يعمل بدكان صغير ، لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار ، وعلوه متر ونصف . لا يستيقظ ولا ينام في وقت محدد . مرت السنوات بسرعة . بالكاد تزوج مباركة بنت العرجاء . الحمد لله أنها لا تعرج مثل أمها . لم يتزوج بدافع الحب . الرجل بدأ يتقدم في السن ، ولا بد أن يتزوج . وعدته أمها أن يسكنا معها . في الشهر الثاني طلبت منه أداء مائتي درهم كثمن لكراء الغرفة ، ونصيبه من فاتورة الماء والكهرباء ، وهددته بالطرد رفقة زوجته من البيت .
ما علينا . لا يريد أن يثقل عليكم بمشاكله .. مشاكله يلزمها كتاب كبير ، قال له أحد معارفه أنهم في الغرب يسمونه كتاب غنتس* لم يعد يتذكر الاسم بشكل صحيح .
بالأمس وقف أمام الدكان حشد كبير من الناس ، يرتدون صدريات بيضاء . بينهم نساء ورجال غرباء عن الحي ، تبدو النعمة واضحة على وجوهم . وبرفقتهم عبد القادر السمسار . عبد القادر رغم أنه يتدخل في كل شيء ، فإن الحاجة إليه تزداد في وقت الانتخابات . يخرج مع كل المرشحين ، ويتجول بهم في الحي مثل مرشد سياحي ، ويقدم لهم بعض السكان الذين يرغبون في التحدث إليهم .
عبد القادر يكون على علم ببعض الزيارات ، ويرتب لها . يتصل بحماته العرجاء ، ويطلب منها أن تجمع النساء ، وأن يهيئن الطعريجة والبندير ، ويلبسن فساتين لائفة ، ويعدها بتقديم ثلاثين درهما لكل واحدة ، وهي ستحظى بالورقة الخضراء . ثلاثون درهما بزيادة خمسين في المائة عما قدمته الحكومة لطرد الفقر من المغرب . والخير قادم إنشاء الله مع الانتخابات وبعدها .
استقبل عبد القادر الوفد رفقة نساء الحي بالحليب والتمر والورد والأهازيج الشعبية . لا يعرف من أين حصل على المال . لا بد أنه اتفق من قبل مع مسئول في الحملة على هذه الترتيبات ، وأخذ نصيبه .
تقدم نحوه السمسار رفقة رجل أنيق ، بلحية خفيفة بدأ يغزوها الشيب ، آثار النعمة بادية على وجه يخلو من التجاعيد ، وحمرة تعلو الخدين شبيهة بحمرة خد امرأة وهي تتزين للذهاب إلى العرس . لا يحب الوجوه التي لا تلفحها الشمس ، ولا تغزوها التجاعيد .
ناوله شخص من الوفد كمامة ، طلب منه ارتداءها ، وقدمه عبد القادر لضيوفه :
ـ هذا هو سي عبد الله الإسكافي . كل الأحذية التي يلبسها الناس في الحي لا بد أن تمر من بين يديه . تموت النعال والأحذية ، ولا يبقى غير رميها مع النفايات ، لكن سي عبد الله بمهارته وحنكته مثل الطبيب المختص ، ينفخ الحياة في الأحذية والنعال التي لم تعد صالحة للاستعمال .
بعض الشباب المرافق للوفد لم يفوت الفرصة ، فأخرجوا هواتفهم ، ووجهوها نحو سي عبد الله . أرعبه الموقف ، أحس بالهواتف مثل البنادق التي يشهرها الجنود ضد خصم لهم طالبين منه إلقاء السلاح ، والاستسلام برفع اليدين إلى الأعلى .
انحنى الوزير ، وقبل رأس الاسكافي أمام استغراب الناس .
توجه إليه عبد القادر السمسار بالكلام :
ـ هل تعرف من قبل رأسك ؟
لم ينتظر حتى يفكر ويجيب . ثم أضاف بنبرة يطبعها الفخر والاعتزاز :
ـ السيد الوزير ؟! هل تعرفه ؟! مرشح عندنا في الدائرة ؟!
أخذته رعشة من الداخل ، حتى كاد قلبه يسكت . قال مع نفسه :
ـ هذا الوجه لا أتذكر أين رأيته ؟!
قد يكذب السمسار . الفقهاء أجازوا الكذب في الحملة الانتخابية ، واحتج بعضهم بقول نسبوه للرسول والصحابة : الحرب خدعة ، والانتخابات حرب .
المهم أحس بدوخة خفيفة . وسأل نفسه مرتبكا :
ـ ماذا أطلب يا إلهي من الوزير ؟ لو علمت بزيارته من قبل ، لطلبت من احمد ان يكتب لي كل ما اشكو منه ، وكل ما اتمناه في ورقة ، وقرأتها عليه ، كما كان يفعل المدير في المدرسة عندما تزورها شخصية مهمة ، ويقدم ورقة مكتوبة لتلميذة نجيبة تقرؤها امام الضيوف .
لن يحظ بمقابلة مثل هذه إلا بعد خمس سنوات أو أكثر ، وقد لا تتكرر . ربما يأتي في المستقبل شخص أقل من الوزير . أنقذه الوزير من ورطته ، وبدأ يجيب عن أسئلة لم يطرحها عليه :
ـ وضع غير مقبول . سي عبد الله يستحق حياة أفضل ..
لم ينبس بكلمة ، الوقت يمر بسرعة ، أحس بصخرة ثقيلة تمنع لسانه من الكلام .
نظر إليه الرجل مرة ثانية وقال :
ـ أنا أحتاج إلى صوتك أسي عبد الله ، بصوتك يمكن أن نبني دكاكين أوسع ، ومدارس ومستوصفات وملاعب للقرب ، ونقدم مساعدات اجتماعية لمحاربة الفقر ، ونهدم هذه البيوت الآيلة للسقوط ، ونبني مكانها منازل من الاسمنت .
لا يعرف كيف انطلق لسانه فجأة :
ـ مرحبا .. خير سيدي .. خير إنشاء الله .. سنصوت عليك .. تستحق كل خير .. وحدك تضيء البلد من طنجة الى واد الذهب ..
بعد انصراف الوفد ، زاره أحمد الشاب الجامعي الحاصل على ماستر ، ويشتغل ككاتب عمومي ، يملأ مطبوعات المرض للعمال أمام مقر صندوق الضمان الاجتماعي . جلس فوق كرسي من الدوم ، ونزع فردة نعله ، وطلب منه أن يصلحها ، حتى يتمكن غدا من الالتحاق بعمله ، قبل أن يجد شخصا آخر قد حل مكانه .
أخرج أحمد الهاتف ، وبحث عن الفيديو الذي نشره الوزير المرشح عبر اللايف في صفحته على الفايس بوك . وأخبر عبد الله ، كيف أن صورة الوزير وهو يقبل رأسه ، ستغزو مواقع التواصل الاجتماعي ، وكبريات الصحف الالكترونية . توب ميديا* من دقيقتين سيكسب به المرشح آلاف المشاهدين ، ويجنى من ورائه تجار الأنترنيت ملايين السنتيمات .
نظر إلى الفيديو فاغرا فاه . خجل من لطم خده مثل النسوة أمام أحمد . تساءل مع نفسه ، عمن تحدث باسمه في حضرة الوزير ؟
الحنق يكاد يخنق أنفاسه . لا بد أن عفريتا ركبه ، وقال كلاما غير الكلام الذي كان يرغب في قوله . كان يود أن يقول للوزير المرشح :
ـ فكوا ، باراكا* .. قودتوها* علينا ، وخربتم البلد ، مشية بلا رجعة .
لكن حجرة ثقيلة ضغطت على لسانه ومنعته من الكلام .
المعجم :
ـ غينتس : المقصود كتاب غينيس للأرقام القياسية .
ـ توب ميديا : قنبلة إعلامية أو سبق إعلامي يحقق أعلى نسبة مشاهدة .
ـ باراكا : كفى
ـ قودتوها : لفظ من اللهجة المحلية يعني بأنهم عملوا عكس ما يجب فعله فخربوا كل شيء
مراكش 03 شتنبر 2021 .
ما علينا . لا يريد أن يثقل عليكم بمشاكله .. مشاكله يلزمها كتاب كبير ، قال له أحد معارفه أنهم في الغرب يسمونه كتاب غنتس* لم يعد يتذكر الاسم بشكل صحيح .
بالأمس وقف أمام الدكان حشد كبير من الناس ، يرتدون صدريات بيضاء . بينهم نساء ورجال غرباء عن الحي ، تبدو النعمة واضحة على وجوهم . وبرفقتهم عبد القادر السمسار . عبد القادر رغم أنه يتدخل في كل شيء ، فإن الحاجة إليه تزداد في وقت الانتخابات . يخرج مع كل المرشحين ، ويتجول بهم في الحي مثل مرشد سياحي ، ويقدم لهم بعض السكان الذين يرغبون في التحدث إليهم .
عبد القادر يكون على علم ببعض الزيارات ، ويرتب لها . يتصل بحماته العرجاء ، ويطلب منها أن تجمع النساء ، وأن يهيئن الطعريجة والبندير ، ويلبسن فساتين لائفة ، ويعدها بتقديم ثلاثين درهما لكل واحدة ، وهي ستحظى بالورقة الخضراء . ثلاثون درهما بزيادة خمسين في المائة عما قدمته الحكومة لطرد الفقر من المغرب . والخير قادم إنشاء الله مع الانتخابات وبعدها .
استقبل عبد القادر الوفد رفقة نساء الحي بالحليب والتمر والورد والأهازيج الشعبية . لا يعرف من أين حصل على المال . لا بد أنه اتفق من قبل مع مسئول في الحملة على هذه الترتيبات ، وأخذ نصيبه .
تقدم نحوه السمسار رفقة رجل أنيق ، بلحية خفيفة بدأ يغزوها الشيب ، آثار النعمة بادية على وجه يخلو من التجاعيد ، وحمرة تعلو الخدين شبيهة بحمرة خد امرأة وهي تتزين للذهاب إلى العرس . لا يحب الوجوه التي لا تلفحها الشمس ، ولا تغزوها التجاعيد .
ناوله شخص من الوفد كمامة ، طلب منه ارتداءها ، وقدمه عبد القادر لضيوفه :
ـ هذا هو سي عبد الله الإسكافي . كل الأحذية التي يلبسها الناس في الحي لا بد أن تمر من بين يديه . تموت النعال والأحذية ، ولا يبقى غير رميها مع النفايات ، لكن سي عبد الله بمهارته وحنكته مثل الطبيب المختص ، ينفخ الحياة في الأحذية والنعال التي لم تعد صالحة للاستعمال .
بعض الشباب المرافق للوفد لم يفوت الفرصة ، فأخرجوا هواتفهم ، ووجهوها نحو سي عبد الله . أرعبه الموقف ، أحس بالهواتف مثل البنادق التي يشهرها الجنود ضد خصم لهم طالبين منه إلقاء السلاح ، والاستسلام برفع اليدين إلى الأعلى .
انحنى الوزير ، وقبل رأس الاسكافي أمام استغراب الناس .
توجه إليه عبد القادر السمسار بالكلام :
ـ هل تعرف من قبل رأسك ؟
لم ينتظر حتى يفكر ويجيب . ثم أضاف بنبرة يطبعها الفخر والاعتزاز :
ـ السيد الوزير ؟! هل تعرفه ؟! مرشح عندنا في الدائرة ؟!
أخذته رعشة من الداخل ، حتى كاد قلبه يسكت . قال مع نفسه :
ـ هذا الوجه لا أتذكر أين رأيته ؟!
قد يكذب السمسار . الفقهاء أجازوا الكذب في الحملة الانتخابية ، واحتج بعضهم بقول نسبوه للرسول والصحابة : الحرب خدعة ، والانتخابات حرب .
المهم أحس بدوخة خفيفة . وسأل نفسه مرتبكا :
ـ ماذا أطلب يا إلهي من الوزير ؟ لو علمت بزيارته من قبل ، لطلبت من احمد ان يكتب لي كل ما اشكو منه ، وكل ما اتمناه في ورقة ، وقرأتها عليه ، كما كان يفعل المدير في المدرسة عندما تزورها شخصية مهمة ، ويقدم ورقة مكتوبة لتلميذة نجيبة تقرؤها امام الضيوف .
لن يحظ بمقابلة مثل هذه إلا بعد خمس سنوات أو أكثر ، وقد لا تتكرر . ربما يأتي في المستقبل شخص أقل من الوزير . أنقذه الوزير من ورطته ، وبدأ يجيب عن أسئلة لم يطرحها عليه :
ـ وضع غير مقبول . سي عبد الله يستحق حياة أفضل ..
لم ينبس بكلمة ، الوقت يمر بسرعة ، أحس بصخرة ثقيلة تمنع لسانه من الكلام .
نظر إليه الرجل مرة ثانية وقال :
ـ أنا أحتاج إلى صوتك أسي عبد الله ، بصوتك يمكن أن نبني دكاكين أوسع ، ومدارس ومستوصفات وملاعب للقرب ، ونقدم مساعدات اجتماعية لمحاربة الفقر ، ونهدم هذه البيوت الآيلة للسقوط ، ونبني مكانها منازل من الاسمنت .
لا يعرف كيف انطلق لسانه فجأة :
ـ مرحبا .. خير سيدي .. خير إنشاء الله .. سنصوت عليك .. تستحق كل خير .. وحدك تضيء البلد من طنجة الى واد الذهب ..
بعد انصراف الوفد ، زاره أحمد الشاب الجامعي الحاصل على ماستر ، ويشتغل ككاتب عمومي ، يملأ مطبوعات المرض للعمال أمام مقر صندوق الضمان الاجتماعي . جلس فوق كرسي من الدوم ، ونزع فردة نعله ، وطلب منه أن يصلحها ، حتى يتمكن غدا من الالتحاق بعمله ، قبل أن يجد شخصا آخر قد حل مكانه .
أخرج أحمد الهاتف ، وبحث عن الفيديو الذي نشره الوزير المرشح عبر اللايف في صفحته على الفايس بوك . وأخبر عبد الله ، كيف أن صورة الوزير وهو يقبل رأسه ، ستغزو مواقع التواصل الاجتماعي ، وكبريات الصحف الالكترونية . توب ميديا* من دقيقتين سيكسب به المرشح آلاف المشاهدين ، ويجنى من ورائه تجار الأنترنيت ملايين السنتيمات .
نظر إلى الفيديو فاغرا فاه . خجل من لطم خده مثل النسوة أمام أحمد . تساءل مع نفسه ، عمن تحدث باسمه في حضرة الوزير ؟
الحنق يكاد يخنق أنفاسه . لا بد أن عفريتا ركبه ، وقال كلاما غير الكلام الذي كان يرغب في قوله . كان يود أن يقول للوزير المرشح :
ـ فكوا ، باراكا* .. قودتوها* علينا ، وخربتم البلد ، مشية بلا رجعة .
لكن حجرة ثقيلة ضغطت على لسانه ومنعته من الكلام .
المعجم :
ـ غينتس : المقصود كتاب غينيس للأرقام القياسية .
ـ توب ميديا : قنبلة إعلامية أو سبق إعلامي يحقق أعلى نسبة مشاهدة .
ـ باراكا : كفى
ـ قودتوها : لفظ من اللهجة المحلية يعني بأنهم عملوا عكس ما يجب فعله فخربوا كل شيء
مراكش 03 شتنبر 2021 .