د. سامي عبد العال - سؤال المصير

ليس المصيرُ قفزةً صوريةً مجردةً، ولا هو اعتقاد معلَّق بسقف الزمان عند نهايةٍ بعينها. لقد افرزت السياسةُ وقررت الأديان: أنَّ صناعة المصير خارج إرادة الناس مؤقتاً أو دائماً. وتلك فكرة قد تكون غير إنسانيةٍ على الإطلاق، أي حين لا تتوقف الأفعال على حرية الإنسان. لأن الأخير عندئذ لا يعدو أنْ يطلق كريشة في مهب الريح ( كما تقول الجبرية في تراث الإسلام الكلامي ). ومن قبل أكدت الفكرةُ ذاتها ( بلغة المسيحية ) على المطالبةَ بترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

حيث كان التَّركُ استفحالاً خرافياً لقيصرٍ بأنظمة استبدادية التهمت البشر والحياة والتاريخ. ولم يكن معنى الإله أقل من ذلك، فكيف سنعرف ما له حتى نقدم ما لنا؟ الإجابة أسست (الكهانة الدينية ) طوال الحقب التاريخية المتعاقبة. ووقع الانسان بين ( شقي رحى) سحقت عظامه وإرادته وفلقت رأسه. لأنَّ السلطة لدينا نحن بني البشر واحدةٌ، أبنيتُها لا تخلو من (القيصرية واللاهوتية ) بشكلٍّ ضاغطٍ.

وإلاَّ... لماذا ننتظر( في حياتنا العامة ) حتى تحدث المفاجأة القدّرية دوماً؟ وسواء أكانت المفاجأة تغيراً سياسياً أم تحولاً اجتماعياً أم معرفياً، فتنم عن ترك زمام المبادرة دون الإرادة الحرة. وهي مفاجأة ملقاة على بساط القدّر الذي قد يأتي أو لا يأتي. وهي إنْ دلت على شيء فإنما تدل على اعتياد الخنوع والتواطؤ مع المجهول( الذي سيتشكل في الواقع بفعل فاعل ). وكأنَّ آية الكتاب المقدس ( اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) يترجمها القرآن على نحو آخر: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".

ولكن الاقتران سياسياً يجمع بين الأطراف على نحو منحرف تحت سلطة قاهرة وبما يفيد التراتب أيضاً. ثم يغدو كعملية إحلال وتبديل( الإله – الرسول - السلطان ) مثلما فعل حكام المسلمين وغير المسلمين. ولا يحق للإنسان التساؤل عن نتائجها كما لا يحق له المطالبة بمعرفة أشياء كثيرة: " يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إنْ تُبد لكم تسؤكم". ومن ثم ظل التكتم حول "حق تقرير المصير" الجمعي شاغراً في تاريخ الإنسان. وبخاصة مع ثقافة التعمية على المشكلات والتقاليد الأبوية وانعدام قيمة الإنسان وشيوع الخرافة والخوارق وتمكن انظمة القمع والديكتاتورية من رقاب العباد والبلاد.

وفي هذا السياق، من المهم الوقوف لدى كامل النص الوارد في الكتاب المقدس. لأنه ورد بتأويل ما داخل تعبيراته اللغوية ذاتها. وأيضاً جاء المعنى للإيقاع بالمسيح في مواجهة سلطة القيصر. فالصياغة تحتمل دفعه إلى مصير كان سيبدأ في تلقفه آنذاك والاجهاز عليه.

ورد في سياق نصْبِ فخ للسيد المسيح والإيقاع به في حبائل معارضة سلطة القيصر :" أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأَنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللّهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لَا؟ نُعْطِي أَمْ لَا نُعْطِي؟ فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لِأَنْظُرَهُ. فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ "( إنجيل مرقس 12:12- 177).

اصطياد المسيح كان يجري بشباك اللغة والكلمات. وأصحاب المكيدة يعرفون أنَّه بذات الوقت يمكن أن يتم بشباك اللاهوت. فكيف لمن يُعلِّم الحكمةَ باسم الآب أن يعطي قيصراً ما يفرضه من جزيةٍ ظالمة؟! وتلك العملية أساسية في فهم علاقة اللاهوت بالسياسة دوماً. لأنَّ ( علاقة آثمة ) كهذه تضمر قدراً لابأس به من المراوغة دونما وضوح. بدليل قول المسيح لسائليه: لماذا تجربُونني؟! هذا السؤال يعني فضح العلاقة السابقة بين كل حاكم مستبد وشعبه. ولم تكن الإجابة بأقل فضحاً من الاستفهام ذاته؟ والتجريب نوع من الاختبار الوقح للتلاعب بما يدعو إليه صاحب المبادئ والقيم.

فقيصر ليس على مبعدةٍ من الإله في ذهنية الناس آنذاك وكأنَّ الاثنين ملتبسان، ولذلك كانت اشارة المسيح ذكية على ما تشي مقولته( ما لقيصر لقيصر وما لله لله ). حيث يراهما المسيح من حيث بعض التناقض يقتسمان العطاء نفسه ولكنهما يفترقان في الهدف. تماماً مثلما حمل الدينار آنذاك ( صورة وكتابة ) قيصر بأمر الواقع. إذن في اللحظة ذاتها التي يعتقد فيها الناسُ قدرتهم على الانفكاك من قيصر سيُعاد قيصر مرة أخرى، من باب خلفي اسمه صورة الإله. وليس ذلك مدعاة للتفرقة كما قد يتصور البعض بين الصورتين (قيصر والإله) بل جاء التاريخ بالتماثل بعد كل هذا التراكم التاريخي!! لأنَّ العطاء واحد (أعطوا ما لله ... واعطوا ما لقيصر)، رغم كون الطرفين الآخذين مختلفين مما يرتب عليه النتيجة نفسها.

ليتضح حينئذ أنَّ الانفصال ( بين قيصر والإله ) كان تأكيداً لارتباط من نوعٍ آخر. بحيث يصبح الإنسان عبداً برأسين: رأس يخص التوجه للحاكم ورأس يتوجه إلى السماء. وظلت المسألة كيف يتم توحيد المشكلتين كما حاولت الأصوليات الدينية دفع التاريخ لصالح هذا الحل ولو بالعنف. ونشأ تسيس الشرائع لخدمة أغراض خاصة ومصالح اجتماعية محدودة. وتاريخياً انزلق المصير تحت ركام هذا الصراع الذي شق الحياة نصفين.

المصير نداء بشري قادر على اختراق هذا الصراع معبراً عن ذاته في شكل الحرية بأصنافها. كما لو كانت كلمة( المصير ) تجيء جديدةً تماماً في كل حالةٍ على حدة. ولذلك يسمى هذا النداء في نصوص واعلانات حقوق الإنسان بـ( حق تقرير المصير). إذ سيختفي قيصر من جديدٍ( باسم الدولة ) وسيعود الإله إلى السماء مُفارقاً تصوراتنا البرجماتية( باسم الإيمان الخاص ). وربما كانت تلك الفكرة فكرة حداثية بامتياز حقوقي ونضالي خالصين. فكرة لم ينلها الإنسان إلاَّ بعد عصور من التنوير والعقلانية ومحاربة الأساطير. فنداء المصير بهذا المعنى لا يفارق الإنسان وجوداً وعدماً بألف ولام الابداع اليومي له. وانتقل المصير من اللاهوت والسياسة إلى أنامل البشر كتحقُق نسبي في الحياة. وهذا أبلغ اختراع لكيفية ترويض المستقبل.. وبأية وسيلة يأتي بما سنراه وسنصنعه عبر الزمن؟!

بحيث يكون للإنسان نظامه السياسي المعبر عن مصيره في الإدارة والحكم والعمل والعيش والتصرف في أمور حياته. وبالتالي تغدو الدولة سياسات لتقرير المصير العام بآليات الضبط الذاتي وفقاً لإرادة عامة عصية على الانتهاك. ولا يمكن التلاعب بها تحت أي مُسمى من المسميات إنْ أمكن. ومن ثم يمتلك الناس مصائرهم بواسطة قوانين تُرجع إليهم الحقوق وتدفعهم لبذل الواجبات بلا منازعةٍ. كما تحول دون الاعتداء على مستقبل الآخرين حافظةً عليهم خط سيرهم بلا نهاية فوقية أو قهرية. لأنَّ الحياة العامة المشتركة هي مجموعة من التأجيلات لمصائر فردية ضمن المجتمع. إذ ذاك يصبح قانون التبادل الإرادي ( الاختياري ) هو الذي يجعل المصير استراتيجية بالإمكان اختيارها وتغييرها تبعاً لمصالح الناس وأهدافهم. وهو ما يعرف بنظام الدولة.

والمصير هنا يخرج عن إرادة الفرد، لكونه عملاً لا يقوى عليه إلاَّ المجموع حتى يستطيع العيش بحرية في عالم متغير. إذن لا ينبغي أن يجيئ المصير على محمل الرفاهية العاجلة أو الصدمة المنتظرة. والمشكلة دوماً أنَّ المصير لم يطرح كنوعٍ من الصناعة البشرية في أفق التاريخ. لأنه ما لم يبادر الإنسان تجاه تلك الخطوة، فهناك قوى أخرى ستنتهك مصيره. وليس أعنف من فرض مصير بعينه على الإنسان. لأنَّه في كل مرحلةٍ من مراحله سيصبح المصير وجُوداً أصيلاً للذوات الحرة. قد نسميه الحرية أو السعي نحو الغاية المنشودة لإنسانية الإنسان. وفي كل الأوقات، سيشعر الإنسان بكيانه الطلق وبالامتلاء الداخلي. ولذلك ليس المصير نوعاً من المظهر الزائف، بل يمثل مشروعاً قابلاً للانفتاح.

ليس ثمة كلمةٌ تنال كماً من الخداع مثلما هي كلمة المصير. فالمجهول المختلط بدلالتها يتيح إمكانية تشغيل أية قوى سياسية قابعة فيها، بل أية قوة باسم الله تهيمن على إرادة الناس. لنسترجع مسألة القدّر التي كانت عنواناً لحرية الإرادة في بواكير الفكر الإسلامي. لقد انفق الفقهاء وعلماء الكلام أزمنة وأدمغة في اعتبارها حرية من نوع مسيس ولاهوتي بالأساس. حيث لم يُعطَ الإنسان حريته إلاَّ تحت شروط من هذا الإطار. حتى الإيمان الديني من عدمه اعتبروه موضوعاً لقدر لا يصرفه إلاَّ الله كما فهموه وحددوا مقاصد شرائعه. وأنَّ المؤمنين الآخرين يتعقبون أصحاب الايمان بحثاً عن نواقص الإيمان ذاته. وهي الفكرة المعروفة بمرتكب الكبيرة ( القتل/ الكفر/ أكل مال اليتيم / قذف المؤمنات المحصنات / شهادة الزور...). أيعتبر هذا المذنب مسلماً مؤمناً أم غير ذلك؟! والرأي الشهير – من جهة المعتزلة- أنه في منزلة بين المنزلتين. فلم يكن كافراً خالصاً ولا مؤمناً صرفاً!!

أي أن تلك الحرية تخضع لملء القدّر الديني الذي يرسم معالمه شيوخ الفرق وأتباعهم. أما الإمامة في دائرة المصير العام، فكانت ثمة حروب فقهية حول ماهيتها وشروطها والاجماع والمبايعة وفقه السمع والطاعة وعدم الخروج على الإمام. كل ذلك لم يكن بمنطق المصير السياسي الدنيوي، لكن وضعَ " ختمَ القدر" بمعناه الديني السياسي فوق غلافه المحكم الاغلاق.

ومفهوم القدّر حينما ابتلع المصير سياسياً كان يعني:
  • تعليق حرية الإنسان عن ممارسة الاستقلال والتأثير إلاَّ وفقاً لما يأتي من قوة أعلى.
  • ثمة خلط عجيب بين الشأن الإلهي الكوني والشأن اليومي الحياتي على التوالي. بحيث يصبح الأول مادة ( لتخثُر ) الإرادة الانسانية تجاه صروف الحياة.
  • تصفية الإرادة العامة في قبر اسمه النزعة الفردية. فمن سيحمل إرادة الفرد طي الكتمان سوى الفرد ذاته. ولا يصح أنْ تنتقل هذه الإرادة في سياق عام إلى التأثير في إرادة أي فرد آخر. ولذلك كانت الإرادة العامة في المجتمعات العربية الاسلامية غائبةً تماماً.
  • أنَّ القدّر لا يطرح قضية المسؤولية. وبالتالي يضيع المسؤول وراء كل عمل رغم أننا في النحو العربي نمتلك وظيفتين اعرابيتين له ( الفاعل – نائب الفاعل ). وكأن النحو يكثر من الفاعلين كي لا نعثر على أي أثر حقيقي لهم. ومع ضياع المسؤولية تنعدم أهمية القوانين والقيم والأخلاقيات والتبعات الإنسانية.
  • لدى كل قدر يقبع من يملك سلطة ما سواء أكان قيصراً أم إلهاً: "حتى شاع القول الناس على دين ملوكهم". وكلمة الدين مقصودة ثقافياً في هذا الموضع. لأنها قانون الفعل في حياة العرب والمسلمين.
  • نتيجة تعليق الإرادة باسم المصير كانت البطولة مرتبطة بالفتوة الخاصة. وهذا سر انتشار قصص البطولة والشجاعة في التراث العربي( مثل عنترة بن شداد وأدهم الشرقاوي وأحمد عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل وعبد القادر الجزائري .. وغيرهم). وهو ما نجد بقاياه في استبداد الحُكام وشيوع قصص الأولياء وأصحاب الخوارق والعارين والشطار واشعار الحماسة والفخر بالقبيلة والقوم والعشيرة، وحتى انتشار مدعي النبوة والربوبة من وقت لآخر. وهو السبب نفسه وراء دس قصص الانتحال والأسطرة في السرديات الشعبية.
ألم يقل عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة: ".... العرب لا يحصل لهم الحُكم والمُلك إلاَّ بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين.. والسبب أنهم أصعب الأمم انقياداً بسبب الغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرياسة وقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الحكم بالدين أو الولاية ذهب عنهم خُلق الكبر والمنافسة، فسهل انقيادهم واجتماعهم... فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يدعوهم للقيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق يتم اجتماعهم وتحصل لهم الغلبة والملك."

لنلاحظ تقرير ابن خلدون لرأيه في مصير العرب كما لو كان يقيناً لا ريب فيه. ويعلل انعدام الحكم ( بالمفهوم العام، قيام الدولة ) بأسباب خاصة. تُرجع الأمور إلى دلالة الأفراد. وسواء أكانوا طائفة أم أناساً لهم رغباتهم، فإنهم يحشرون داخل هذا القوس الذي يشده الدين تحديداً. وتلك سلطة الطاعة العمياء نتيجة الانقياد باسمه. أي الغلبة التي تحتل المجال العام نظير الإرادة الفردية لحاكم أو لمسئول. إنَّ الكامن هناك وراء هذا الكلام هو ( المصير بمعنى القدّر ). لأنَّ الأفراد لا يمتد فعلهم عادة خارج ذواتهم، فالقدر لم يمش خطوة واحدة إلى هناك، إنه يقف بهم لدى تلك العتبة المستحيلة، فما بالنا بالعمل السياسي العام القابل للتغيير.

ولذلك فإن الأنّفة والغلّبة اللتين تصطدمان بسلطة النبوة سرعان ما تتصالحان معها. وهي سلطة اعتقادية لاهوتية وليست سياسية صراحة. لكن لم يتوان ابن خلدون عن تأكيد هذا الخلط ( اللاهوتي السياسي) كي يظهر انصياع العرب لحاكم أو لسلطان. ورغم أن ذلك أمر سياسي بالنهاية إلاَّ أنه يحدد رؤى الحياة في الثقافة كذلك. فالقدر لا يُدفع إلاَّ بالتسليم المطلق له. وهذا يعني التسليم للدين ولشيوخه ولغلبة الجماعات الدينية والمذاهب والفرق والنحل. وهذا يفسر اعتبار الاستبداد من وجهة نظر السلفية ليس كافياً للخروج على الحاكم. فابن تيمية يقول " إنَّ استبداد الحاكم ستين عاماً أهون من مبيت ليلة واحدة دون سلطان".

قال الشيخ متولي الشعراوي لحسني مبارك حينما عاد الأخير مذعوراً عقب محاولة اغتياله بأديس بابا 1995 واستقبلته مواكب النفاق والدموع من كبار الكتاب والصحفيين والشاشات المتلفزة: إنَّ المُلك بيد الله لا لبشر أنْ يعطيه لأحدٍ.. ولا يستطيع أحدٌ أخذه من غيره دون إذن من الله .... مُنهياً كلمته : " إذا كنت أنت سيادة الرئيس قدرنا، فليوفقك الله ... وإذا كنا نحن قدرك، فليُعنك الله على أنْ تتحمل ما قُدر لك". في الاحتمالين كان كلام الشعراوي تبريراً قاساً على المتابعين للحاكم المستبد. وكمُن هناك في تلافيفه المراوغة هذا التأكيد على استحالة التغيير السياسي ولو جاء موتاً لرأس النظام أمام العالم. بل إن الاحتمالين في الحقيقية بمثابة احتمال واحد. وبهما ادانة لما حدث من محاولة اغتيال واطلاق يد حسني مبارك بالحكم الفاشي إلى أخر المدى. فالله هو واضع القدّر في الشطر الأول( إنْ كنت أنت قدرنا )، والله هو مصدر الشطر الثاني ( إنْ كنا نحن قدرك )، وبالتالي جاءت النتائج تحصيل حاصل، جاءت كلمات الشيخ ( لغواً فارغاً ) استحسنه الرئيس، وكان طُرفة دينية سياسية مددت حكم مبارك، وجعلت الرأي العام الشعبي يؤيد حكم الرئيس ويهتف من جديد (بالروح بالدم نفديك يا ريس!!).

والاشارة تحدد أنَّ التغيير السياسي مجرد قدّر لا راد له. وأنه مالم تكن يدُ القدر نفسها مسؤولة عنه، فليتصرف الحاكم جرياً على استبداده كيفما شاء. فماذا يتحمل مبارك من شعبه؟ وهل ذلك سيحدد حياة سياسية سليمة؟ بل هل هذا المعنى صحيح أصلاً؟ وهذا الكلام سياسي بالدرجة الأولى، كما لوكان الحاكم هو بعينه مصير شعبه، وأنَّه لا سبيل إلى زحزحته إطلاقاً. كما أن مقدمته( أن الله هو الذي يعطي الملك..) مقدمة حقيقية( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء...)، لكن القياس فاسد بالكلية في هذا السياق، مما جرَّ حُكماً فاسداً على المقدمات المنطقية التي لا تقبل نتائج بهذا المعنى.

بجانب ذلك، فإنَّ مقدار إذعان الرجل العربي لسلطة القدر سيكون بمقدار ايمانه بالتغير الخارق للعادة. هو الوجه المقابل لانتظار الأقدار( في غير مكانها ) حتى تسبب وتحدث ما تريد وقتما تريد. وهذا سر استمرار الاستبداد في المجتمعات العربية لسنوات وسنوات دون حراك ودون محاولة تغيير ولا أى اعتراض. وهو ما يعرف بصناعة الفرعون في الثقافة المصرية وصناعة الديكتاتوريات في الثقافة الشرقية وصناعة الرعاة للعبيد. لأنها معطيات تاريخية وليدة مفاهيم القدر لا وليدة التحول السياسي الحقيقي والانفتاح على العالم وتنمية المجتمعات وتداول السلطة وسيولة الأنظمة. مثلها كمثل أية انجازات وصلت إليها الإنسانية إجمالاً في مجال السياسة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى