إسحاق بندري - زمن التراجعات ووجوه البطل المُخَلِّص

قراءة في رواية "زمن التراجعات"
للأديب الكبير الأستاذ شطبي ميخائيل
زمن التراجعات ووجوه البطل المُخَلِّص



كان إريش فروم عالم الاجتماع والنفس يشير إلى حالة إنسانية معقدة في إحدى مقالاته قائلًا: »الحب إنجاز ليس من السهل الوصول إليه. كيف يحاول الرجل الذي لا يمكنه أن يحب أن يخترق سر جاره؟ ثمة طريقة أخرى, إنها السلطة الكاملة على شخص آخر, السلطة التي تجبره على فعل ما أريده وأن يشعر ويفكر فيما أريده, يتحول إلى شيء خاص بي, شيء أملكه. أقصى درجات هذه المحاولات من أجل المعرفة تكمن في السادية المتطرفة التي تستمتع بجعل الآخر يعاني, وفي تعذيبه وإجباره على خيانة سره في معاناته أو بتدميره في النهاية. ثمة دافع أساسي للقسوة والتدمير الشديدين في الرغبة الشديدة للولوج إلى سر الإنسان.«
وسواء كان الأمر متعلقًا بإيذاء الآخرين بممارسة السادية عليهم, أو إيذاء النفس بالمازوخية والتلذذ بالألم, ففي رواية زمن التراجعات للأديب الكبير شطبي ميخائيل, والتي صدرت طبعتها الجديدة عن مركز إنسان للنشر, ما يدفع للتفكير في كل تلك الأسئلة الكبرى التي تؤرق مضاجع البشر فإذ بهم يتحولون إلى جلادين وضحايا في الوقت ذاته. ففي عالمهم الواقع تحت الحصار, في إحدى قرى الصعيد التي يشير إليها باسم قرية الورد المحصورة بين الجبل والنيل, والتي يكتنفها الفقر والجهل من ناحية, هجمات الضباع ثم الجماعات الإرهابية المتطرفة من ناحية أخرى, يغرق الكل في الغيبيات والاستسلام للواقع المرير أملًا في قدوم المُخَلِّص. ولكن هل يفلح هذا المُخَلِّص في إتمام رسالته؟
نبيل الألفي الذي يرث منصب العمودية في قريته أبًا عن جد, يكتشف في نهاية المطاف أن مصيره مرهون بمصير قريته وأهلها البائسين, رغم أن سنوات تكوينه الأولى تبدأ بعيدًا عن القرية, هناك في المدينة ولكنه يعود إلى القرية في شبابه, ليغادرها ثم يعود إليها في النهاية كالمسيا المُنتَظَر.
المشهد الجنائزي الكابوسي في استهلال الرواية ليس مغايرًا لحال القرية التي تبدل حالها مع التغيرات الكبيرة التي شهدتها مصر في تلك الفترة ما بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن العشرين. فظلمة الموت الحالكة تُحَلِّقُ حولهم, وجوههم جامدة كصخر الجبل الذي يحد قريتهم. تتقاطع معها مأساة نبيل الألفي المكلوم في وفاة زوجته, ومكانته الضائعة وثروته المنهوبة. محنة الإنسان ومحنة المكان يجسدها كابوس غرائبي يراه نبيل في منامه؛ مشهد لمشاجرة تنشب بين آنوبيس إله الموتى عند قدماء المصريين والأمين العام للأمم المتحدة على قلب نبيل أثناء محاكمته, فكأنه لا يملك من أمر نفسه شيئًا. لتتوالى الأسئلة الكبرى عن ما هية الحياة والموت وجدوى الوجود. فزوجته ماتت ولكنه لم يتحرر من طيفها أو من أحجيتها الغامضة. كأن سطوة الموت النهائية تبتلع حصاد الحياة بالكامل.
البطل المُخَلِّص يسعى للحب, ولكنه لا يعثر على الارتواء المنشود, بسبب تناقضات تكوينه ما بين المدينة والقرية, لاختلاف أنساق قِيَم كل منهما, وهو حائر في انتمائه بينهما فيتخبط في متاهات العشق والغرام يتلمس سرًا محجوبًا, يبدد سلام نفسه ولا يُقَدِّم إليه الإجابات المرجوة.
قبل زواجه يرتبط بقصة حب مع ميرڨت, القاهرية الراقية, التي تبدو مناسبة لحياته الأرستقراطية بعصريتها وانفتاحها, وتنال رضا أهله. ولكنها تمثل صخب المدينة التي لم تغير في نفسه سوى قشرة سطحية خارجية, فلا المدينة ولا ميرڨت استطاعتا أن ترويا ظمأه, ففقد الثقة في المدينة وبناتها المتحررات.
فينشد البكارة والعذراوية في قريته, وبالأحرى عندما يلاحظ سارة, ابنة المأمور المتقاعد, والتي يتعرف عليها في مشهد رومانتيكي؛ الفارس المغوار الضليع بشئون الحياة والحب على صهوة جواده يلتقي بفتاة يافعة في سنوات التعليم, ولكنه ينهزم أمامها ويتلعثم. حتى طلبه بالزواج منها يلاقي التسويف, إلى أن يُجاب فجأةً بشكل ينذر بسر غامض. ليتبدد وهم البكورية المأمولة. أضجره صخب المدينة ثم أضجره سكون القرية. خذله حب المدينة ثم خذله حب القرية. تكتمل خيبته في الحبل الكاذب. ثنائية الحب والألم. يظل على رجائه بفهم السر القابع عميقًا في روح سارة الملتحفة بالصمت, ولكنه مع الوقت يتحول إلى عبودية وتلذذ بالألم وانهزامية أمامها, وسير في دروب ملتوية, ينال حبًا ماديًا بينما خبايا الروح تبقى محتجبة لا يستجلي غوامضها.
هل أدارت له الحياة وجهها لتذكره بتدنيه الأخلاقي وخطيئته وعاره الشخصي وانكشاف حقيقة نفسه في مواجهة النزوات المنحطة والمهابة الزائفة والانتصارات الحقيرة, عندما اعتدى على "ست الحسن" ابنة البستاني, عندما استنكر حتى محاولة مقاومتها له. فلا أحد سيأبه بفلاحة فقيرة مستضعفة كالكثيرات غيرها من المعدمات المستباحات, ضاع عمرها دون أن تفهم الحياة, فتنتحر وتنهي حياتها في مشهد لا يقل غرائبية عن حياة قرية الورد, ويبقى شبحها ليطارد الجميع. هذه اللطخة السوداء هي ضميره الذي لا يني يوخزه.
اللعنة التي يعيشها نبيل هي امتداد للعنة أبيه العمدة نايل بك الألفي. لم تكن القرية تمثل للأب سوى مصدر الخير والمال, الذي يستثمره ويبدده. كان الأب منغمسًا في ملذات المدينة لينسى القرية وهمها, فلا يشبع ولا يرتوي. ينتمي لعالم قديم ولى زمانه, ويأبى الاعتراف بذلك, إلى أن يفتضح عجزه أمام فتاة ليل, تتجسد أمامه خيبته, يكتشف أنه صنع من نفسه أسطورة وصدقها, يتشبث بما تبقى من الحياة, يتغنى بأمجاد ماضية, ولكن الحقيقة المُرَّة تقوض كيانه, أن المدينة وملذاتها وشهواتها قد افترسوه ولفظوا بقاياه, وليس العكس, فتصيبه حالة من الذهان والخبل في أواخر أيامه, تحاصره التهيؤات ويخيفه قدوم الموت.
إلا أن البطل المُخَلِّص له جانب آخر, فهو صاحب الأفكار الثورية التقدمية ذات التأثير الروحي لدرجة أنها تغير مسار حياة صديق له, فيفارق حياة الضياع والتفاهة وينضم لصفوف الفدائيين الساعين لتغيير العالم بقوة الثورة. حتى إن هذا الصديق يلوم على نبيل أن يعتزل في حياة الريف مع الفلاحين الكسالى في حياة رخوة وهيام في الرومانسية ويعتبرها هذا الصديق ضربًا من الخير السلبي العاجز.
ولكن بطلنا المُخَلِّص غارق في المازوخية وإيلام الذات, ما بين علاقته بزوجته سارة, التي يخفق إخفاقًا ذريعًا في فهمها أو كشف سرها, يحدوه الأمل بالنفاذ إلى سريرتها دون جدوى. وما بين مهران شقيق ست الحسن والذي يتقبل نبيل ما يبدر عنه من صفاقة وتلميح واضحين عما حدث وكأنه يفضحه في الصميم, كشيطان لصيق أو واعظ أخلاقي سمج, يثير ضيقه ولا يحتمل غيابه.
هل يمكن للبطل المُخَلِّص أن ينقذ قريته من براثن قوى الجماعات المتطرفة الرابضة حولها وتفرض وصايتها بالقوة والإرهاب, لتتغير الملامح وتفسد النفوس البسيطة. يجد نفسه واقعًا بين المطرقة والسندان؛ أيدافع عن أرضه وكيانه ويخدم أهل قريته, أم ينحني أمام العاصفة؟ أتراه يتطهر من إثمه وخيباته أم يتضاءل أمام مشهد كوني أكبر منه؟
هل هو سيزيف الذي يكابد جهاده العدمي؟ أم هو دون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء؟ أم المسيا المُخَلِّص الذي يصلبه عالم ظالم وقاس؟
رواية زمن التراجعات هي عمل أدبي ملحمي عن قرية نائية ينهشها شظف العيش والطائفية والإرهاب. على قتامة حالها, وغرائبية حياتها, إلا أن القارئ يطالع قصتها المكتوبة بشاعرية رقيقة تثير مخيلته, وتلهب عقله بالأسئلة المحيرة.
*مقتطف إريش فروم مأخوذ من مقدمة الأديب والمترجم يوسف نبيل للمجموعة القصصية "سلاح الفرسان" للأديب الروسي إسحاق بابل.





1631041477212.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى