شوقيه عروق منصور - موت الكاتب وبؤس الموهبة

في لقاء تلفزيوني مع أم كلثوم أبنة الكاتب " نجيب محفوظ " ذكرت أن ميدالية " قلادة النيل " التي منحها الرئيس مبارك لوالدها بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988مزيفة ، لم تكن من الذهب كما قيل له ، بل القلادة مطلية بماء الذهب ، فقد أكدت الأبنة أن والدتها أخذت القلادة الى الصائغ الذي قال لها أنها مزيفة ، أي أن رئيس الجمهورية قد قام بخداع الكاتب الكبير نجيب محفوظ ، ولكن العائلة صمتت ولم تعلن عن ذلك خشية العواقب .
هذه الأقوال لو جرت في دولة أجنبية لقامت الدنيا ، كيف يمكن أن يزيف رئيس قلادة تُعد أعلى قلادة في الدولة ، أيضاً كيف يمكن عدم احترام كاتب كبير استطاع بحصوله على جائزة نوبل رفع شأن الرواية العربية الحديثة ، حتى لو رافق الحصول على الجائزة الكثير من الانتقادات ، لكن تبين أن قدر الأدباء في العالم العربي تقبل القليل والسكوت على مضض.
قبل موت الشاعر نزار قباني بسنوات أطلق الرئيس السوري حافظ الأسد أسم نزار قباني على احد شوارع دمشق ، فكتب نزار قباني أجمل الكلمات ، بأسلوب طفل يتسكع مبهوراً بحديقة العاب ، لأنه شعر أن هناك من قدر وسمع وتأثر بكلماته ، والرئيس يرد بعض الجميل لتاريخ الشاعر .
كتب الجاحظ قديماً ، فاتحاً باب السخرية على الحالة الاقتصادية التي يعيشها الكاتب " أدركته حرفة الأدب " حيث عرف أن الكتابة قد تصل بالأديب الى الجوع والفقر والسجن وأيضاً الجنون ، وقد تُفتح له طاقة القدر ويكون الزحف على ركبتيه نهجاً ليصل الى أحضان القائد والسلطان والخليفة والزعيم والملك ، ففي كلتا الحالتين حرفة الأدب لها الوجه والقناع ، لها الدم النقي والمياه الملونة حسب الطلب ، لكن في ذات الوقت أراد الجاحظ ، ادانة الانسان الذي قرر أن يتحدى المجتمع ويطلق صوته في الفضاء ، فالكتابة هي اطلاق الحبر الأبيض في الزمن الأسود .
كُتب الكثير عن الكتابة والكتاب والادباء والشعراء ، كتبوا عن حياة الادباء والشعراء وعن ابداعهم وقصصهم ورواياتهم واشعارهم ، وكتبوا أيضاً عن معاناتهم وفقرهم وذلهم وجوعهم وابتعاد الناس عنهم ، كتبوا عن أمراضهم وفقدان حبيباتهم ووقوفهم على الأطلال ، كتبوا عن تعذيبهم وزجهم في السجون ، أو نصب المشانق لهم او تقطيع اجسامهم أو حرقهم ليكونوا عبرة للآخرين .
فضاء الصور التي شربت ملامح الأدباء والشعراء حتى الثمالة تثرثر فوق الأوراق وصفحات الكتب والشاشات الالكترونية ، لا جديد عن أسرار الكلمات وعناق الشعراء ، لا أسرار أمام سماعة طبيب الزمن الذي يتنصت على قلوب الأدباء في كل مكان ، فكل الاسرار متشابهة ، ووقع خطى الأدباء تحاول أن تكون موحدة مثل خطوات الجنود في معسكرات الحزم والقوة ، لكن نعترف أن الأديب العربي – والأديبة أيضاً – حتى اليوم ما زال يقف أمام رماح القبيلة وسيوف السلطان والنفي خارج الخيام .
الأديب العربي يغلي قهوة روايته وقصته وقصيدته وخاطرته في مطبخ الخوف من الرقابة ثم من صاحب الصحيفة والمجلة ثم من صاحب الموقع الالكتروني ، واذا قفز عن أسوار هؤلاء يفتش عن دار نشر فلا يجد ، واذا وجد يكون الزيف والخداع ويستغل صاحب دار النشر الكاتب في أكبر عملية خداع يسقط فيها الكاتب العربي ، حيث يضع صاحب دار النشر عنوان الدار على الكتاب دون أن يدفع شيئاً ، بل يركب ظهر الكاتب ويكسب ماليا من عرق الكاتب أو الشاعر المسكين .
الكاتب والشاعر العربي يكتب دون مقابل ، فهو لا يستطيع العيش من وراء كتبه أسوة بالكاتب الغربي ، فكتبه توزع مجاناً وهدايا للمعارف والأصدقاء ، وقد رأينا وقرأنا عن حال الشاعر العراقي الشهير بدر شاكر السياب عندما أصيب بالمرض وكيف تبرع له الأصدقاء للسفر الى بيروت للعلاج ، وكيف توفي الشاعر المصري أمل دنقل وهو يتعالج في المستشفيات المصرية في الدرجة الثالثة ، وهناك شعراء وأدباء عاشوا في بحبوحة مادية نتيجة الميراث والوظيفة الى جانب الموهبة مثل أمير الشعراء أحمد شوقي - في المقابل كان في عصره الشاعر حافظ إبراهيم الذي مات فقيراً – وعميد الأدب العربي طه حسين الذي كان وزيراً .
لكن عندما يصل الأمر الى الانتحار تتفجر الخطوط الحمراء وتندلق في شوارع وطرقات التساؤل ، لماذا ينتحر الأدباء والشعراء ؟؟ هل هومس جنون ؟ أم يأس وفرار ؟؟ هناك من يقول ان الشاعر اللبناني خليل حاوي لم يتحمل رؤية الجيش الإسرائيلي وهو يغزو بيروت ، فقرر عام 1982 وضع حد لحياته ، فقام بإطلاق رصاصة على رأسه في الحمام ، وحتى لا يتعب زوجته بتنظيف الحمام من الدم وضع رأسه في المرحاض ، وقبله الكاتب الأردني تيسير سبول اطلق الرصاص على رأسه عام 1973 في أعقاب حرب تشرين ولقاء المصريين والإسرائيليين عند خيمة الكيلو 101 ، فقد اعلن في رسالته عن ضياع شرف الأمة .
ولكن ما الذي دفع الكاتب الفلسطيني الشاب " مهند يونس " 22 عاماً من غزة من حي تل الهوى الى الانتحار، فقد لف رأسه بكيس بلاستيكي ومد خرطوم الغاز لفمه ، مات مع أن موهبته الأدبية في كتابة القصة والرواية قد انطلقت ، لكن اهمال المؤسسات الثقافية له دفعته لوضع حد لحياته .
الوجوه الأدبية العربية كثيرة ، متعبة ، هاربة من أوطانها ، فقيرة ، مريضة ، مكتئبة ، مهملة رغم ذلك لا ينتحرون من اكتئاب الرفاهية ، مثل :
الكاتب الأمريكي ارنست همنغواي 1899 – 1961 الحاصل على جائزة نوبل عام 1954 عن رواية العجوز والبحر وقد فجر رأسه برصاصة .
أو الشاعرة الامريكية سيلفيا بلات التي وضعت رأسها عام 1961 في الفرن الذي كان مليئاً بالغاز بعد أن أغلقت النوافذ أغلقت النوافذ .
أو مثل الكاتبة فرجينا وولف التي لبست معطفها وملأته بالحجارة واغرقت نفسها في نهر أوز عام 1941 ووجدت جثتها بعد أسبوعين .
أو مثل الكاتب الياباني يوكو ماشيما الذي انتحر على طريقة " الهاراكيري " المعروفة عند الساموراي ، فقد طعن بطنه بالسيف عام 1957 .
الكاتب العربي يعيش بين مطرقة الإهمال وسدان الخوف ، بين مطرقة الجوع وسدان الحيرة ، بين مطرقة مخالب أصحاب القرار وبين سدان العيش مع الضمير .
تعددت المطارق والسدان واحد هو العيش على جمر الكتابة ، التمرغ في وحل القضايا والصراخ بأعلى الصوت.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى