يِحكى أنّ في مدينةٍ هادئةٍ في قَلبِ الصَّعيدِ النَّائي ، جَلَسَ ” الخواجة ماركو” أمام دكانهِ الكبير ، يتأمّل الشُّعاع الباقي لهُ من شمس حياته ، حينَ لم يتبق له من متع دُنياه ؛ إلّا هذه الجلسة ، وابنته الفاتنة ” ماريّا ” قَدِمَ صاحبنا المدينة شابا مثريا واسع الثراء ، أقدمَ على تجارتهِ بنهمٍ ، فمالأهُ القدر ، وابتسمَ لهُ ثغر سعده، سنينَ عمّرها طوى خلالها رداءٍ شبابه ، حسن السمعة نظيف اليد طيّب المعشر ، وفِي زقاقٍ مُتهالك ، وعلى مقربةٍ منه عَاشَ ” يوسف ” فتى قليل الحَول والحيلة ، يعولُ أمّا فانية ، دأبه السّعي في طلبِ الحلال ، ما إن تأخذَ الشّمس تنفض بيدها غبار الظّلام ، حتّى يجد طريقه إلى المحطّةِ ، فوق رصيفها يستقبلَ بضائِع زبائنه في طرودها ليوزعها ، لم يتبق لهُ من دنياه غيرَ مهنته ، وقلوب أهل المعروف التي امتدت لتكفلهُ صغيرا حتّى شَبَّ ، فاندفع يكسب لقمته من كدّ ساعده ، يوما بعد يوم يكبر أمله ، ويتشجّع فؤاده ، لا حديث لأصحاب الدّكاكين سوى حديث همته ، وبره بأمهِ ، ذَاكَ النّور الذي أضاء زوايا قلبه السّادر ، ما إن يرجع مع مسائهِ متهدّم القوى ، حتى تتفلّت نظرة من الوالدة فتبدو دامعة ، قريحة القلب ، تُكابدُ ذكرى رحيل والده الذي تركهما في هذا المُعتَرك المُوحِش ، سرعان ما تعود لتستقر على شفتيها ابتسامة مهتزّة، تبعث في نفسها السلوى ، وقد أصَبحَ فتاها رجلا صلبا ، مرّت الأيام ثقيلة ، كبر ” يوسف ” وكبرت أماني الطفولة ، صحت عزيمته ، فبدا شابا منضور الشّباب ، انزاحت عنه سُحب اليأس ، فاستطاعَ بعد لأيٍ أن يكتمَ في صدرهِ أنات حزنه ، في الشارع وجدَ لهُ مكانا افترشَ الرّصيف قُبالة دكان “الخواجة” ، الذي أوسعَ له حينَ أكبرَ دأبه ونشاطه ، لقد فُتِنَ بهِ من حيث لا يدري ، بعدما لمسَ فيه شبابه الذاهب ، يُطاَلعه في حركتهِ بين زبائنه ؛ فيثير النَّسيم الرّخي في رأسهِ ذكرياته البعيدة ، سريعا نزل من نفسه منزلة عالية ، اطمأن إليهِ فاستخلصه لنفسه ، كلّفه أداء مهام خاصة فوجدَ الحماسة تتفتّح في روحه، لم تكن ” ماريّا ” ببعيد عما يجري ، فمنذ وجدَ ” يوسف ” مكانا له في قلبِ والدها ، ولا حديثَ لهما إلّا حديث أمانته وطُهر قلبه ، حتى لم يتبق في الصّبرِ منزع كي تتعرف إلى صاحبها ، لم يجد أمينا يحمل حاجات بيته إلا فتاه الجديد ، يوما بعد يوما وجدت الفتاة منه ما أذهلها عن نفسها ، قالت لوالدها يوما في انشراحٍ : “هنيئا لكَ فتاك الجديد ، إنّني لأعجب منه ، أوكلما حادثته زوى ببصره بعيدا ، وأجَابَ بصوتٍ خافت يكاد يبتلعه الخجل ، رغم أنّ صوته ليصبّ الحياة في الصّخرِ الصَّلد” ، تَابعَ الأب حديث ابنته بنشوةٍ عارمةٍ وارتياح ،بدت وكأنّما يراها لأول مرةٍ ، فكلّما تحدّثت عن صاحبهِ ؛ أشرق وجهها إشراق الخمر في كأسها ، والتمعت عيناها ببريقٍ أخاذٍ لم يعهده ، على ما يبدو أنّ كأس الودّ بين الخليلينِ قد صَفت ، ومع تمشي الأيام مشى حبها في قلبهِ مشي الموت في الحياة ، ووقع حبه في قلبها وقع النّدى فوق تيجان الزّهر ، راقبَ ” الخواجة ” حُبهما الطاهر في صمتٍ مسرورا ، يرفع في كُلّ آنٍ يده ضارعا للقديرِ ؛ أن يجمع بينهما في دارٍ هناءٍ وسعادة ، تزداد أمانيه يوما بعدَ يومٍ ، حتى وهو يلحظ انتكاس صحته ، واعتلال بدنه ، فالمسكين يهدم السّعال أركان صدرهِ هدما ، يتبدّى وجهه وكأنّما نفضَ عليهِ الموت غباره ، لم يجد بدّ من أن يحمل نفسه على الأمرِ قبل فوات الأوان ، وفِي أمسيةٍ دافئةٍ ، وبعد أن مرّت هدأة من الليلِ جاهد طويلا كي يفاتح فتاه ، نظَر إليه وقد تمشّت الصُّفرة في وجهه الهزيل ، اخرج من درج مكتبه ورقة وطلب منه قراءتها ، وقبلَ أن يجيبه ، قال وهو ينفث دخان سيجارته مُتَوجِّعا : “لا أجد سواك ضامنا لابنتي حريصا عليها بعد مماتي “، تدفقت الكلمات من بينَ شفتيهِ في غيرِ رويةٍ ، لم يترك للشَّابِ فرصةً كي يرد ، صَمتَ مذهولا يُقَلّب صَكّ شراكتهما ، وبعد أسبوع عُقِدَ قران ” يوسف ” و” ماريا ” في احتفالٍ بسيط ضمّ أصدقائهما من أهلِ الحي ، أخيرا استراحَ ” الخواجة ” ومسحَ عن نفسه ضيقها ، الآن يستطيع الرّحيل في سلام ، تعاقبت الأيام على المدينة ونجم ” يوسف ” يتلألأ أكثر فأكثر ، لتشهد ميلاد أشهر تجارها ، الذي لاتزال محاله عامرة تُورّث في كُلّ شارع منها ..