أسامة العيسة - الدين الفلسطينيّ..!

تتشكّل الأديان، أركولوجيًا، وطبقات جيلوجية تُبنى على أخرى، تخضع لكل عوامل الحت، والزحلقة، والانزلاق، والتداخل، والهدم، والترميم، والجبر.
في خربة الكوم، في جبل الخليل، تظهر بعض النقوش الجدارية، التي تكاد تكون غير معروفة، إرهاصات لتكوّن الدين الفلسطينيّ، عبر الطبقات الأركولوجية، في واحدة من انعطافاته الكبرى، وكيف تعامل الإنسان الفلسطينيّ، كما يجب التوقع، ببراغماتية مع ظهور أيّة نزعات دينيّة تنزّ على وجه الطبقات الثقافيّة-الدينيّة.
لم تدرس ولم تنشر جميع النقوش، التي يستأثر آثاريو الاحتلال بها أكاديميًا، ومنها نقش لافت لشخص، يفترض أنّه من فئة المثقفين، بما هو كان قادرًا على الكتابة.
ظهر هذا المثقف، في فترة تحوّل، بإرهاصات التوحيد، ويبدو أنّه لم يكن على قناعة، بأنّ التوحيد ضرورة تاريخيّة، أو الأصح لم يكن على ثقة بانتصاره. وتأرجح بين التعددية، والإله يهوه، الّذي كما يصفه نفسه، باعتداد، إله غيور ومنتقم، وهو أيضا استحواذي. وفي أخر تحرير للعهد القديم، كما وصلنا، يظهر كيف يمكن أن يكون غيورًا ومنتقمًا واستحواذيًا، وكلّي القدرة، يغفر ويرحم عندما يريد، بعكس بعض الحركات الوطنيّة، التي تُحذِّر مواطنيها من استفزازها، لأنّها، حينها، ويجب أن تكون معذورة، لن ترحم أحدًا. ولا استثناء.
كم مثقف لم ترحمه اليهوية، وهي تنتصر؟ كم شخص قتل؟ وكم شخص سيقتل في الانعطافات اللاحقة؟
هذا النوع من الخطاب السلطوي اليهويّ، سيترك علامته التي لا تُمحى على مستقبل الشرق؛ عقل استحواذي، تقف العقول الأخرى، كما حددها الجابري (البيان، العرفان، البرهان) عاجزة، وهي تحاول استيعابه، ترصد تسلله إليها، ليأخذ مكانًا، ويستقر، ويتمكّن، وتضحى خادمة له.
النقوش الجدارية، التي خطها فلسطينيو خربة الكوم، قد تفاجئ البعض الّذين يعتقدون أن ما يعيشونه كان كذلك منذ الأزل، وسيظل للأزل.
في النقش الّذي خطه صاحبنا المثقف، منذ أكثر من ثلاثة الاف عام،. أمسك العصا من المنتصف؛ لقد طلب البركة من الإله يهوه وزوجته الآلهة أشيرة. ربما خشي، أن تعود أشيرة آلهة قوية، تُخشى، وقد لا ترحم من ساير يهوه.
يظهر النقش أن مثقفنا المحتار، لم يكن موحدًا كامل التوحيد، أو بالشكل الّذي يطلبه يهوه، الّذي أراد الاستقلال عن مجمع الآلهة القديم، ويتحكم في مصير ناس الشرق، ونسي أن يصطحب زوجته، مفارقًا الحنو الأنثوي، الّذي سيترك أثره كثيرًا، لاحقًا، ولاحقًا.
ولكن يبدو أن بيرواقرطي ذلك الزمن، أو حرفييه، تصرفوا كما يليق بمهنهم، وكما سيتصرفون دائمًا، فالإله المنتصر هو الإله الّذي يُستحق الخوف منه. في أحد النقوش يخط فلسطينيّ، يعرّف نفسه بأنّه متعهد دفن، باختصار، ومباشرة، وولاء لا يقبل الجدل، طالبًا الرحمة.
مثل هذا النقش الّذي يمكن أن نجد مثله كثيرًا، من أيّام الرقوم الحجرية حتى يوم الصحف الحالية، لا يسترعي الانتباه كثيرًا، بعكس نقش المثقف الحائر، الّذي ربّما عاش، ليعبد يهوه، ويتجند في طبقة مثقفي الدين الجديد، أو انزوى، يراقب، اندفاع ناسه، للدخول في الدين الجديد، ولكنّه، لا شك أدرك، أنّهم، وهو يفعلون ذلك، يحملون لواءً جديدًا، ولكن بشروطهم غير المعلنة، وهو ما سيفعله ما سيأتي بعدهم، ويرون كيف أن صراع الآلهة سيتعمق في السماء، ويلقي بظلاله الباطشة على ناس الأرض، الّذين لا يمكن أن يفعلوا مع الأقدار المقدّرة، إلّا مسيارتها، محتفظين بمكونات كثيرة من أديانهم، وثقافتهم السباقة والسابقة، الّتي ما زال يمكن تحديد جذورها في الإنسان الفلسطينيّ المعاصر، ولا تعدو كل الحركات الراديكاليّة الدينيّة، إلّا تنويعًا انشقاقيًا، لا يحفر عميقًا.
لم يحسم التوحيد المعركة، حتّى بعد ثلاثة آلاف عام، وليست آلاف الأعمال الفنيّة العالميّة، في النحت، والسرد، والشعر، والسينما، والرقص، التي تستوحي ميثولوجيا غير نهائية، إلّا أحد علامات عدم الحسم.
مسلمو أيّامنا، أفضل بما لا يقاس، من مسلمي السلف الصالح، وهو ما يمكن تلمسه أيضًا لدى مسيحي أيّامنا، ويهود زمننا، هم نتاج تطور أخلاقي طويل، وحلزوني. تظهر الجماعات المنشقة التي تصرّ على أنها ترفع راية التوحيد وهذا يعني شعورها بالتهديد، في محاولات دمويّة، ولكنّها يائسة، لإعادة الزمن، فالزمن، من حسن حظنا، ليس أجيرًا عند أحد.
الدين الفلسطينيّ كما نقله لنا آباؤنا: "كل واحد على دينه، الله يعينه".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى