أمل إسماعيل - لا حوتَ يصلحُ لنبيّ

كل يوم أغذّ السير إلى البحر، أجالسه باحثاً عن حوتٍ يبتلعني. حسناً، من الصعب أن تكون نبياً بلا شعبٍ تهدِيه إلى الحق! تسأل نفسك والزبد يعلقُ بأطراف أصابع قدميك: هل أنا على حقّ! أحقٌّ ما أدعوهم إليه! لو أنّه الحقُ لظهَرَ الحوتُ الآن وابتلعني! ثم تسأل نفسك ثانية: لكنني لم أدعُ أحداً بعد، ولم ينكِر دَعوتي أحد!
أكثر ما تخشاه ألا يكذبوكَ فتعود إلى الشاطئ، بلْ أن يصدقوكَ فتضطرَّ إلى البقاء بينهم! تخيّل يومك يمضي رتيبا، مزيدٌ منهم يحجُّ إليك مصدقاً مؤمناً برسالتك، طالبا منكَ دعوةً تنجيه، أو بركةً تحلّ عليه وعلى أهله وعشيرته، تملي عليهم ما لا تعلم، وتحدثهم بما لا يصلح لحديث نفس، فيكتظ مجلسك ويفيض، هكذا في يومك وغدك.... ثم يأتيك من أنباء الآخرين فتعلم أن فيهم من أعلن الحرب على رسالتكَ؛ وعندها يتعينُ عليكَ أن تبعثَ بالرسل والجيوش و....!
ثم، قبل ذلك كله، هل سيمدّكَ ربك بكل ما تحتاجه لنجاحِ رسالتك؟ وإن حصلَ ذلك حقا.. سيُسقَطُ في يدكَ! ستنتهي! ستصبحُ نبيا حقيقيا ينتظرُ إعصارا لا يأتي، بحرا هادئا شامتاً بحيتان أليفة! بئس النبي أنت وبئس الرسالة! لو أني أغرقُ الآن فلن يلتفتَ إليّ أحد!
غيّر في حبكة القصة قليلا، فلتكُنْ نبيًا يلتقطهُ نسرٌ فيحملهُ إلى عشٍّ على قمّة جبل، أو فليكن تنّيناً! لكن هذه البلاد لا تنجبُ التنانين، فلنكتفِ بنسرٍ إذن حَلا وَسَطا! تمكُثُ في عُشّ النسر إلى أن يشاء ربّك، ثم تعود إلى حضن الأرض محملاً بالأسى والريش!
من أينَ لي بنسر؟ من أين لي بقمة جبلٍ في هذا البلقع من الأرض! فلتكن إذن رمالا متحركة تسحبكَ ورسالتكَ إلى أعماقها السحيقة، فتعبُّ الرمل عبًّا... ثم تقذفكَ المعجزة من رحمِ الأرض إلى قومك ثانية، آه.. وهل تضمنُ حدوثَ المعجزة!

***

تقول الرسالة أنّكَ رحلت
وتركتَ سِيركَكَ مفلسا؛
لم يعد ثمّة ما أقوله.

المايسترو يمنحُ الطيور المغردة أجرها
وتشتري تذاكر سفر إلى خط الاستواء؛
تقول الرسالة إنك رحلت بعيدا.

الكلاب الصوف الفطنة عاشت أيام عزها
وها هي ترمي النرد من أجل العظمة الأخيرة؛

لم يعد ثمة ما أقوله
الأسد والنمر عادا إلى الطين
والفيل "جامبو" يقرع بحزن على الحجر؛
تقول الرسالة أنك رحلت بعيدا.

الأفعوان الحكيم قد أضاع حكمته،
بات يشتري السم عبر الهاتف؛
لم يعد ثمة ما أقوله.

الخيام الملونة تنقلب في الخليح؛
الغبار السحري يكتب: العنوان مجهول.
تقول الرسالة إنك رحلت بعيدا؛

لم يعد ثمة ما أقوله[1].


***

حسنا، فلنعد الكرّة ولنرسم صورةً أكثر إشراقا: صورةً حديثةً لنبيٍّ يرتدي الجينز ويتمشى في مركز تجاري، هذه المرّة لن يتعين عليك أن تدعو أحداً إلى أي رسالة، في هذا الزمن يصدِّقكَ البُلهاء إن عَطست. كُن نبيا لطيفا، شاركهم رقصهم وتناول شرابهم وغازل نساءهم وبذّر أموالهم، ثم... سيصفقون لك، ويلتفّون حولك. قل لهم إنّ الحياة كذبة قصيرة، وإنهم راحلون لا شك، سيبكون ويصدقونَك رغم أنكَ لمْ تأتِ بجديد، ولكنها لازِمَةُ الحكاية. ثم قل لهم إنك ستعتَزِلهمْ إلى قمة جبلٍ أو كوخٍ على الشاطئ من جريدِ النخل أو خَيمةٍ من الشّعر في صحراء لا تعرفُ أحدا، فتجِدُهُم يغذّون السَّير في إثركَ مُتناسين سَقطَ مَتاع الدنيا، وسيحيّركَ السؤال الذي يَسكنكَ وتسكنُه: ثم ماذا أنا فاعلٌ بِهِم؟! بأتباعي! أأشنُّ حربا؟ أتوَسّع؟ أكتفي بهم ويقتلني الضّجر؟ أهجرُهم وأعودُ إلى سيرتِيَ الأولى باحثًا عن حوتٍ يبتلعني؟ آهِ، بئس النبي أنا!


_____________________________________________
[1] قصيدة "نهاية"، سيلفيا بلاث، ترجمة: سامر أبو هواش
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى