أمل الكردفاني - تأثيرات الليبرالية على القانون الجنائي والسياسة الدولية

لقد كان مثيراً للسخرية أن يقوم برنامج الأغذية العالمي بتوزيع قطع بسكويت على تلاميذ المدارس في دارفور لمكافحة الجوع. وقد شننت هجوما على صفحتهم ب(لينكدن) باعتبار ذلك استخفافاً بآلام البشر، ولكننا كل يوم نرى مزيداً من استخفاف تلك المنظمات الفاسدة مما يجعل مهاجمتها بلا معنى، وآخر تلك المهازل دفع مبلغ خمسة دولار شهريا للفقراء في السودان.
نعم هذا استخفاف بشعوبنا الأفريقية، فالغرب ينظر لنا كقرود بلا موز. غير أن ذلك ليس كل شيء. لقد تحدثت طويلاً -من قبل- عن وهم صندوق النقد والبنك الدوليين، وأكدت بأن العالم ليس ديوان زكاة كما يتصور الشعب السوداني، فالخواجات لا ينفقون أموال دافعي الضرائب على شعوب أخرى يرونها كسولة وتافهة، كما صرح ترمب (الصادق دائماً مع نفسه)، وأسماهم بالوعات أفريقيا.
نحن كبالوعات علينا أن نفهم التحولات التي انتظمت العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر والتي بلغت شأوها بانهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن العشرين. فالعالم أصبح يحسب كل حركاته وسكناته بحسابات الأرباح والخسائر. حتى على مستوى مكافحة الإرهاب والجريمة حدثت تحولات عظمى في ما يسمى بعلم الإجرام الإداري administrative criminology، فقط لتجاوز النزعة الإجتماعية في المملكة المتحدة والتحول البراغماتي الذي قاده المحافظون في بريطانيا وأمريكا كما تقول ساندرا واكليت في كتابها (فهم علم الإجرام "الجدل النظري المعاصر" ٢٠٠٧). إذ تحولت فلسفة مكافحة الجريمة من مكافحة أسبابها كالفقر ونقص التعليم، إلى فلسفة (يمكنني أن أطلق عليها فلسفة الحصون). وذلك بمكافحة فرص الجاني في اقتراف الجريمة. لتظهر علوم أخرى مساندة مثل علم التصميم البيئي environmental design على المستوى الجنائي. ليتم تصميم مدن آمنة (حصينة). قبل قليل وجدت على الفيس فيديو تشييد العاصمة الإدارية الجديدة في مصر والذي خاطبه الرئيس المصري مشيراً إلى أنه قد تم تصميم العاصمة لتكون آمنة (تطبيق عملي للتوجهات الليبرالية العالمية). حيث تتخلى الدولة عن دورها الاجتماعي في مكافحة الفقر والأمية، لتؤدي فقط دوراً حراسياً. يمكننا أن نفهم أن العالم تغير، وخروج أمريكا من أفغانستان مجرد تدشين لهذا التغير. الآباء الليبراليون الأوائل قالوا -كما أشرت قبل سنوات- بأنك إذا وجدت سكراناً نائماً في (بالوعة) فاتركه نائماً لأن هذا هو أنسب مكان له. يمكننا أن نرى ذات استخدام كلمة (بالوعة أو بلاعة) في كلمات ترامب (بالوعات أفريقيا)، وقد أوضح ترامب ذلك قائلاً: إنهم قالوا سنخوض الحرب لتحريرهم، لماذا نحررهم؟ إذا كانوا لا يريدون ذلك؟ نحن لسنا مسؤولين عنهم.
لكن لماذا كل هذه التحولات العظيمة، والتي قد يرى بعض الإنسانيين والأخلاقيين بأنها تقود البشرية إلى عالم رواية آلة الزمن (حيث أشخاص ناعمون فوق الأرض ووحوش غليظون تحت الأرض)؟
هناك مسألة مهمة ساعدت على تلك التغييرات العظيمة، وهي تحول العلوم الإنسانية التقليدية إلى علوم تسير كلها في إتجاه السيطرة على الشعوب وخاصة الطبقات الفقيرة وهي الغالبة في العالم. لقد تطورت علوم كعلم نفس الجماهير وعلم العمليات النفسية ونظريات الضبط الاجتماعي وعلم الاجتماع والقانون وغيرها متكاملة لخلق دول مسيطر عليها من قلة رأسمالية غنية تملك كل شيء وأغلبية خادمة لرأس المال ولكنها لا تملك ولا ينبغي لها أن تملك أي شيء.
إن الفقر (وفق الرؤية الليبرالية) ليس شيئا بشعاً، بل هو أحد أهم أدوات التطور الإقتصادي، إذ يغذي الفقر والجهل المؤسسات الصناعية بالأيدي العاملة الرخيصة، والمستهلكين العميان. وأفضل مثال على ذلك هو دول الخليج التي اغتنت بحيث لم يعد المواطن الخليجي راغباً في القيام بأعمال متدنية، لقد احتاجت دول الخليج حينها لاستيراد فقراء من أفريقيا وآسيا للقيام بتلك الأعمال. لذلك فهناك حاجة عالمية للفقر، وليس مطلوباً من برنامج الغذاء منح أطفال المدارس غذاءً حقيقياً بل مجرد قطع من البسكويت أو يتم دفع خمس دولارات ليس لمكافحة الفقر بل لبقاء الفقراء أحياء يتنفسون ويعملون، أو ترفض وزيرة التعليم دراسة الحاصلين على نتائج عالية مجاناً في الجامعات بل وترفع أسعار الجامعات الخاصة لتتأكد من أن التعليم سيحتكره أبناء النخبة. فالأساس هو الإبقاء على الفقراء أحياء من أجل تشغيل المؤسسات الصناعية.
كان أول سوداني التقط تلك الفكرة هو عبد الرحمن المهدي، والذي رفض تعليم فقراء دائرة المهدي، وقال لأحد أبنائه الذي سأله عن سبب ذلك: والحيشتغل ليك منو؟
فالمهدي كان يعرف قيمة الفقر والأمية والجهل لتطوير أعماله كرجل أعمال. ربما لو كان يعيش في أمريكا لتفوق على كبار الرأسماليين الأمريكان.
إذاً؛ فالعالم الجديد ليس هو عالم التغيير، بل هو عالم الإبقاء على العالم السفلي تحت الأرض والعالم العلوي فوق الأرض، مع تدجين مليارات الفقراء بحيث يقبلون بخضوعهم من خلال دموقراطيات مسيطر عليها وهم يصدقون بأنهم أحرار.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى