيام بهذا الدور، ما تملكه من جمال فاتن، وفتاك، لا يستطيع كائن من كان أن يصمد أمامه، وأمام سطوته التي لاتُقاوم. وبما تملكه أيضا من عناد وصبر، وقدرة على التخطيط، والتدبير المحكم للمكائد، فإذا غدت أو راحت، تدور رءوس أهل القرية فوق أعناقهم " لتستقرعند شفيف ثوبها، وهو يرسم حدود الجسد، والنهدين النافرين، بمدخلهما حليبي اللون، الذي يغري العيون، بالانحراف سريعا كي تنغرس فيه ".
والكاتب يمعن في وصف جسدها، وإبراز فتنتها، وتأثير هذه الفتنة على أهل القرية " تحت ملفوف خصرها، يزيح ردفان ممتلئان، يروح فوقهما الثوب، يمينا مع خطوة، ويسارا مع أخرى ".
والكاتب لايهتم بالوصف الخارجي للشخصية فحسب، بل يمتد إلى وصف ما يعتمل في نفس الشخصية من صراعات، وما يدور في عقلها من تدابير، ولا يتوقف عند الجوانب ( الجوانية ) فقط، بل يسعى لنقل حركة الشخصية وتأثيرها في محيطها الاجتماعي.
أهم المحطات في حياة أحلام كما أوردها الكاتب:
1 – جذورها الأولى :
في سراي عائلة آدمون :
" دار عراك بين أبو سمرة، وبين والد أحلام، احد الغرباء المستجلبين للخدمة .. إثر ضبط الأخير – على زعمه – لإمرأته مع الأول، في وضع مريب، وعليه تقرر تسريح أبو سمرة، أصغر صبية الخدم آنذاك .. بعد منحه جحشة، دأب على ركوبها، لقضاء حاجات السراية الطارئة، كما تم الاستغناء عن أم أحلام، وابنتها الطفلة وقتها .. مع منحها شيئا من المال، فيما تم ترحيل رجلها – الغريب – إلى مالا يعلم أحد "
واقترب الكاتب كثيرا من الحياة اليومية لأحلام وأمها، ومعاناتهما في تدبير الطعام والكساء، شأنهما شأن الكثيرين من أهل القرية الذين يعانون من الفقر والفاقة، وامتهنت المرأة بيع القليل من الخضروات، واقترب الكاتب بشدة من اليومي والمعاش، وهذا ما أعطى للرواية مذاقها الخاص، فهي تنقل الحياة، وتعكس تفاصيلها الصغيرة.
" اصطدم بصرها بهيكل أمها، المتقوقع مغلق العينين، فوق كومة قش بأحد الأركان، تحت رأسها حاشية من لوف النخيل، تصل إلى الركن على استحياء، خيوط لمبه معلقة، فليلة الجاز، شحيحة الضوء، .. "
هل أحلام مرتبكة الجذور؟.
يقول الكاتب :
" امرأة مرتبكة الجذور، يمكنها التلاعب، بجيش من القلوب "
2– مستوى التعليم والثقافة :
" تشتبك مع المراهقين في حوارات ضيقة، تنبئ عن معرفة، تفوق سنواتها المدرسية الأربع، التي حتم الظرف الإكتفاء بها " ..
وهذه المرأة الجميلة التي لم تمكث بالمدرسة غير سنوات قليلة، تعي بالفطرة قواعد ونظريات المنطق، والمقدمات الصحيحة التي تؤدي إلى نتائج صحيحة، والقدرة على الاستقراء، وأيضا القدرة على الاستنباط والتحليل، ولا تهتم بما يتهامس به الناس عنها، فهي مجرد أخبار، والخبر يحتمل أن يكون صادقا، ويحتمل أن يكون كاذبا، واستطاعت هذه الجميلة أن توظف ملكاتها العقلية في المكائد، المكائد لحبيب قلبها أمين، ولأولاده من بعده، واستطاعت أن تكون اهم سيدة في القرية، وأن تساهم بنصيب وافر في تغيير الشكل الجغرافي للقرية، وتغيير أنماط السلوك والثقافة التي كانت سائدة، جسدت ثقافة الانفتاح، وكانت على رأس الطبقة الجديدة التي فرضت ثقافتها وأنماط سلوكها في القرية.
3 - علاقتها بأمين ابن الشيخ إمام :
عاشا قصة حب لاكتها الألسن، ونجحت في الاستفادة مما تناقله الناس عنها وعن أمين، فبمجرد أن أسر علي الخشن للشيخ إمام عما يتناقله الناس عن ابنه وأحلام، فزع الشيخ، ورغم ثقته في نسله التي لا تتزعزع، تماما كثقته في جدوده السابقين، قال بحزم : هي الخطبة إذن، ليست سواها، قاطعا ( للشوشرة ).
وسعدت أحلام سعادة لا توصف بهذه الخطبة، فتقول لنفسها :
" وماذا بعد يا بنت؟
ها هو حجر واحد أدار في الماء دوائر عديدة :
فإلى جوارك حط رحال الحبيب، عائلا كريما، يسعد بالعطاء أكثر من الأخذ، وبهلته الندية، تنقطع ألسنة المتشدقين،، يكفيك وأمك عناء سؤال اللئيم، ثم يأتي حتما أوان الانتقال، محفوفا بزغاريد ودفوف، وكثير من الحسد، إلى بيت إمام المصلين، صاحب الجزارة الوحيدة، والعشرين فدانا ملك، يتلألأ وسطها فدانان، للجوافة والنخيل "
وتتسع دائرة الأحلام لأحلام ..
ولكن تأتي انتكاستها الكبرى :
" خروجها خاسرة، من معركتها مع أمين، الذي خطبها زمنا، وقد سرت قبلها. سيرة صلتهما في أوصال الأزقة، مشفوعة بهداياه، التي بدأ أثرها ظاهرا عليها، وعلى أمها، التي توقفت عن اقتراض حزم الفجل والخس من أبو سمرة "
4 – الأزمة :
تناقلت الناس سيرتهما كخطيبين، تخطت علاقتهما كل محظور، وأصرت على التعجيل بالزواج قطعا للسيرة، فيما رأى هو في التعجيل تأكيدا لها، وكل منهما ركب دماغه وأصر على رأيه، وتزوج أمين من غيرها بعد قصة حبهما العنيفة التي لاكتها الألسن بلا رحمة.
وكان رد فعلها بأن ألقت بنفسها في أحضان رجل مُسن، أرمل، وهو الشيخ عبدالرحيم الدائر بالآيات على الدور وخلف القبور، النازح إلى الناحية، من مكان لا معلوم، خصوصا وله سابقة زواجية، جنى من ورائها صغيريه. زايد وسنية .. بعد وفاة أمهما.
وزواجها من الشيخ عبدالرحيم، استهجنه البعض، ولم يخف الكثيرين نظرات الحقد، والحسد .. على ذلك الشيخ المُسمى رجلها، مقطوع الأهل والإرث، وظلت مطاردة بتشكيك الناس في قدرة شيخها على ممارسة حقه معها لتنجب له صغيرين جديدين : هادي وسوسو!.
ولا يكف أهل القرية عن مضغ سيرتها، فثمة تلميحات عن نظرات وإشارات بينها وبين الغرباء الذين يأتون إلى القرية في مواسم محددة لصيد اليمام، " وثمة أقوال غير قاطعة بمشاهدتها تحادث أحدهم وجها لوجه "
ولم يعد خافيا عن أهل القرية ترددها على المدينة، وأكد غير واحد بأن الغرباء باتوا يأتون في غير مواسم صيد اليمام، ومنهم من يقابل أحلام جهارا نهارا.
وأحلام لا تعبأ ولا تهتم بما يُثار حولها، وتعرف طريقها جيدا.
.......
ربما تكون أحلام أول امرأة في القرية تلجأ عند الولادة إلى عملية شق البطن، لا لسبب طبي بقدر ما هو رغبة منها في الحفاظ على جسدها، من الترهل، ولجأت إلى المرضعات في القرية حفاظا على صدرها، فهي تعي تماما جمالها، وتعي أنه ثروتها الحقيقية، وتدرك مدى تأثيره على الآخرين، ووقوعهم أسرى له.
.....
5 - مكائد أحلام :
مكائدها لا تُحصى ولا تُعد، وبدأتها، بإخراج زايد ابن زوجها من المدرسة، فلو نال قسطا وافرا من التعليم، سيصبح خطرا يتهددها، وعملت على إزاحته من القرية برمتها، وبرحها الولد يائسا وحزينا ومكتئبا.
وسعيها أيضا لزواج سنية بنت زرجها من علي الخشن الذي يكبرها بعشرين سنة، ويعمل كلافا في معلف الشيخ إمام.
– اتفقت مع الخشن على ضرورة الايقاع بين آمين ووالده الشيخ إمام، وزرع فتيل الفتنة بينهما، وهذا شرطها لزواجه من سنية، ووافق الخشن، ورغم فشل المكيدة، لكنها زوجته بسنية، لتتخلص منها، وتخلو لها الدار، ويكون عينا لها هناك في قادم الأيام.
.......
2 – استبداد المال وطغيانه :
زايد الذي قطعت أحلام رجله من المدرسة، وعملت على طرده من القرية، عاد بعد سنوات، في بذلة أنيقة، وربطة عنق زاهية، وحذاء انيق، وسيارة فارهة، وحقائب كثيرة، والأهم تلال الفلوس التي جمعها من حله وترحاله، داخل البلاد، وخارجها، وقدمه الكاتب تقديما رائعا، ويمثل أحد رموز الانفتاح، انفتاح ( السداح مداح ) بتعبير الكاتب أحمد بهاء الدين، الذي أفرز طبقة جديدة من الطفيليين، تاجرت في المستورد، والمغشوش، والمضروب، وكل ما هو استهلاكي، وتم من خلاله ومن خلال الحيتان الأكبر، ضرب الصناعة الوطنية الناشئة في عصر الزعيم في مقتل!
وزايد يمثل نموذج المرحلة خير تمثيل، فلا مجال عنده للعواطف، ولكل شيء ثمنه، ولا بأس من استثمار العواطف من أجل التجارة والمال، بل استثمار الدين نفسه وتوظيفه من أجل نماء هذا المال، ودورانه، فسرعان ما تصالح مع أحلام زوجة أبيه، فمصلحته معها، والتعاون معها فيه منفعة له ولها، فلولاها لما عاد بهذا المال، فلو كان قد تعلم، مثل أقرانه لظل في فقره إلى يوم قيام الساعة، وحاول أن يقنع نفسه بفضلها، وهي التي تسعى لتزوجه من أخت بهنس، العمدة المنتظر، وهي التي تسعى لتزوج ابنة أخته فوزية من شريف ابن الشيخ أمين، وتسعى لتجد لعائلتها مكانا تحت الشمس، فزايد وسنية أشقاء الهادي وسوسو، ووفرت له قطعة أرض فضاء، أقام عليها بيتا، يواجه بيت بهنس ويطاوله.
افتتح بدور البيت الأرضي محلا كبيرا، لبيع الملابس والأحذية، ووضع أعلى بابه لوحة كبيرة، مكتوب عليها ( بوتيك زايد )، وعلى الباب ذاته علق لوحة أخرى تعلوها قول الله تعالى .. " .. وأحل الله البيع وحرم الربا ... "، ومكتوب تحتها عبارة " لا مانع من البيع بالآجل " .. وعبارات أخرى جديدة كلها تعكس توجهات وتطلعات المرحلة الجديدة. وهذا النموذج الانتهازي يعرف كيف يمد خيوط التواصل مع الناس، ويجند من المتسكعين من ينقلون له أخبار الناس، وأحوالهم، ويشارك أهل القرية في أفراحهم، وفي أحزانهم، ولا مانع لديه من مد يد العون لأرملة فقدت نعجتها، أو عجوز أفسد المطر فرن الخبيز الذي تقتات منه، فيتكفل ببنائه لها من جديد، وكل هذا ليس لوجه الله، بقدر ما يساعد على دوران سيرته على الألسن كرجل كريم، معطاء، ويسعد بالصورة الذهنية الجديدة التي بدأت تتشكل في أذهان الناس، الصورة التي يرسمها لنفسه بحنكة ودربة، ويريد أن تزيح الصورة الجديدة صورة زايد القديمة، ابن الشيخ عبدالرحيم الدائر بآيات الله خلف القبور..
" تصل إلى أذنيه الكلمات ذاكرة بالخير ابن المرحومين، الشيخ عبدالرحيم وامرأته الأولى قبل أحلام، الذي غاب لسنوات، ثم عاد وقد رد عليه أصله الطيب .. "
ويسمع من الناس ما يحب أن يسمعه، والناس لا تذكر إلا ما يحبه هو ..
" فجده لأمه، بل وأمه نفسها، ومنذ قدومهما إلى الناحية، ظلا خادمين، لضريح وليهم اللاوندي "
أما والده .. " فقد جاب الناحية بالآيات الكريمات، لتحل البركات، أينما يحل، وتفر الشياطين، وخبيث النفوس، كما يلقي بدعواته خلف رءوس الموتى، كي تشملهم الرحمات .. "
وغض الناس الطرف عن أفعال والده في ( ربط ) العرسان حديثي الزواج، وغضوا الطرف أيضا عن أحجبته المضروبة للنسوة، وتناسى الناس عمدا، حادث شج جبهته، على يد والد بهنس، بعد حجاب مكتوب بتراب الفرن، أكد معه أن جاموستهم المريضة، عمرها مديد، ونسلها سوف يزيد، لكنها لم تبت ليلتها إلا نافقة.
قدم فكري داود لنا نموذجا، من النماذج التي ساهمت بل وقادت التحولات الجديدة للقرية والوطن، نماذج تعيد تشكيل الحياة، وفقا لرؤاها، وثقافتها، وهذا الزايد .. " لم يمض الوقت الطويل، حتى صار كبيرا للدائنين، وبعقلية من عركته الدنيا وعركها، تجمعت على المشترين لديه، عشرات وصولات الأمانة "
وزايد الذي تزوج بأخت بهنس العمدة الجديد، أعلن له بعد أن امتلك رقاب الكثيرين، بأنه عقد النية على وقف البيع بالآجل، ولاحت لبهنس الفرصة فاغتنمها، فأعلن بهنس بأنه سيقرض الناس بزيادة مضاعفة، ولا أسهل من ( البصم ) على الإيصالات، ورهن أوراق البيوت – التي لها أوراق – وأسهم الأرض القليلة.
ويعدد بهنس مكاسبه من ذلك، فهو .. " يحصد بالزيادة المفروضة عند السداد، ويحصد مرات جديدة، برهن البيوت والقراريط، أو مآلها إلى حوزته بأبخس الأثمان، ليعيد بيعها أضعاف مضاغفة، للراغبين ذوي العملات الحاضرة، خصوصا الغرباء والقادمين، المنتشرة بينهم حمى الامتلاك بالناحية "
وبدا بهنس فك محكم لكماشة عملاقة، وزايد فكها الآخر، وبين الفكين انحشر من انحشر، وينتظر الحشر من ينتظر، المهم هو أن .. " تزداد الخزينة، بالإيصالات والعقود والرهونات .. والتوسع في حيازة ممتلكات المأزومين "
والمشهد الأكثر قتامة :
سارع بهنس وزايد إلى المحكمة لتقديم بعض وصولات المدينين ..
" زاد الخناق حول الأعناق، اقتربت دمعة الرجال، لم يجد أكثرهم حلا، سوى تسليم بيوتهم القديمة، أو بيعها، محاولين تسديد الدين، وبدا مألوفا جدا، مشاهدة من يجر أفراد أسرته، في عرض الطريق، وهم راحلون عن أماكن، أفنوا فيها اعمارهم الفائتة، وبين ظهرانيها تناثرت ذكرياتهم ولو كانت غير سعيدة "
وأبت أحلام أن تترك هذه الفرصة لهما وحدهما، فشرعت في رفع أسعار هذه البيوت، وآثر أصحابها البيع لها، آملين في بقاء شيء من المال، بعد تسديد الدين .. قد يستعينون به، على عناء الرحيل، إلى وجهات يعلمها الله.
وهذه النماذج الإنتهازية، وممارستها، تجعلنا نتساءل عن مشروعية البيع بالآجل، ورغم تأكيد الفقهاء وفي شبه اتفاق بينهم على مشروعيته، وأنه حلال، حلال، حلال، ولكن النماذج التي قدمها الكاتب وبما تملكه من حيل ووسائل، وتدليس، والتفاف غير أخلاقي، واستغلال بشع للفقر، والجهل، يجعلنا نهيب بهؤلاء الفقهاء إلى إعادة النظر في هذه المسألة، التي أظهرت من خلال ممارسات البعض اللاأخلاقية إلى إفقار الناس، وتدمير حياتهم، بل وأخلاقهم، كما سنبين في مواضع أخرى.
......
3 – الإستبداد الديني :
أعتقد أن التعصب لفكرة بعينها أو لدين بعينه هو نوع من الإستبداد، وقد تملكني القلق من أمنيات أهل القرية، بأن يكون العم آدمون على دين الإسلام، وكأنهم في لاشعورهم يستكثرون الرجل على المسيحية، لسلوكه الطيب، من الذي زرع في داخل هؤلاء بأن الأديان الأخرى لا يمكن أن تقدم للإنسانية رجل معطاء، كريم، نبيل، وكأن الدين الإسلامي هو وحده القادر على فعل ذلك، ونسى هؤلاء أو تناسوا بأن بهنس وزايد وأحلام وزيزي من المسلمين!.
هل أراد الكاتب أن يشير إلى تغلغل التعصب في العقل الجمعي لأبناء القرية، دون أن يشير إلى حقب بعينها، وجماعات وأشخاص بعينهم هم من أزكوا روح التعصب.
وقدم لنا الكاتب حسام بهنس، كنموذج لهذا المتعصب ..
" جمعته المعرفة مؤخرا، بأناس قليلي الكلام، صارمي السحنات، رأوا في النهاية، حتمية إقامته معهم، بمكان مجهول لرفيقي السكن "
" جمعت ( زاوية ) محدودة، على أطراف المدينة، بينه وبين هؤلاء، بعد تعلقه بدروس أحدهما، عقب أداء الصلوات "
" تواترت أخبار انقطاعه عن المعهد، بعد خلاف غريب، وقع مع معلميه، حول مسألة تبدو شكلية، بدأها هو بإمتناعه عن الوقوف كزملائه، كلما دخل المعلم إلى الفصل، قال :
( من سره أن يقف الناس له، فليتبوأ مقعده من النار )
وحسام كاره لعبدالناصر، الذي زج بالمتدينين الملتزمين بالسجون، ويستنكر على أبيه العمدة بهنس الكثير من ممارساته، وأعماله، ويعود من المدينة بزوجة له، وألقى على سمع والده وشقيقه قدري، قائمة طويلة من الأوامر والنواه، تتعلق بكيفية التعامل مع المرأة، خاصة أخاه، الذي يعرف سيرته ..
" بتحذير شديد اللهجة، من مخاطبتها، أو محاولة الإنفراد بها، في أي آن أو زمان، وإلا .. "
وينتقد طريقة ذبحهم للدجاح، وأواني الطهي، فالإناء الذي يطهون فيه ( حلة الضغط ) شيطاني، وأبدى تحفظاته على أموالهم، ومعاملاتهم، وسلوكياتهم، حتى صلاتهم لم تخلو من تحفظاته عليها.
وبدأ يؤمن بضرورة وحتمية التغيير، وبدأ الخوف والقلق يتسرب إلى والده العمدة بهنس ..
" كيف كبدته العمدية حيلا عديدة، ومالا مدفوعا، لمسئولين من الوزن الثقيل، وربما لبعض الراغبين، في ترشيح أنفسهم ضده، كما كبدته أيضا، شيئا من الندالة، مع خاله أقرب أقاربه، ختمها بزفة عارمة لنقل التليفون، من دوار العمدة الكبير إلى داره، ثم يأتي هذا الولد، حسام ...، لا ليفقده العمدية فقط، لكن ليفقده ربما حياته وكل شيء، إذا وصلت مثل هذه الأراء، لأي مسئول كبير أو صغير، فالصغير دوما، لا يتوانى عن كسب الأبناط، بإبلاغ الكبير، بما تلتقط أذنه من أراء، هل تأتيه الضربة من داخل بيته؟ "
فكان والده يؤمل في مواصلة تعليمه، ويعود ليمسك بزمام المدرسة بالقرية، ويؤم المصلين بالجامع، فهو حفيد الشيخ إمام، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ورياح حسام عاتية، قد لا تُبقي ولا تذر.
ويقدم لنا الكاتب سيرة وجيزة، مختزلة ومكثفة لحسام بهنس، والتي تنتهي بالقبض عليه مع نفر من جماعته، بعد أن نفذوا أكثر من عملية إرهابية، آخرها الهجوم على محل للذهب يمتلكه احد اقارب آدمون بالمدينة، وسرقوا الذهب، وقتلوا صاحب المحل، ومن تصادف وجوده، فلا مانع من التضحية ببعض الجنود في المعركة الكبرى من أجل تحقيق الهدف الأكبر والأسمى.
.......
4 – الحضور الطاغي للجنس :
والجنس تمثله شخصية زيزي، الغجرية التي التقطتها أحلام، وأغرتها بالبقاء في القرية، جاءت كضاربة للودع و " أبين زين أبين، وأشوف ... " حتى وصل خطوها إلى أحلام، ويتفق هواهما معا " .. " تنتقل إلى بيت جديد، أقامته مكان بيتين قديمين، أقنعت أحلام صاحبيهما بالبيع " .. وتقول دون خجل :
" الدنيا لم تترك لعبة، إلا ولعبتها معها، منذ نضجت رمانتا صدرها، وحتى يومها الآتي، مؤكدة أن لملامحها ورمانتيها هاتين، الدور الأعظم في ابتكار الدنيا، لألعاب جديدة يلعبانها معا .. "
لها بالقرية تجربة زواج لليلة واحدة، من شقيق فوزي الساعاتي، قبل أن ترتبط بهريدي الصعيدي الديوث، والذي مات في صباح اليوم التالي، وتناثرت الأقاويل، ولم يلجم تصريح الطبيب الشرعي، بأنه مات بسبب أزمة قلبية، لعيب خلقي بالقلب، لم يلجم هذا التصريح ألسنة الناس، أو يسكتهم عن فرض الفروض وتقليب الأمر على كل احتمال، ممكن حدوث بعضها، واستحالة حدوث البعض الآخر، وتظل الأقوال المتناثرة، مجرد أخبار، تحتمل الصدق، وتحتمل الكذب، وزيزي لاتهتم بمثل هذه الأخبار، وانحسر دور زيزي في استقبال ذكور النحل، المنسحبة قبل الموت، مسلمة بفشلها، في نوال شهد الملكة أحلام ".
ما من شاب أو شيخ، رجل أو حتى طفل، إلا ويشتهي أحلام، ويتمنى أن يكون فارسها ولو لليلة واحدة، وبعدها يموت، ورغم ما يثار حولها، لا يستطيع أحد أن يزعم بأنه تمكن من أحلام، أو رأى بعينيه أحلام في حضن أحد، وأحلام هي من تحدد الأدوار، واختارت لزيزي الدور الذي يليق بها، والمناسب لإمكانياتها، وهو استقبال ذكور النحل الذين يشتهون الملكة أحلام ولا ينالونها، وزيزي هي البديل الجاهز لاستقبالهم.
ظل عمل زيزي في البداية مقصورا على قلة قليلة من الغرباء الذين يأتوا إلى القرية في مواسم صيد اليمام، وبعض الموسرين، وتتم هذه اللقاءات الحميمية بحذر شديد، وكانت أحلام من الذكاء بحيث بدأت في إعداد وتجهيز العديد من بنات ونساء القرية، لمهام لا تخطر لهن على بال، وكان من آثار عصر الانفتاح .. تحول كامل في شخصية المرأة الريفية :
" ترسل في طلب ما تنتخبه من النسوة، يهرولن إليها بفضول غزير، يعدن إلى بيوتهن، بجديد قمصان النوم، وأحمر الشفايف، ولبان نتف الشعر، مع بودرة التلك، وزجاجات العطر الرخيصة "
ويستهلك الوقت أحلام .. " في تدريب الغشيمات منهن على استخدام الأشياء، تجري يداها متحسسة مواضع بأجسادهن، لا تزال تغلفها البكارة، دون وصول أنامل رجالهن إليها، .. "
فهم في القرية .. " اعتادوا قضاء اللقاءات الزوجية، كما تقضيها ذكور البط وكباش الغنم، تفتح أذنيها لحكاياهن، تمتلئ جعبتها بأسرارهن .. "
ومن ثم كان حتمية فتح الكوافير لهن، والذي أحدث ثورة لدي النساء، فعرفوا عوالم أخرى، لم تكن تجول بخواطرهن أبدا، فهي تناولت أجسادهن ووجوهن وشعورهن بمزيد من المعالجات، التي لم يألفنها من قبل، لكنهن سرعان ما اندمجن فيها، آملات في استمرارها، ولم يعد في امكانهن العودة إلى سيرة أجسادهن الأولى، ..
زواج زيزي من هريدي:
رجل من الصعيد، ولا يملك رجولة ونخوة أهلنا في الصعيد، ديوث، يقبل الزواج من الغجرية القوادة العاهرة، وقبل أن يعقد عليها، اشترطت عليه في حضور المأذون وشاهدا العقد :
" أقبل بزواجك، على ألا تتدخل، في شأن داخل أو خارج " وأضافت .. " ما لك إلا أكلتك وهدمتك، وطبعا سريرك "، ووافق على هذا الشرط، والتزم به التزاما تاما، أغمض عينيه، وأصم أذنيه، وأقامت له في الدور الآرضي مقهى، وترك لها الدور العلوي لتستقبل من تستقبل من راغبي المتعة.
وأخذت زيزي بمساعدة أحلام في التوسع، فالغرباء والموسرين من طالبي المتعة، بدأوا يتقاطرون على زيزي ومجلسها العلوي ..
" اشترت زيزي – باسم رجلها – أقدم بيت يجاور المقهى، أحلت محله بناء جديدا، على أدوار ثلاثة، لها أبواب داخلية، تصلها مباشرة، بقلب البيت الأصلي، ثم إلى دوره الثاني، انتقلت بمجلسها المعروف، مع بعض الإضافة الجوهرية، كاستقدام مغنيات أخريات، مع المغنية الأولى، وبعض الراقصات المستجلبات، من كباريهات فقيرة بالمدن، اتخذن من الدور الثالث سكنا، سمح لأي منهن بالرقصات الخاصة، فتصحب الزبون – إذا كان غريبا – إلى حجرتها وقتا، يتحدد مقابله وفقا لطوله أو قصره ".
ومن أدوار زيزي في تلك الحقبة :
تمكنت من تقريب البعيد، لراغبي السفر، فسهمها لدي ( فيز ) الخليجيين نافذ، فدأبت على استقبال الخليجيين في مجلسها العلوي، وقبلت زيزي كل ما يصلح للرهن أو البيع مقابل تسهيل السفر، وفي حال عجزهم عن توفير النقدية، ونادرا ما تتوفر، يتنازلون عن البيوت – على أمل السفر – والعودة بالمال، ليبنوا بيوتا جديدة أكثر رحابة وأكثر أناقة.
ومن الأدوار القذرة أيضا .. تعمد تحت مسمى المساعدة لزوجات من سافروا، إلى طلب بعضهن، وخاصة اللواتي يحتفظن بمسحات من جمال منهن، كي يساعدنها أولا في أعمال بيتية بسيطة نظير خدمات لها ولأولادها المحرومين، والخطوة التالية، تطلب فيها من إحداهن، تنظيف بيت أحد القادمين الكبار، ومنهم زبائن بمجلسها العلوي نظير أجر معقول. وإذا داهمها الزبون بالمراودة، ونال مراده منها دون عناء، صارت عضوة فاعلة بأقل تخطيط، فإذا فشل معها، تحتم تكثيف الخدمات إليها، ونثر بضع جنيهات بين يديها، قبل إعادة المحاولة معها.
" وفي جراب زيزي، تبقى لهن آخر الحيل، وأضمنها، حيث يندس المخدر للعاصية منهن، في طعام أو شراب، فتروح في غيبوبة قصيرة، وعندما تفيق تجد نفسها وقد فُعل بها ما فُعل، ويعتريها تخبط يائس، يؤدي حتما إلى استسلام قليلات الحيلة، عديمات الخبرة في مواجهة خصم محترف، لا يتورع عن تهديده، بأن تجعلها ترى بعينيها مالا يمكن وروده على الخاطر، عبر صور واضحة، تم تصويرها، بآلة تصوير أبيض واسود، وهي متلبسة بالفعل "
وتضمن زيزي عميلة كسيرة، لا تعرف الرفض أو المساومة.
وقد تُفاجأ القرية بين الحين والآخر، بتناول بعضهن سم الفئران، أو بإشعالهن النار في أجسادهن، تاركات خلفهن جثثا متفحمة أو مشوهة.
.........
5 – دور المثقف في القرية :
تعاني قرية فكري داود من قلة المتعلمين، وندرة المثقفين، وهذه القلة والمتمثلة تحديدا في شريف وعبدالشافي، قامت بدورها على أكمل وجه، وكانا هذين الشابين تحديدا، يقومان بدور المثقف الإيجابي، الفاعل، ولا يقفان عند حدود الشجب والاستنكار لأفعال العمدة بهنس ومخططات أحلام والقوادة زيزي وغيرهم، ولكنهما، قاوما، وواجها، ولم يعزلا أنفسهما عن الناس، فذهبا إليهم على المقهى، وعلى ظهور المصاطب، وفي الغيطان، في محاولة منهما، لنشر الوعي لدي الناس، والكشف عن المخططات الخبيثة لتغيير ديموجرافية القرية، وذهبا إلى العمدة في داره، ليجابهاه بما يقوم به من أفعال مزرية، وغير شريفه، في محاولة منهما لإقناعه عن العدول عن هذه الأفعال، ولم يرهبهما تهديد العمدة ولا أزعجهما وعيده، بإبلاغ الجهات الأمنية عنهما، وأنهما يثيران الفتنة في القرية، واستمرا في مقاومتهما، ونضالهما، وترشحا في الانتخابات، وتتم عملية تزوير الانتخابات، جهارا نهارا، ويطعنا بتزويرها في المحكمة، وتقر المحكمة ببطلانها، وضرورة إعادتها، والسلطات العليا لا تنصفهما، ولا تنفذ قرار إعادة الانتخابات، وتضرب بفرار المحكمة عرض الحائط، بل وتؤكد سلامة الانتخابات، وتحذرهما من الاستمرار في السير في هذا الطريق.
وتجربة شريف وعبدالشافي كشفت عن فساد حياتنا السياسية، وأكدت أن الإستبداد متأصل، وله جذوره الضاربة في أعماق هذه التربة، وهذا الفساد له جيوش تحميه.
...........
6 – السياسة الحاضرة أبدا.
سيظل للسياسة حضورها بطريقة أو باخرى، وتلقي بظلالها على الحياة، وعلى الناس، والناس تتأثر بها سلبا وإيجابا، وما قرية الكاتب ببعيدة عن تأثيراتها على حياة اهلها، وإذا كان الكاتب قد عالج حقبة الانفتاح وتأثيرات القرارات السياسية على القرية والوطن، واهتم بمعالجة هذه الفترة، وما قبلها، منذ ثورة يوليو والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أحدثتها هذه الثورة، وناقش قرار تأميم الأراضي ومحاولة القضاء على الاقطاع ومدى استفادة الناس منه، وقرار مجانية التعليم، والذي بسببه تعلم شريف وعبدالشافي وحسام بهنس وغيرهم.
ونكبة 1948م تظل حاضرة هي الألاى، وتلقي بظلالها على عائلة عبدالشافي، فخاله الوحيد، راح يحارب أولاد القردة في فلسطين عام 1948م، ولم يعد ..
" وما ورد عنه خبر، تترمل امرأته نصف ترمل، فلا عثر أحد على جثته، لتترمل كلية، ولا جاء خبر بقائه حيا، لتبقى على حافة اليقين، في انتظار عودته "
ومن بعد نكبة حرب فلسطين، يأتي العدوان الثلاثي، ثلاث دول تهاجم بور سعيد، ومن آثار هذا العدوان، هجرة أهل بور سعيد، ومنها عائلة الدكش،الذي انقسم أهله إلى فريقين .. " أحدهما عاد إلى المدينة، عند مدخل القناة، والآر آثر البقاء بمناحي عديدة هاجروا إليها، عقب فرار التأميم، تأميم القناة طبعا، وما تبعه من عدوان "
ويظل الدكش مشتت بين هذه المناحي وبين المدينة، وتظل آثار العدوان الثلاثي عالقة في ذهنه.
" دك العدوان بيت أكبر أعمامي، فوق رأسه، هو وبناته السبع، بينما ماتت امرأته لاحقا، متأثرة بحزنها، وبكسر عمودها الفقري "
وعرفت القرية نكبة فلسطين من خلال خال عبدالشافي الذي ذهب للحرب، ولم يعد، حيا أو ميتا، وامرأته التي لم تزل تنتظر، تنتظر ما لايجئ، ويحدوها الأمل، وعرفت القرية العدوان الثلاثي من خلال الدكش، الذي يتردد على القرية لبيع المشغولات الذهبية، ولاكت الألسن علاقته بأحلام، التي تخطت كل محظور، وقطعا لهذه السيرة، زوجته لابنتها. ولكن يظل السؤال، لماذا يفتر حماس أهل القرية، ولا ينفعلوا بالأحداث الكبرى والحروب التي يمر بها الوطن والأمة؟
............
7 – انتظار المخلص.
قد يتألم قارئ الرواية، من عزوف أهل القرية من الفقراء والأُجراء، عن الاهتمام بالهموم العامة، فلا تعنيهم الحرب خارج الحدود في اليمن، ولا تسمية المثقفين لماحدث في عام 1967م بالهزيمة أو النكسة أو النكبة، قد يشاركوا في تشييع جثامين بعض أهل القرية سواء من ماتوا في عدوان 1967م أو من ماتوا في حرب 1973م، بدافع الفضول أو الواجب، إنهم يشاركون في طقوس الدفن، ويتساءل قارئ الرواية لماذا حالة اللامبالاة تلك عند هؤلاء؟ .. ويظل السؤال ينخر في رأسه كالسوس، أين الانتماء للوطن، ولماذا يضعف هذا الانتماء؟.
هل أبقت أحلام أو زيزي أو بهنس أو زايد على سبب واحد يجعلهم يتمسكون بالقرية وبالوطن، فلم يتركوا له ولو حجرة يتيمة يسكنها، أوقيراطا يفلحه، صار مستلبا من كل حقوقه، فالفساد والإستبداد هما السبب الرئيس في ضعف الانتماء، ويظل الناس في انتظار المخلص ..
يقول الكاتب : " اعتادت الآذان، على استقبال سير الآخرين، سواء جاءت السير، لأناس معلومين عاشوا بينهم، كزعماء المظاهرات أو الثورات الشعبية، أو بعض العائدين من الحروب، ناجين بحيواتهم، أو لآخرين غابرين، ورد ذكرهم على ألسنة المداحين، أو جوالة السائلين، مصاحبة لصوت الرباب المترع بالشجن، كأبي زيد الهلالي، أو الشاطر حسن، الذي يعيش الكثيرون منهم، على أمل وصوله من جديد، معتليا حصانه الأبيض، لا ليخطف ست الحُسن والجمال، بل ليخطف أيديهم، عابرا بحياتهم من حال إلى حال "
هل يأتي هذا المخلص؟.
......
وإذا كانت القرى في مصر تتشابه وسير بعض أهل القرى تتشابه أيضا وقد تصل حد التطابق، كما يقول الكاتب، وهذا صحيح إلى حد كبير، وتتشابه قرية الكاتب مع القرى التي تناولها الكُتّاب الأخرىن، وسنتناول في عجالة التقاطعات والعوامل المشتركة بين قرية الكاتب والقرية المصرية عموما :
1 – المولد :
لاتخلو قرية في مصر من ضريح لولي، ويقام له مولد كل عام، يتم اختيار توقيته بعناية فائقة، بعد موسم الحصاد غالبا، حيث يتوفر في جيوب الناس الأموال، فبعد موسم كد وتعب في زراعة المحصول، يأتي المولد ليلبي حاجات إقتصادية من خلال حركة البيع لهذه التجمعات الكبيرة، وحاجات دينية من خلال حلقات الذكر، والإنشاد الديني وسرد سير الصالحين، وحاجات ترفيهية من خلال الألعاب ويلبي أيضا حاجات المراهقين، فالفرصة سانحة للقاء المحبين، وقد عالج الكاتب هذه الظاهرة من خلال مولد سيدي " اللاوندي " شأنه شأن معظم الكُتّاب الذين تناولوا هذه الظاهرة.
2 – طقوس الزواج والممات :
رصد الكاتب مراسم وطقوس الزواج ومراسم وطقوس الممات في القرية، ولم تختلف هذه المراسم والطقوس عنها في القرى الأخرى التي رصدها الكُتّاب أيضا.
3 - عبيط القرية أو البهلول :
معظم الكُتّاب الذين تناولوا القرية، أشاروا إلى البهلول والذي يرمز إلى الجنس وهو كائن نصف عاقل ونصف عبيط، تتعلق به بعض النساء اللائي غادرهن أزواجهن لفترات طويلة بحثا عن لقمة العيش، أو النساء اللواتي لم يشبعهن أزواجهن الذين يعملون في أعمال شاقة تأخذ كل جهدهم وطاقتهم وعافيتهم.
وفكري تناول ظاهرة الجنس من خلال البهلول وغيره، وللحنس عند فكري حضوره الطاغي في الرواية وسنتناوله تفصيلا لاحقا.
4 – التخطيط العشوائي للقرية :
تتشابه قرية الكاتب مع معظم القرى التي تناولها الكُتّاب، المباني الفقيرة العشوائية والتي تخلو من أية مسحة من جمال، والشوارع الضيقة، والحواري، والأزقة، وقرية الكاتب كانت من المرونة الجغرافية بحيث استطاعت أن تجذب الغرباء والموسرين الجُدد، أثرياء الانفتاح، فنشأ الحي الجديد، بمبانية الأسمنتية، وشوارعه الواسعة، واستوعب الحي الجديد، المستجدات على القرية من بوتيكات وستوديو للتصوير، وكوافير للسيدات، ومقاهي، و .. و ..
5 – بعض العادات والتقاليد المتوارثة :
على سبيل المثال لا الحصر : المرأة التي لا يعيش لها ولد، معتقدة بأن العين التي فلقت الحجر هي سبب موت ولدها، فتحتال على ذلك بتسمية المولود الشحات أو رمرام أو بغل أو حتى كلب ..
" اسم يتلهى الناس بفجاجته، وينفلت صاحبه من العين التي ستؤدي حتما إلى لحاقه بسابقيه ". والإعتقاد بالحسد، وبالسحر والعديد من الموروثات.
6 – توارث المهن :
يرصد الكاتب ارتباط لقب الجد الأكبر بمهنته، ويسوق لنا أمثلة عديدة، منها :
أ – فوزي الساعاتي، الذي ورث بيع الساعات بمحلات المدينة لسنوات، وعودته إلى القرية ممتهنا إصلاح الساعات بها.
ب – عائلة العربجي : يعملون حوذية على عرباتهم الكارو، أو على عربات غيرهم بالأجر.
ج – العم صادق نجار السواقي، يلتصق لقب النجار باسمه، يقضي الساعات الطوال لإصلاح مدارات السواقي.
وكان الكاتب بارعا في رسم هذه الشخصيات، وجاء رسمه لهذه الشصيات أقرب إلى الصوة الكاريكاتورية، مستفيدا من خصائص فن " الكاريكاتير " فى رسمها، ومن الصعب أن ينسى القارئ شخصية فوزي الساعاتي أو العم صادق النجار أو العم عطية بعربته الزاحفة كسلحفاة عرجاء، ولا ينسى مواله الضاحك والذي حفظه عنه أهل القرية.
7 – حلاق القرية :
الصورة التي رسمها الكاتب لحلاق القرية لا تختلف كثيرا عن الصورة التي رسمها الكتاب له، فاعتدنا أن نراه، جالسا القرفصاء، لصق بغلة الكوبري، أو معتليا مصاطب البيوت، أو فوق حجر تحت شجرة، وقد يفترش حشيش الغيطان، وهو ممسك برأس الزبون، يفعل به ما يشاء، كما يمسك ببطيخة يريد فحصها، يتلاعب بالأقفية، وبالشوارب المتهدلة، المصفرة من دخان السجائر الرخيصة والجوز، ....
8 – الداية :
الداية ( وداد ) لم يقف عملها عند الكاتب عند حدود، حف الوجوه، ونتف شعور الأجساد، وختان البنات، ومساعدة العريس المرتبك في فض بكارة عروسه ليلة الدخلة، والتدليس أحيانا على العريس، وإيهامة بأن عروسه عذراء، بإعدادها المسبق لقماشة ملطخة ببقع الدم، وذلك نظير أجر متفق عليه مع أهل العروس، وداية داود يمتد عملها لختان الصبية، ولها في الجنس صولات وجولات ليس بآخرها اعتلاء البهلول في الخُص، ولا محاولتها ممارسة الشذوذ مع أحلام!!.
9 – الغجرية ( العرافة ).
المرأة الغجرية التي يتم دعوتها، لتكشف عن سارق، أو تقرأ طالع عانس لم تتزوج، وماذا تخبأ لها الأيام، وعرافة داود عرفت كيف تحتال على أحلام، وتسرق ذهبها، و .. و ..
.......
.......
ستظل لقرية فكري داود خصوصيتها، وتميزها، وعبقها، ومن أسباب تميزها في رأيي :
1 – تشبع حواس الكاتب بالقرية، فجاءت لغته مفعمة بالصور السمعية والبصرية، من خلال إحساساته الصوتية الرهيفة والعالية بأصوات الحيوانات والطيور حتى نقيق الضفادع ووشوشات النسيم وخرير المياه، وكأنه موسيقار قادر على أن يطرب آذاننا بلحن القرية التي لم يستنطقها موسيقيا أي من الكتاب الذين تناولوا القرية قبل فكري بهذا العمق الموسيقي، وقدم لنا من الصور البصرية لوحات تشكيلية مكثفة للقرية، ونجح الكاتب في جعل القارئ يشم بأنفه ويسمع بأذنيه ويرى بعينيه ويتذوق بلسانه ويعيش أجواء القرية بكل مفرداتها إعاشة كاملة.
2 – التتبع والسير نحو تقصي الحوادث، والشخصيات، والتحولات السياسية والاحتماعية والاقتصادية، والوصول إلى جذورها، ومنابعها الأولى، مستخدما بحذر ووعي شديد علمي المنطق والاحتمالات في الرياضيات، فهو ينظر للحدث من كل الزوايا، ومن شتى الجوانب، ويقلبه على كل الاحتمالات الممكنة، وكل ذلك دون الوقوع في صرامة العقل ولغة العلم.
3 – إقامة الكاتب بالقرية، وعدم مغادرته لها، إلا للعمل متعاقدا كمعلم للغة العربية بالمملكة العربية السعودية، وأتاح هذا البُعد المكاني والزماني، الفرصة للكاتب في مراجعة حوادث وهموم وقضايا القرية والوطن، وقد رقت الأحداث في نفسه، وشفت، وجاءت لغته مقطرة، بعيدة عن الانفعال المباشر، وخلص سرده من اللغو والثرثرة، حيث لا ترهل ولا زوائد ولا فضول.
4 – عدم الوقوع في فخاخ المباشرة الفجة، والشعارات الكبيرة، والقرارات المصيرية، فهو يرصد الاثار لهذه الشعارات ولهذه القرارات على البشر، ومدى تأثيرها على حياتهم، فعندما يتحدث مثلا عن حروب 1948م، 1956م، 1967م، فهو لايتحدث عن أزيز طائرات، وطلقات دانات المدافع، ورصاصات البنادق، ولكنه يتحدث عن أثر هذه الحروب، ليس بالضرورة على الإنسان الذي خاض الحرب، ولكن على الإنسان الذي لم يخض الحرب، ويرصد الأثار الاجتماعية والاقتصادية، وقس على هذا قرارات مثل تأميم الأراضي، وقراري الصلح مع العدو، وقرار الانفتاح الاقتصادي، وغيرها من القرارات التي مست حياة الناس، وأثرت فيها، بل غيرت المجتمع من حال إلى حال، وتحول المجتمع مائة وثمانون درجة، صعود طبقات جديدة، وانحسار طبقات أخرى، واختفاء ثالثة.
........
إضاءة حول قرية الكاتب :
( 1 )
قرية الكاتب من القرى البائسة، لم يستفد من قرار تحديد الملكية الزراعية الذي أصدره الزعيم، غير قلة قليلة جدا، فالقرية ليس بها غير عائلتين فقط من الإقطاعيين الذين يملكون المساحات الشاسعة من الأراضي، ولكن هذه المساحات تقع للأسف في زمامات أخرى، مما حرم معظم فقراء القرية والأجراء من الاستفادة من قرار اقتطاع مساحات من أراضي الإقطاعيين وإعادة توزيعها على هؤلاء ليصبحوا من زمرة الملاك، كما حدث للكثيرين في الزمامات والمناحي الأخرى القريبة والمتاخمة لهذه القرية، وكأن أهل القرية كما يقول الكاتب :
" كتب عليهم الغرس في أرض غيرهم، والتربية في غير ولدهم "، فمعظمهم خرج من مولد تأميم الأراضي بخفي حنين كما يقول المثل العربي، وربما هذا ما يفسر هشاشة وانحسار الطبفة المتوسطة في هذه القرية التي لم يستفد أهلها من قرار الزعيم، فظل الأُجراء أجراء، وربما تأتي هذه القرية البائسة استثناء من كل قرى مصر الذي ارتفعت فيها أسهم الفلاح والعامل، والأغلبية الساحقة من فقراء الفلاحين والعمال، انتفلت من الهامش إلى المتن، وانتقلوا بسرعة من طبقة الحفاة العراة إلى الطبقة المتوسطة التي تنامت سريعا، وتكاثرت، وتم بفضل إنحياز الزعيم إلى هؤلاء، القضاء على مجتمع النصف بالمائة، نصف بالمائة هم السادة، وبافي الناس أقرب إلى العبيد، يتفانوا في خدمة هؤلاء السادة، وهذا الانحياز أفرز الطبقة المتوسطة، وأصبحت هي الطبقة الكبرى التي تقوم عليها كل خطط التنمية، وأصبحت عصب المجتمع، ولكن قرية الكاتب لم تستفد بالقدر الكافي من هذه القرارات مثل القرى الأخرى، لتظل الأغلبية الساحقة حفاة عراة، يستجدون لقمة العيش، ويعيشون حياة الكفاف.
.........
( 2 )
الغرباء وصيد اليمام :
أشار الكاتب إلى الغرباء الذين يأتون إلى القرية بسيارات فارهة، في مواقيت معينة من كل عام، لصيد اليمام، وينصبون خيامهم لأيام، وتعلو من داخلها اصوات الكاسيتات بصاخب الأنغام، ورائحة الشواء تعبق بأجواء القرية، ويخلفون وراءهم أجولة من الفحم، وزجاجات فارغة لمشروبات مجهولة، ويلعب هؤلاء مع قادم الأيام دورا في التغيرات التي طرأت على القرية، وخاصة في زمن الانفتاح!.
( 3 )
أهم عائلات القرية :
العائلة الأولى :
على نفقتها بنت المسجد الكبير، وتوارثت العمدية كابرعن كابر، ويهتم أبناء هذه العائلة بأعمال الزراعة، وتربية البهائم.
العائلة الثانية :
عائلة آدمون، عائلة مسيحية ولها باع طويل في العطاء، بنت المدرسة اليتيمة بالقرية، يعيشون على حافة الناحية، بسرايتهم وسط حيازتهم، ويقوم على أمر الفلاحة لديهم حشود من أسر الشغيلة، وهم على تواصل دائم مع العاصمة، وخاصة في أيام الأحاد، ولهم في التجارة باع طويل.
أثر قرار التأميم على العائلتين :
وكأن المصائب لا تأتي فرادى، فجاء نبأ مصرع العمدة وولدة في حادث بشع، وهما يشتريان ماكينة للري، متزامنا مع قرار التأميم، وركب الإصرار الجدة الأم على ترك الناحية التي باتت شؤما، ولم تحتمل قرار الزعيم الذي جعلهم يتفرجون على أملاكهم، وهي تئول لمن عاشوا بينهم راضين بأدوارهم كعمال وخدم، فغادروا الناحية وحذا حذوهم آل أدمون، ولم يتركوا غير أقل القليل الذي يذكرهم في قادم الأيام بأيام مجدهم وعزهم، ولم يبق من العائلة الأولى غير من له الحق في العمدية بعد مصرع والدة، وهو غير راغب فيها، وأخ له مجذوب، يهيم على وجهه، ومن العائلة الثانية آثر آدمون وزوجته تريز البقاء، فقد ارتبط بالقرية ارتباطا نفسيا وعاطفيا، سيجئ ذكر سببه لاحقا، فيما غادر باقي العائلة القرية.
لكل مرحلة رجالها :
وظهر الشيخ إمام كوسيط بين هذه العائلة الإقطاعية ومشتر من العُمد الأجلاف، نظير مقابل كبير( عمولة )، هذا المقابل خطا به خطوات واسعة نحو الثراء.
وظهر بعد ذلك الكثير من الوسطاء والمتعهدين نظير أجر في بيع أراض آل أدمون إلى غرباء لا يعرف أحد من أي مكان جاءوا.
وحاولت الطبقة الأرستقراطية الاحتيال على هذا الوضع، بمصاهرة بعض كبار رجال الحكومة!!
وهذه الطبقة الأرستقراطية هي التي حظى أولادها بتعليم جيد سواء في القاهرة أو في بعض العواصم الأوربية، ومنهم الأطباء والمهندسين والمحامين، والقُضاة.
عائلة الشيخ إمام :
1 – الشيخ إمام، قدمه الكاتب كرجل دين وسطي، يقوم على أمر المسجد، ويؤم المصلين، أحبه الجميع ويعتقد البعض في بركاته، وقدرته على شفاء المريض، بفضل صلاحه وتقواه، وقربه من الله.
" يشيع أغلب الناس، حمله ورع الصالحين بين جنباته، وباعا واسعا من العلم، بسيرة الرسول الكريم، وصحابته والتابعين، يعي قلبه آيات القرآن، ويتوقف لخاشع تلاوته، سابح الطير في السماء، وثمة يقين عجيب يسكن النفوس، في قدرته على تطبيب الموجوعين بالرقيا، أو بالتلاوة حول الرءوس المحمومة "
2 – هانم : الابنه الكبرى للشيخ إمام، تزوجت من ناظر زراعة أرض آل أدمون
3 – أمين : يصغر أخته هانم بعشرين سنة، وأربع ذكور جاءوا بينهما ولم يعمروا.
= زينب : البنت الصغرى للشيخ إمام، وماتت أمها عقب ولادتها، ورفض الشيخ الزواج، ولم تنقطع رجل هانم عن الدار لتقوم بشئون ورعاية الصغار، وتنهض بأعباء الدار.
4 – شريف : الابن البكري لأمين وحفيد الشيخ إمام
- = عادل : الابن الثاني لآمين وحفيد الشيخ إمام
- = منى : البنت الصغرى لأمين، وآخر العنقود.
6 – بهنس : الابن البكر لهانم، وحفيد الشيخ إمام، وفي عمر خاله آمين، وتقاربهما في السن جعلهما كما يقول الكاتب كديكي الحلبة :
" كلما توفرت حاجة وحيدة تصلح لطفل واحد، من تراه أحق بهما من الصغيرين، الولد أم خاله؟!
لتمتد معهما المبارزة بامتداد الصبا، من تراه أحق بقيادة فريق كرة الشراب؟ ومن أولى بحماية بنات العائلة من معاكسات الصبية وهن عائدات من الحنفية العمومية، بجرارهن الملأى، و ... ؟ ومن ...؟ " وستدور بينهما صراعات رهيبة حول من الأولى بالعمدية التي تخلى عنها العمدة، ولم يعد راغبا فيها، ويلجأ قدري إلى أخس الطرق وأقذرها، ليفوز بالعمدية.
.....
زيزي وهريدي :
امرأة غجرية عاقر، حياتها تشبه كثيرا حياة أحلام، وهذا التشابه قرب بينهما، ولجأت إلى كل الحيل والوسائل الممكنة منها وغير الممكنة، المشروعة منها، وغير المشروعة، لتحقق أمومتها وتنجب، ولكن كل الحيل والوسائل باءت بالفشل، واكتفت بالعمل كقوادة، والإشراف على جلسات المزاج للطبقة الموسرة، وجلب الراقصات، واختيار الجميلات من بنات ونساء القرية، ليقضين وقتا مع الزبون نظير مقابل، وتزوجت من هريدي، رجل ديوث
........
أهم الأفكار والموضوعات التي أثارتها الرواية :
1 – سطوة الجمال واسبداده.
2 – استبداد المال وطغيانه.
3 – الاستبداد الديني.
4 – الحضور الطاغي للجنس.
5 – دور المثقف في القرية.
6 – السياسة الحاضرة أبدا.
7 – انتظار المخلص.
.......
1 – سطوة الجمال واستبداده.
اهتم الكاتب بشخصياته اهتماما بالغا، ورسمها بعناية فائقة، ومن أهم شخصيات الرواية شخصية " أحلام " التي لعبت دورا محوريا في القرية، ساعدها على القيام بهذا الدور، ما تملكه من جمال فاتن، وفتاك، لا يستطيع كائن من كان أن يصمد أمامه، وأمام سطوته التي لاتُقاوم. وبما تملكه أيضا من عناد وصبر، وقدرة على التخطيط، والتدبير المحكم للمكائد، فإذا غدت أو راحت، تدور رءوس أهل القرية فوق أعناقهم " لتستقرعند شفيف ثوبها، وهو يرسم حدود الجسد، والنهدين النافرين، بمدخلهما حليبي اللون، الذي يغري العيون، بالانحراف سريعا كي تنغرس فيه ".
والكاتب يمعن في وصف جسدها، وإبراز فتنتها، وتأثير هذه الفتنة على أهل القرية " تحت ملفوف خصرها، يزيح ردفان ممتلئان، يروح فوقهما الثوب، يمينا مع خطوة، ويسارا مع أخرى ".
والكاتب لايهتم بالوصف الخارجي للشخصية فحسب، بل يمتد إلى وصف ما يعتمل في نفس الشخصية من صراعات، وما يدور في عقلها من تدابير، ولا يتوقف عند الجوانب ( الجوانية ) فقط، بل يسعى لنقل حركة الشخصية وتأثيرها في محيطها الاجتماعي.
أهم المحطات في حياة أحلام كما أوردها الكاتب:
1 – جذورها الأولى :
في سراي عائلة آدمون :
" دار عراك بين أبو سمرة، وبين والد أحلام، احد الغرباء المستجلبين للخدمة .. إثر ضبط الأخير – على زعمه – لإمرأته مع الأول، في وضع مريب، وعليه تقرر تسريح أبو سمرة، أصغر صبية الخدم آنذاك .. بعد منحه جحشة، دأب على ركوبها، لقضاء حاجات السراية الطارئة، كما تم الاستغناء عن أم أحلام، وابنتها الطفلة وقتها .. مع منحها شيئا من المال، فيما تم ترحيل رجلها – الغريب – إلى مالا يعلم أحد "
واقترب الكاتب كثيرا من الحياة اليومية لأحلام وأمها، ومعاناتهما في تدبير الطعام والكساء، شأنهما شأن الكثيرين من أهل القرية الذين يعانون من الفقر والفاقة، وامتهنت المرأة بيع القليل من الخضروات، واقترب الكاتب بشدة من اليومي والمعاش، وهذا ما أعطى للرواية مذاقها الخاص، فهي تنقل الحياة، وتعكس تفاصيلها الصغيرة.
" اصطدم بصرها بهيكل أمها، المتقوقع مغلق العينين، فوق كومة قش بأحد الأركان، تحت رأسها حاشية من لوف النخيل، تصل إلى الركن على استحياء، خيوط لمبه معلقة، فليلة الجاز، شحيحة الضوء، .. "
هل أحلام مرتبكة الجذور؟.
يقول الكاتب :
" امرأة مرتبكة الجذور، يمكنها التلاعب، بجيش من القلوب "
2– مستوى التعليم والثقافة :
" تشتبك مع المراهقين في حوارات ضيقة، تنبئ عن معرفة، تفوق سنواتها المدرسية الأربع، التي حتم الظرف الإكتفاء بها " ..
وهذه المرأة الجميلة التي لم تمكث بالمدرسة غير سنوات قليلة، تعي بالفطرة قواعد ونظريات المنطق، والمقدمات الصحيحة التي تؤدي إلى نتائج صحيحة، والقدرة على الاستقراء، وأيضا القدرة على الاستنباط والتحليل، ولا تهتم بما يتهامس به الناس عنها، فهي مجرد أخبار، والخبر يحتمل أن يكون صادقا، ويحتمل أن يكون كاذبا، واستطاعت هذه الجميلة أن توظف ملكاتها العقلية في المكائد، المكائد لحبيب قلبها أمين، ولأولاده من بعده، واستطاعت أن تكون اهم سيدة في القرية، وأن تساهم بنصيب وافر في تغيير الشكل الجغرافي للقرية، وتغيير أنماط السلوك والثقافة التي كانت سائدة، جسدت ثقافة الانفتاح، وكانت على رأس الطبقة الجديدة التي فرضت ثقافتها وأنماط سلوكها في القرية.
3 - علاقتها بأمين ابن الشيخ إمام :
عاشا قصة حب لاكتها الألسن، ونجحت في الاستفادة مما تناقله الناس عنها وعن أمين، فبمجرد أن أسر علي الخشن للشيخ إمام عما يتناقله الناس عن ابنه وأحلام، فزع الشيخ، ورغم ثقته في نسله التي لا تتزعزع، تماما كثقته في جدوده السابقين، قال بحزم : هي الخطبة إذن، ليست سواها، قاطعا ( للشوشرة ).
وسعدت أحلام سعادة لا توصف بهذه الخطبة، فتقول لنفسها :
" وماذا بعد يا بنت؟
ها هو حجر واحد أدار في الماء دوائر عديدة :
فإلى جوارك حط رحال الحبيب، عائلا كريما، يسعد بالعطاء أكثر من الأخذ، وبهلته الندية، تنقطع ألسنة المتشدقين،، يكفيك وأمك عناء سؤال اللئيم، ثم يأتي حتما أوان الانتقال، محفوفا بزغاريد ودفوف، وكثير من الحسد، إلى بيت إمام المصلين، صاحب الجزارة الوحيدة، والعشرين فدانا ملك، يتلألأ وسطها فدانان، للجوافة والنخيل "
وتتسع دائرة الأحلام لأحلام ..
ولكن تأتي انتكاستها الكبرى :
" خروجها خاسرة، من معركتها مع أمين، الذي خطبها زمنا، وقد سرت قبلها. سيرة صلتهما في أوصال الأزقة، مشفوعة بهداياه، التي بدأ أثرها ظاهرا عليها، وعلى أمها، التي توقفت عن اقتراض حزم الفجل والخس من أبو سمرة "
4 – الأزمة :
تناقلت الناس سيرتهما كخطيبين، تخطت علاقتهما كل محظور، وأصرت على التعجيل بالزواج قطعا للسيرة، فيما رأى هو في التعجيل تأكيدا لها، وكل منهما ركب دماغه وأصر على رأيه، وتزوج أمين من غيرها بعد قصة حبهما العنيفة التي لاكتها الألسن بلا رحمة.
وكان رد فعلها بأن ألقت بنفسها في أحضان رجل مُسن، أرمل، وهو الشيخ عبدالرحيم الدائر بالآيات على الدور وخلف القبور، النازح إلى الناحية، من مكان لا معلوم، خصوصا وله سابقة زواجية، جنى من ورائها صغيريه. زايد وسنية .. بعد وفاة أمهما.
وزواجها من الشيخ عبدالرحيم، استهجنه البعض، ولم يخف الكثيرين نظرات الحقد، والحسد .. على ذلك الشيخ المُسمى رجلها، مقطوع الأهل والإرث، وظلت مطاردة بتشكيك الناس في قدرة شيخها على ممارسة حقه معها لتنجب له صغيرين جديدين : هادي وسوسو!.
ولا يكف أهل القرية عن مضغ سيرتها، فثمة تلميحات عن نظرات وإشارات بينها وبين الغرباء الذين يأتون إلى القرية في مواسم محددة لصيد اليمام، " وثمة أقوال غير قاطعة بمشاهدتها تحادث أحدهم وجها لوجه "
ولم يعد خافيا عن أهل القرية ترددها على المدينة، وأكد غير واحد بأن الغرباء باتوا يأتون في غير مواسم صيد اليمام، ومنهم من يقابل أحلام جهارا نهارا.
وأحلام لا تعبأ ولا تهتم بما يُثار حولها، وتعرف طريقها جيدا.
.......
ربما تكون أحلام أول امرأة في القرية تلجأ عند الولادة إلى عملية شق البطن، لا لسبب طبي بقدر ما هو رغبة منها في الحفاظ على جسدها، من الترهل، ولجأت إلى المرضعات في القرية حفاظا على صدرها، فهي تعي تماما جمالها، وتعي أنه ثروتها الحقيقية، وتدرك مدى تأثيره على الآخرين، ووقوعهم أسرى له.
.....
5 - مكائد أحلام :
مكائدها لا تُحصى ولا تُعد، وبدأتها، بإخراج زايد ابن زوجها من المدرسة، فلو نال قسطا وافرا من التعليم، سيصبح خطرا يتهددها، وعملت على إزاحته من القرية برمتها، وبرحها الولد يائسا وحزينا ومكتئبا.
وسعيها أيضا لزواج سنية بنت زرجها من علي الخشن الذي يكبرها بعشرين سنة، ويعمل كلافا في معلف الشيخ إمام.
– اتفقت مع الخشن على ضرورة الايقاع بين آمين ووالده الشيخ إمام، وزرع فتيل الفتنة بينهما، وهذا شرطها لزواجه من سنية، ووافق الخشن، ورغم فشل المكيدة، لكنها زوجته بسنية، لتتخلص منها، وتخلو لها الدار، ويكون عينا لها هناك في قادم الأيام.
.......
- تسأل نفسها : آه يا آمين آه، هل أنا أدور حول بيتك، دون التمكن منه "
- متمنية هي العثور على الحجر، المرتكز عليه البيت، لتنزعه بكل قوة، فيتزلزل أيما زلزال.
- وتقول : " آه يا أمين .. حتى لو أفلت مني بنفسك، فلن تفلت ذريتك، وأولهم شريف "
- ولم يشف غليلها موت والد أمين الشيخ إمام، أو مرض زوجته، أو بيعه لأرضه، وفقده فرصة المنافسة على العُمدية مع بهنس الذي تدعمه بكل قوة نكاية في أمين، تراها هي أشياء لم تسهم فيها بشيء، لابد من فعل بيدها هي، لا بيد غيرها.
- وقررت أن تبدأ بعادل ابن أمين الذي يعمل بمحل جزارتهم الوحيدة بالقرية.
- اتفقت مع هريدي زوج زيزي، الذي يعشق أحلام صمتا، وهي تعلم بهذا العشق، فالكل يعشقها، وجاء دوره لينفذ ما تطلبه منه، وتعلم أنه أمام عشقه الصامت لها وسطوة جمالها عليه، لن يرفض لها طلبا، وماذا لو تبسطت معه، ووعدته بدلال وقليل من الغنج بنيل مراده منها، إذا نفذ طلبها.
- ولم يكذب هريدي خبرا..
- " قرب محل الجزارة دار مرة بعد مرة، متحينا أول فرصة، حتى غاب عادل لدقائق، قضى فيها حاجنه، بحمام الجامع القريب، فدفع باللفة أسفل البنك العريض، معجلا بالانصراف، ليبث أذنيها الخبر "
- " لم تمض ساعات، حتى غُلّت يد عادل ( بكلبشات ) الحكومة، وسط زفة هائلة، تتناثر حوله استفسارات لا تنتهي، فيما سيطر الذهول على آمين، مقسما استحالة تورط ولده، حفيد الحاج إمام، في فعل كهذا، وأن هناك خطأ لا محالة ".
- وتتوالى مكائدها، وانتقامها من أمين وأولاده، فتدبر لشريف مكيدة شيطانية، استعانت فيها بمحور الشر الذي يعمل معها، أمين المثقف، المتعلم، الذي ينتظر مناقشة رسالة الماجستير بين عشية وضحاها، تحكم الحبال حول رقبته، ولا يستطيع منها فكاكا.
- البنت فوزية التي غرر بها قدري بهنس، وحملت منه، أفهمتها أحلام بأنها ستزوجها من الدكتور شريف أمين، وعليها أن تحفظ الكلمات التي ستقولها، وتتقمص الدور الذي ستلعبه، وأرسلت في طلب العمدة بهنس والد قدري، الولد المنفلت أخلاقيا، وزايد خال البنت، وغيرهم، وأفهمت كل واحد دوره، فالعمدة يتمنى أن يحمل أحد عن ابنه هذه المصيبة، حتى لو كان شريف ابن أمين المعروف بورعه وتقواه، وزايد خال البنت يهمه ستر البنت بأي طريقة، وحاصرت أحلام شريف بالأسئلة، وقالت البنت كلاما مسبوكا، ولم تترك ثغرة واحدة في كلماتها،يمكن النفاذ منها، والتشكيك في أقوالها، وجاء العمدة بشهود كُثر من على المقهى، يعملون لديهم، وكلهم أكدوا كلام البنت، وحوصر شريف حصارا رهيبا من كل جانب، والتهديد بالبوليس والكلبشات والنيابة وسين وجيم، والفضائح، والفصل من الكلية ...إلخ، وأمهلوه أسبوعا واحدا ليأتي ويطلبها للزواج بالطريقة التقليدبة المعروفة، وذلك إكراما له ولأبيه، ولصلة القرابة التي تربطهم بالعمدة، وأظلمت الدنبا في وجهه، وحاول والده أن يقنعه بضرورة العقد عليها، فالموجة عالية وعاتية، فلندعها تمر، ولا أحد يعلم ماذا في جراب أحلام والعمدة من مكائد وتدابير، وأصر شريف على ضرورة أن تسقط أولا ما في بطنها، فلا أحد يعلم ابن من؟ ..
- وفي الوقت الذي كان يُنقد فيه هريدي أمين آخر قسط من ثمن البيت، كان يتأبط ذراع ولده شريفن ويخرجان ليلا من القرية.
- .......
- 6 – من أدوار أحلام :
- لعبت أحلام أدوارا خطيرة في التحولات التي طرأت على القرية، في حقبة من أخطر الحقب التي مرت بها البلاد، فهي :
- أ – أول من احتضنت الغرباء، الذين يفدون إلى القرية في أوقات محددة، لصيد اليمام، وساعدتهم على بناء بيوت لهم بالقرية، ومارست من خلالهم بعض الأعمال المشبوهة.
- ب- أغرت زيزي الغجرية بالبقاء بالقرية، واسندت لها مهمة، العمل على راحة الغرباء، والترفيه عنهم، فكان مجلسها العلوي، للغناء والرقص والفرفشة والدعارة.
- ج – نجحت نجاحا مدهشا، في تغيير ثقافة المرأة القروية، من خلال الكوافير الذي افتتحته بالقرية، وكان الاهتمام بثقافة الجسد عند المراة الريفية، نقطة تحول خطيرة.
- د – لعبت دور الوسيط بين الطامحين إلى سلطة ما بالقرية وبين مسئولين كبار، وكان لها اليد العليا في كل القرارات المصيرية بالقرية، فهي من رشحت زايد وولدها الهادي للإنتخابات، وهي من تتكرم على بهنس العمدة بمقابلة كبار القوم بمنزلها، لتمرير مصلحة أو عقد صفقة مشبوهة.
- و – أول من جاءت برجال الأمن والحراسة من خارج القرية لتأمين مصالحها الحيوية.
- ز – ساهمت مع بهنس وزايد وزيزي، في التحايل على الفقراء، وسلب أراضيهم وبيوتهم، بحيل شيطانية، ووظفوا المال أسوأ توظيف.
2 – استبداد المال وطغيانه :
زايد الذي قطعت أحلام رجله من المدرسة، وعملت على طرده من القرية، عاد بعد سنوات، في بذلة أنيقة، وربطة عنق زاهية، وحذاء انيق، وسيارة فارهة، وحقائب كثيرة، والأهم تلال الفلوس التي جمعها من حله وترحاله، داخل البلاد، وخارجها، وقدمه الكاتب تقديما رائعا، ويمثل أحد رموز الانفتاح، انفتاح ( السداح مداح ) بتعبير الكاتب أحمد بهاء الدين، الذي أفرز طبقة جديدة من الطفيليين، تاجرت في المستورد، والمغشوش، والمضروب، وكل ما هو استهلاكي، وتم من خلاله ومن خلال الحيتان الأكبر، ضرب الصناعة الوطنية الناشئة في عصر الزعيم في مقتل!
وزايد يمثل نموذج المرحلة خير تمثيل، فلا مجال عنده للعواطف، ولكل شيء ثمنه، ولا بأس من استثمار العواطف من أجل التجارة والمال، بل استثمار الدين نفسه وتوظيفه من أجل نماء هذا المال، ودورانه، فسرعان ما تصالح مع أحلام زوجة أبيه، فمصلحته معها، والتعاون معها فيه منفعة له ولها، فلولاها لما عاد بهذا المال، فلو كان قد تعلم، مثل أقرانه لظل في فقره إلى يوم قيام الساعة، وحاول أن يقنع نفسه بفضلها، وهي التي تسعى لتزوجه من أخت بهنس، العمدة المنتظر، وهي التي تسعى لتزوج ابنة أخته فوزية من شريف ابن الشيخ أمين، وتسعى لتجد لعائلتها مكانا تحت الشمس، فزايد وسنية أشقاء الهادي وسوسو، ووفرت له قطعة أرض فضاء، أقام عليها بيتا، يواجه بيت بهنس ويطاوله.
افتتح بدور البيت الأرضي محلا كبيرا، لبيع الملابس والأحذية، ووضع أعلى بابه لوحة كبيرة، مكتوب عليها ( بوتيك زايد )، وعلى الباب ذاته علق لوحة أخرى تعلوها قول الله تعالى .. " .. وأحل الله البيع وحرم الربا ... "، ومكتوب تحتها عبارة " لا مانع من البيع بالآجل " .. وعبارات أخرى جديدة كلها تعكس توجهات وتطلعات المرحلة الجديدة. وهذا النموذج الانتهازي يعرف كيف يمد خيوط التواصل مع الناس، ويجند من المتسكعين من ينقلون له أخبار الناس، وأحوالهم، ويشارك أهل القرية في أفراحهم، وفي أحزانهم، ولا مانع لديه من مد يد العون لأرملة فقدت نعجتها، أو عجوز أفسد المطر فرن الخبيز الذي تقتات منه، فيتكفل ببنائه لها من جديد، وكل هذا ليس لوجه الله، بقدر ما يساعد على دوران سيرته على الألسن كرجل كريم، معطاء، ويسعد بالصورة الذهنية الجديدة التي بدأت تتشكل في أذهان الناس، الصورة التي يرسمها لنفسه بحنكة ودربة، ويريد أن تزيح الصورة الجديدة صورة زايد القديمة، ابن الشيخ عبدالرحيم الدائر بآيات الله خلف القبور..
" تصل إلى أذنيه الكلمات ذاكرة بالخير ابن المرحومين، الشيخ عبدالرحيم وامرأته الأولى قبل أحلام، الذي غاب لسنوات، ثم عاد وقد رد عليه أصله الطيب .. "
ويسمع من الناس ما يحب أن يسمعه، والناس لا تذكر إلا ما يحبه هو ..
" فجده لأمه، بل وأمه نفسها، ومنذ قدومهما إلى الناحية، ظلا خادمين، لضريح وليهم اللاوندي "
أما والده .. " فقد جاب الناحية بالآيات الكريمات، لتحل البركات، أينما يحل، وتفر الشياطين، وخبيث النفوس، كما يلقي بدعواته خلف رءوس الموتى، كي تشملهم الرحمات .. "
وغض الناس الطرف عن أفعال والده في ( ربط ) العرسان حديثي الزواج، وغضوا الطرف أيضا عن أحجبته المضروبة للنسوة، وتناسى الناس عمدا، حادث شج جبهته، على يد والد بهنس، بعد حجاب مكتوب بتراب الفرن، أكد معه أن جاموستهم المريضة، عمرها مديد، ونسلها سوف يزيد، لكنها لم تبت ليلتها إلا نافقة.
قدم فكري داود لنا نموذجا، من النماذج التي ساهمت بل وقادت التحولات الجديدة للقرية والوطن، نماذج تعيد تشكيل الحياة، وفقا لرؤاها، وثقافتها، وهذا الزايد .. " لم يمض الوقت الطويل، حتى صار كبيرا للدائنين، وبعقلية من عركته الدنيا وعركها، تجمعت على المشترين لديه، عشرات وصولات الأمانة "
وزايد الذي تزوج بأخت بهنس العمدة الجديد، أعلن له بعد أن امتلك رقاب الكثيرين، بأنه عقد النية على وقف البيع بالآجل، ولاحت لبهنس الفرصة فاغتنمها، فأعلن بهنس بأنه سيقرض الناس بزيادة مضاعفة، ولا أسهل من ( البصم ) على الإيصالات، ورهن أوراق البيوت – التي لها أوراق – وأسهم الأرض القليلة.
ويعدد بهنس مكاسبه من ذلك، فهو .. " يحصد بالزيادة المفروضة عند السداد، ويحصد مرات جديدة، برهن البيوت والقراريط، أو مآلها إلى حوزته بأبخس الأثمان، ليعيد بيعها أضعاف مضاغفة، للراغبين ذوي العملات الحاضرة، خصوصا الغرباء والقادمين، المنتشرة بينهم حمى الامتلاك بالناحية "
وبدا بهنس فك محكم لكماشة عملاقة، وزايد فكها الآخر، وبين الفكين انحشر من انحشر، وينتظر الحشر من ينتظر، المهم هو أن .. " تزداد الخزينة، بالإيصالات والعقود والرهونات .. والتوسع في حيازة ممتلكات المأزومين "
والمشهد الأكثر قتامة :
سارع بهنس وزايد إلى المحكمة لتقديم بعض وصولات المدينين ..
" زاد الخناق حول الأعناق، اقتربت دمعة الرجال، لم يجد أكثرهم حلا، سوى تسليم بيوتهم القديمة، أو بيعها، محاولين تسديد الدين، وبدا مألوفا جدا، مشاهدة من يجر أفراد أسرته، في عرض الطريق، وهم راحلون عن أماكن، أفنوا فيها اعمارهم الفائتة، وبين ظهرانيها تناثرت ذكرياتهم ولو كانت غير سعيدة "
وأبت أحلام أن تترك هذه الفرصة لهما وحدهما، فشرعت في رفع أسعار هذه البيوت، وآثر أصحابها البيع لها، آملين في بقاء شيء من المال، بعد تسديد الدين .. قد يستعينون به، على عناء الرحيل، إلى وجهات يعلمها الله.
وهذه النماذج الإنتهازية، وممارستها، تجعلنا نتساءل عن مشروعية البيع بالآجل، ورغم تأكيد الفقهاء وفي شبه اتفاق بينهم على مشروعيته، وأنه حلال، حلال، حلال، ولكن النماذج التي قدمها الكاتب وبما تملكه من حيل ووسائل، وتدليس، والتفاف غير أخلاقي، واستغلال بشع للفقر، والجهل، يجعلنا نهيب بهؤلاء الفقهاء إلى إعادة النظر في هذه المسألة، التي أظهرت من خلال ممارسات البعض اللاأخلاقية إلى إفقار الناس، وتدمير حياتهم، بل وأخلاقهم، كما سنبين في مواضع أخرى.
......
3 – الإستبداد الديني :
أعتقد أن التعصب لفكرة بعينها أو لدين بعينه هو نوع من الإستبداد، وقد تملكني القلق من أمنيات أهل القرية، بأن يكون العم آدمون على دين الإسلام، وكأنهم في لاشعورهم يستكثرون الرجل على المسيحية، لسلوكه الطيب، من الذي زرع في داخل هؤلاء بأن الأديان الأخرى لا يمكن أن تقدم للإنسانية رجل معطاء، كريم، نبيل، وكأن الدين الإسلامي هو وحده القادر على فعل ذلك، ونسى هؤلاء أو تناسوا بأن بهنس وزايد وأحلام وزيزي من المسلمين!.
هل أراد الكاتب أن يشير إلى تغلغل التعصب في العقل الجمعي لأبناء القرية، دون أن يشير إلى حقب بعينها، وجماعات وأشخاص بعينهم هم من أزكوا روح التعصب.
وقدم لنا الكاتب حسام بهنس، كنموذج لهذا المتعصب ..
" جمعته المعرفة مؤخرا، بأناس قليلي الكلام، صارمي السحنات، رأوا في النهاية، حتمية إقامته معهم، بمكان مجهول لرفيقي السكن "
" جمعت ( زاوية ) محدودة، على أطراف المدينة، بينه وبين هؤلاء، بعد تعلقه بدروس أحدهما، عقب أداء الصلوات "
" تواترت أخبار انقطاعه عن المعهد، بعد خلاف غريب، وقع مع معلميه، حول مسألة تبدو شكلية، بدأها هو بإمتناعه عن الوقوف كزملائه، كلما دخل المعلم إلى الفصل، قال :
( من سره أن يقف الناس له، فليتبوأ مقعده من النار )
وحسام كاره لعبدالناصر، الذي زج بالمتدينين الملتزمين بالسجون، ويستنكر على أبيه العمدة بهنس الكثير من ممارساته، وأعماله، ويعود من المدينة بزوجة له، وألقى على سمع والده وشقيقه قدري، قائمة طويلة من الأوامر والنواه، تتعلق بكيفية التعامل مع المرأة، خاصة أخاه، الذي يعرف سيرته ..
" بتحذير شديد اللهجة، من مخاطبتها، أو محاولة الإنفراد بها، في أي آن أو زمان، وإلا .. "
وينتقد طريقة ذبحهم للدجاح، وأواني الطهي، فالإناء الذي يطهون فيه ( حلة الضغط ) شيطاني، وأبدى تحفظاته على أموالهم، ومعاملاتهم، وسلوكياتهم، حتى صلاتهم لم تخلو من تحفظاته عليها.
وبدأ يؤمن بضرورة وحتمية التغيير، وبدأ الخوف والقلق يتسرب إلى والده العمدة بهنس ..
" كيف كبدته العمدية حيلا عديدة، ومالا مدفوعا، لمسئولين من الوزن الثقيل، وربما لبعض الراغبين، في ترشيح أنفسهم ضده، كما كبدته أيضا، شيئا من الندالة، مع خاله أقرب أقاربه، ختمها بزفة عارمة لنقل التليفون، من دوار العمدة الكبير إلى داره، ثم يأتي هذا الولد، حسام ...، لا ليفقده العمدية فقط، لكن ليفقده ربما حياته وكل شيء، إذا وصلت مثل هذه الأراء، لأي مسئول كبير أو صغير، فالصغير دوما، لا يتوانى عن كسب الأبناط، بإبلاغ الكبير، بما تلتقط أذنه من أراء، هل تأتيه الضربة من داخل بيته؟ "
فكان والده يؤمل في مواصلة تعليمه، ويعود ليمسك بزمام المدرسة بالقرية، ويؤم المصلين بالجامع، فهو حفيد الشيخ إمام، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ورياح حسام عاتية، قد لا تُبقي ولا تذر.
ويقدم لنا الكاتب سيرة وجيزة، مختزلة ومكثفة لحسام بهنس، والتي تنتهي بالقبض عليه مع نفر من جماعته، بعد أن نفذوا أكثر من عملية إرهابية، آخرها الهجوم على محل للذهب يمتلكه احد اقارب آدمون بالمدينة، وسرقوا الذهب، وقتلوا صاحب المحل، ومن تصادف وجوده، فلا مانع من التضحية ببعض الجنود في المعركة الكبرى من أجل تحقيق الهدف الأكبر والأسمى.
.......
4 – الحضور الطاغي للجنس :
والجنس تمثله شخصية زيزي، الغجرية التي التقطتها أحلام، وأغرتها بالبقاء في القرية، جاءت كضاربة للودع و " أبين زين أبين، وأشوف ... " حتى وصل خطوها إلى أحلام، ويتفق هواهما معا " .. " تنتقل إلى بيت جديد، أقامته مكان بيتين قديمين، أقنعت أحلام صاحبيهما بالبيع " .. وتقول دون خجل :
" الدنيا لم تترك لعبة، إلا ولعبتها معها، منذ نضجت رمانتا صدرها، وحتى يومها الآتي، مؤكدة أن لملامحها ورمانتيها هاتين، الدور الأعظم في ابتكار الدنيا، لألعاب جديدة يلعبانها معا .. "
لها بالقرية تجربة زواج لليلة واحدة، من شقيق فوزي الساعاتي، قبل أن ترتبط بهريدي الصعيدي الديوث، والذي مات في صباح اليوم التالي، وتناثرت الأقاويل، ولم يلجم تصريح الطبيب الشرعي، بأنه مات بسبب أزمة قلبية، لعيب خلقي بالقلب، لم يلجم هذا التصريح ألسنة الناس، أو يسكتهم عن فرض الفروض وتقليب الأمر على كل احتمال، ممكن حدوث بعضها، واستحالة حدوث البعض الآخر، وتظل الأقوال المتناثرة، مجرد أخبار، تحتمل الصدق، وتحتمل الكذب، وزيزي لاتهتم بمثل هذه الأخبار، وانحسر دور زيزي في استقبال ذكور النحل، المنسحبة قبل الموت، مسلمة بفشلها، في نوال شهد الملكة أحلام ".
ما من شاب أو شيخ، رجل أو حتى طفل، إلا ويشتهي أحلام، ويتمنى أن يكون فارسها ولو لليلة واحدة، وبعدها يموت، ورغم ما يثار حولها، لا يستطيع أحد أن يزعم بأنه تمكن من أحلام، أو رأى بعينيه أحلام في حضن أحد، وأحلام هي من تحدد الأدوار، واختارت لزيزي الدور الذي يليق بها، والمناسب لإمكانياتها، وهو استقبال ذكور النحل الذين يشتهون الملكة أحلام ولا ينالونها، وزيزي هي البديل الجاهز لاستقبالهم.
ظل عمل زيزي في البداية مقصورا على قلة قليلة من الغرباء الذين يأتوا إلى القرية في مواسم صيد اليمام، وبعض الموسرين، وتتم هذه اللقاءات الحميمية بحذر شديد، وكانت أحلام من الذكاء بحيث بدأت في إعداد وتجهيز العديد من بنات ونساء القرية، لمهام لا تخطر لهن على بال، وكان من آثار عصر الانفتاح .. تحول كامل في شخصية المرأة الريفية :
" ترسل في طلب ما تنتخبه من النسوة، يهرولن إليها بفضول غزير، يعدن إلى بيوتهن، بجديد قمصان النوم، وأحمر الشفايف، ولبان نتف الشعر، مع بودرة التلك، وزجاجات العطر الرخيصة "
ويستهلك الوقت أحلام .. " في تدريب الغشيمات منهن على استخدام الأشياء، تجري يداها متحسسة مواضع بأجسادهن، لا تزال تغلفها البكارة، دون وصول أنامل رجالهن إليها، .. "
فهم في القرية .. " اعتادوا قضاء اللقاءات الزوجية، كما تقضيها ذكور البط وكباش الغنم، تفتح أذنيها لحكاياهن، تمتلئ جعبتها بأسرارهن .. "
ومن ثم كان حتمية فتح الكوافير لهن، والذي أحدث ثورة لدي النساء، فعرفوا عوالم أخرى، لم تكن تجول بخواطرهن أبدا، فهي تناولت أجسادهن ووجوهن وشعورهن بمزيد من المعالجات، التي لم يألفنها من قبل، لكنهن سرعان ما اندمجن فيها، آملات في استمرارها، ولم يعد في امكانهن العودة إلى سيرة أجسادهن الأولى، ..
زواج زيزي من هريدي:
رجل من الصعيد، ولا يملك رجولة ونخوة أهلنا في الصعيد، ديوث، يقبل الزواج من الغجرية القوادة العاهرة، وقبل أن يعقد عليها، اشترطت عليه في حضور المأذون وشاهدا العقد :
" أقبل بزواجك، على ألا تتدخل، في شأن داخل أو خارج " وأضافت .. " ما لك إلا أكلتك وهدمتك، وطبعا سريرك "، ووافق على هذا الشرط، والتزم به التزاما تاما، أغمض عينيه، وأصم أذنيه، وأقامت له في الدور الآرضي مقهى، وترك لها الدور العلوي لتستقبل من تستقبل من راغبي المتعة.
وأخذت زيزي بمساعدة أحلام في التوسع، فالغرباء والموسرين من طالبي المتعة، بدأوا يتقاطرون على زيزي ومجلسها العلوي ..
" اشترت زيزي – باسم رجلها – أقدم بيت يجاور المقهى، أحلت محله بناء جديدا، على أدوار ثلاثة، لها أبواب داخلية، تصلها مباشرة، بقلب البيت الأصلي، ثم إلى دوره الثاني، انتقلت بمجلسها المعروف، مع بعض الإضافة الجوهرية، كاستقدام مغنيات أخريات، مع المغنية الأولى، وبعض الراقصات المستجلبات، من كباريهات فقيرة بالمدن، اتخذن من الدور الثالث سكنا، سمح لأي منهن بالرقصات الخاصة، فتصحب الزبون – إذا كان غريبا – إلى حجرتها وقتا، يتحدد مقابله وفقا لطوله أو قصره ".
ومن أدوار زيزي في تلك الحقبة :
تمكنت من تقريب البعيد، لراغبي السفر، فسهمها لدي ( فيز ) الخليجيين نافذ، فدأبت على استقبال الخليجيين في مجلسها العلوي، وقبلت زيزي كل ما يصلح للرهن أو البيع مقابل تسهيل السفر، وفي حال عجزهم عن توفير النقدية، ونادرا ما تتوفر، يتنازلون عن البيوت – على أمل السفر – والعودة بالمال، ليبنوا بيوتا جديدة أكثر رحابة وأكثر أناقة.
ومن الأدوار القذرة أيضا .. تعمد تحت مسمى المساعدة لزوجات من سافروا، إلى طلب بعضهن، وخاصة اللواتي يحتفظن بمسحات من جمال منهن، كي يساعدنها أولا في أعمال بيتية بسيطة نظير خدمات لها ولأولادها المحرومين، والخطوة التالية، تطلب فيها من إحداهن، تنظيف بيت أحد القادمين الكبار، ومنهم زبائن بمجلسها العلوي نظير أجر معقول. وإذا داهمها الزبون بالمراودة، ونال مراده منها دون عناء، صارت عضوة فاعلة بأقل تخطيط، فإذا فشل معها، تحتم تكثيف الخدمات إليها، ونثر بضع جنيهات بين يديها، قبل إعادة المحاولة معها.
" وفي جراب زيزي، تبقى لهن آخر الحيل، وأضمنها، حيث يندس المخدر للعاصية منهن، في طعام أو شراب، فتروح في غيبوبة قصيرة، وعندما تفيق تجد نفسها وقد فُعل بها ما فُعل، ويعتريها تخبط يائس، يؤدي حتما إلى استسلام قليلات الحيلة، عديمات الخبرة في مواجهة خصم محترف، لا يتورع عن تهديده، بأن تجعلها ترى بعينيها مالا يمكن وروده على الخاطر، عبر صور واضحة، تم تصويرها، بآلة تصوير أبيض واسود، وهي متلبسة بالفعل "
وتضمن زيزي عميلة كسيرة، لا تعرف الرفض أو المساومة.
وقد تُفاجأ القرية بين الحين والآخر، بتناول بعضهن سم الفئران، أو بإشعالهن النار في أجسادهن، تاركات خلفهن جثثا متفحمة أو مشوهة.
.........
5 – دور المثقف في القرية :
تعاني قرية فكري داود من قلة المتعلمين، وندرة المثقفين، وهذه القلة والمتمثلة تحديدا في شريف وعبدالشافي، قامت بدورها على أكمل وجه، وكانا هذين الشابين تحديدا، يقومان بدور المثقف الإيجابي، الفاعل، ولا يقفان عند حدود الشجب والاستنكار لأفعال العمدة بهنس ومخططات أحلام والقوادة زيزي وغيرهم، ولكنهما، قاوما، وواجها، ولم يعزلا أنفسهما عن الناس، فذهبا إليهم على المقهى، وعلى ظهور المصاطب، وفي الغيطان، في محاولة منهما، لنشر الوعي لدي الناس، والكشف عن المخططات الخبيثة لتغيير ديموجرافية القرية، وذهبا إلى العمدة في داره، ليجابهاه بما يقوم به من أفعال مزرية، وغير شريفه، في محاولة منهما لإقناعه عن العدول عن هذه الأفعال، ولم يرهبهما تهديد العمدة ولا أزعجهما وعيده، بإبلاغ الجهات الأمنية عنهما، وأنهما يثيران الفتنة في القرية، واستمرا في مقاومتهما، ونضالهما، وترشحا في الانتخابات، وتتم عملية تزوير الانتخابات، جهارا نهارا، ويطعنا بتزويرها في المحكمة، وتقر المحكمة ببطلانها، وضرورة إعادتها، والسلطات العليا لا تنصفهما، ولا تنفذ قرار إعادة الانتخابات، وتضرب بفرار المحكمة عرض الحائط، بل وتؤكد سلامة الانتخابات، وتحذرهما من الاستمرار في السير في هذا الطريق.
وتجربة شريف وعبدالشافي كشفت عن فساد حياتنا السياسية، وأكدت أن الإستبداد متأصل، وله جذوره الضاربة في أعماق هذه التربة، وهذا الفساد له جيوش تحميه.
...........
6 – السياسة الحاضرة أبدا.
سيظل للسياسة حضورها بطريقة أو باخرى، وتلقي بظلالها على الحياة، وعلى الناس، والناس تتأثر بها سلبا وإيجابا، وما قرية الكاتب ببعيدة عن تأثيراتها على حياة اهلها، وإذا كان الكاتب قد عالج حقبة الانفتاح وتأثيرات القرارات السياسية على القرية والوطن، واهتم بمعالجة هذه الفترة، وما قبلها، منذ ثورة يوليو والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أحدثتها هذه الثورة، وناقش قرار تأميم الأراضي ومحاولة القضاء على الاقطاع ومدى استفادة الناس منه، وقرار مجانية التعليم، والذي بسببه تعلم شريف وعبدالشافي وحسام بهنس وغيرهم.
ونكبة 1948م تظل حاضرة هي الألاى، وتلقي بظلالها على عائلة عبدالشافي، فخاله الوحيد، راح يحارب أولاد القردة في فلسطين عام 1948م، ولم يعد ..
" وما ورد عنه خبر، تترمل امرأته نصف ترمل، فلا عثر أحد على جثته، لتترمل كلية، ولا جاء خبر بقائه حيا، لتبقى على حافة اليقين، في انتظار عودته "
ومن بعد نكبة حرب فلسطين، يأتي العدوان الثلاثي، ثلاث دول تهاجم بور سعيد، ومن آثار هذا العدوان، هجرة أهل بور سعيد، ومنها عائلة الدكش،الذي انقسم أهله إلى فريقين .. " أحدهما عاد إلى المدينة، عند مدخل القناة، والآر آثر البقاء بمناحي عديدة هاجروا إليها، عقب فرار التأميم، تأميم القناة طبعا، وما تبعه من عدوان "
ويظل الدكش مشتت بين هذه المناحي وبين المدينة، وتظل آثار العدوان الثلاثي عالقة في ذهنه.
" دك العدوان بيت أكبر أعمامي، فوق رأسه، هو وبناته السبع، بينما ماتت امرأته لاحقا، متأثرة بحزنها، وبكسر عمودها الفقري "
وعرفت القرية نكبة فلسطين من خلال خال عبدالشافي الذي ذهب للحرب، ولم يعد، حيا أو ميتا، وامرأته التي لم تزل تنتظر، تنتظر ما لايجئ، ويحدوها الأمل، وعرفت القرية العدوان الثلاثي من خلال الدكش، الذي يتردد على القرية لبيع المشغولات الذهبية، ولاكت الألسن علاقته بأحلام، التي تخطت كل محظور، وقطعا لهذه السيرة، زوجته لابنتها. ولكن يظل السؤال، لماذا يفتر حماس أهل القرية، ولا ينفعلوا بالأحداث الكبرى والحروب التي يمر بها الوطن والأمة؟
............
7 – انتظار المخلص.
قد يتألم قارئ الرواية، من عزوف أهل القرية من الفقراء والأُجراء، عن الاهتمام بالهموم العامة، فلا تعنيهم الحرب خارج الحدود في اليمن، ولا تسمية المثقفين لماحدث في عام 1967م بالهزيمة أو النكسة أو النكبة، قد يشاركوا في تشييع جثامين بعض أهل القرية سواء من ماتوا في عدوان 1967م أو من ماتوا في حرب 1973م، بدافع الفضول أو الواجب، إنهم يشاركون في طقوس الدفن، ويتساءل قارئ الرواية لماذا حالة اللامبالاة تلك عند هؤلاء؟ .. ويظل السؤال ينخر في رأسه كالسوس، أين الانتماء للوطن، ولماذا يضعف هذا الانتماء؟.
هل أبقت أحلام أو زيزي أو بهنس أو زايد على سبب واحد يجعلهم يتمسكون بالقرية وبالوطن، فلم يتركوا له ولو حجرة يتيمة يسكنها، أوقيراطا يفلحه، صار مستلبا من كل حقوقه، فالفساد والإستبداد هما السبب الرئيس في ضعف الانتماء، ويظل الناس في انتظار المخلص ..
يقول الكاتب : " اعتادت الآذان، على استقبال سير الآخرين، سواء جاءت السير، لأناس معلومين عاشوا بينهم، كزعماء المظاهرات أو الثورات الشعبية، أو بعض العائدين من الحروب، ناجين بحيواتهم، أو لآخرين غابرين، ورد ذكرهم على ألسنة المداحين، أو جوالة السائلين، مصاحبة لصوت الرباب المترع بالشجن، كأبي زيد الهلالي، أو الشاطر حسن، الذي يعيش الكثيرون منهم، على أمل وصوله من جديد، معتليا حصانه الأبيض، لا ليخطف ست الحُسن والجمال، بل ليخطف أيديهم، عابرا بحياتهم من حال إلى حال "
هل يأتي هذا المخلص؟.
......