حدوتة واقعية مصرية..
حدثت فى قريتنا
منذ ما يقرب من خمسين سنة
كان حر بوونه ساعة الظهيرة، والطريق بين الحقول يبدو خاليا صامتا حتی من شقشقة العصافير، والأرض تتنفس أمواجا من السراب يحسبه الظمان ماء، عندما لاح من بعيد شبح امرأة فارعة الطول تترنح إعياء، تحمل فوق رأسها مشنة ضخمة وبطنها قد تدلى حتى لامس ركبتيها يستره جلبابها الفضفاض الطويل، والمرأة فيما يبدو حُبلى تعانى المخاض، فقد تقلصت عضلات وجهها وتشنجت أصابعها التي تحمل المشنة، وتصببت بحوراً حتى التصق الثوب بصدرها وظهرها.
وما كادت تصل إلى ظل شجرة منحنية على قناة الماء، حتى خارت قواها وجلست القرفصاء وهى تلهث كالذبيحة. كان الأمر يبدو فى غاية الصعوبة، فهى لا تستطيع أن تحط المشنة المدسة بالعنب وقد نشرت عليها جانباً من طرحتها، ولا تستطيع أن تميل رأسها فتقلبها أرضا فهى رأس مالها وقد تحملت السير على قدميها منذ الصباح الباكر إلى المزارع المجاورة للبلدة وهى تحس بوجع فأمثالها لا يعرفون النوم فى الفراش حتى يجئ المولود السعيد.
نهرت الكلاب الراقدة فى الطين تحت الشجرة خوفاً على مولودها لاذوا بالفرار، انزلق شئ ما من رحمها واصدر صوتاً ضعيفاً، فشعرت بقواها تخور. وفى هذه اللحظة سمعت على الطريق خطوات دابة فتعلقت بالأمل كالغريق.
صاحت بكل ما تبقى فيها من عزم ( أنت يا خويا يالى ماشى.. يا جدع ياللى ماشى، إيدك معايا الله يسترك). نزل الرجل عن حماره واقترب فى حذر.. وقال مندهشاً، مين؟ سيدة ؟!!. عرفته المرأة فقالت فى وهن : " حططني يا عبد السميع. أسرع الرجل يحط عن رأسها المشنة ، وسمع همهمة المولود الضعيف فقال: " لا حول ولا قوة إلا بالله!! خذي الشوال ده لُفِّى فيه "حتة اللحمة" " أخذت الشوال وقالت فى توسل: " دور وشك الناحية الثانية وناولني حتة بوص. أسرع الرجل فقطع قطعة بوص من حرف الترعة وناولها إياها، فشفت طرفها بأسانها وقطعت الحبل السرى ثم تخلصت من المشيمة. ثم لفت المولود فى الشوال، ولاحظت أنه ذكر ووضعته على صدرها، وحمل الرجل المِشنة بصعوبة بالغة ووضعها على ظهر الحمار قائلاً: " يا خلق هوه انتِ مفترية يا ولية!! شايلة اللى فى بطنك وشايلة الشيلة دى وماشيه فى القيالة اللى يربطوا القرد فيها يقطع!! دا ربنا ساقنى ليكِ. اركبى ورا المشنة قاد الرجل الدابة فى حذر حتى وضعت "سيدة" الشوال فوق المشنة، وسندتها بذراعيها حتى أوصلها إلى باب دارها. عندما أحست أنها وصلت لبر الأمان، صاحت بصوت مبحوح " الحقونى يالى فى الدار". أطلت أمها.. وهى سيدة ربعة فى الطول، محنية الأكتاف، شديدة السمَار.. ولكنها تبدو قوية، فتعاونت مع الرجل حتى أنزل العنب وأوصلتها إلى الباب.. ودعت للرجل بعد أفاض فى شرح الموقف الصعب.. ناولته القلة يرطب حلقهُ، وأعطته صرَّة بها بلح وعنب. يأبى الرجل قائلاً: "بتشمينى يا أَمّ مريم؟!! أنا معملتش غير الواجب". قالت المرأة لا يا أخويا اسم الله عليك.. ده انت جدع وشهم دي حلاوة المولود.. إنت لفتوه فى شوال؟! والنبى لنسميه شوال". ارتمت المسكينة على الحصيرة وراحت كما قالت أمها "رأس فى رأس". أرسلت مريم إلى الخالة زنوبة الداية فقامت بما يلزم للأم.. وعندما فتحت الشوال لتلقى نظرة على سرة المولود، وتلبسة الجلباب الذى فصلته له أمه من ملابسها القديمة، شهقت قائلة: " بسم الله الحفيظ!! ". سألتها الخالة مريم: إيه إيه يا زنوبة؟ ". أجابت المرأة: " ولا حاجة يا أختى ولا حاجة.. هو حد يقدر يخلق ضافر!! " حملقت فيه المرأتان فى ذهول. كان المولود مسخا غريباً.. رأس مستطيل وصغير حدا، وعيناه نقطتان جاحظتان، وشفته متدلية وأطرافه أطول من المعتاد، ولا يبكى، ولكن يموء بصوت رفيع غريب، تحسرت الجدة وهى تلفة وتحمله حتى ترضعه ماء بسكر وهى لا تكف عن قول " سبحانك يارب غلبانة يا بنتى أخرة صبرك يا سيدة.. أفاقت سيدة من الحمى بعد ثلاثة أيام سألت عن طفلها وضعته أمها فى حجرها كى ترضعه وهى تقول معلش يابنتى كل اللى يجيبه ربنا حلو.. بختك قليل يا سيدة.
احتضنت سيدة فلذتها ونظرت إليه طويلا بعيون تسكب الدمع، وألقمته ثديها وهى تقول: الحمد لله.. والنبى ما حيبقى حد زيه أبداً.. بكرة تشوفى يا مَّه.
كان أول طفل يتنفس الحياة لسيدة. فهى عادة تفقد جنينها بسبب حمل الأثقال اتى تحملها والأسفار التى تقطعها على قدميها فى البر والبحر، سعيا وراء لقمة العيش. توفى زوجها وهي تحمل هذا الطفل فى بطنها، فلم يكن لها فرصة أخرى للإنجاب.
كانت "سيدة " أشهر تاجرة فاكهة فى البلد والبلاد المجاورة، وهبها الله طولا فارغا وقوة خارقة وصوتا جهوريا جميلا تنادي به على بضاعتها فى طرف البلد الشرقى فيسمعه من فى الغرب.. تبتدع الكلمات التى تصف بها الفاكهة، فهى تقول فى نغم كالأغانى: "زى بيض اليمام يا عنب.. يا جواهر بالمال يا طايب يا عنب".. وتنادى على البلد: "طاب واستوى وطلب الأكال يا بلح يا أبو عسلة يا بلح".
تسرح ببضاعتها وتدخل بيوت الموسرين بلا تكلف.. وتترك أمها أمام الفرشة وفى حجرها الطفل المسكين تلتف النساء حولها فتترك لهم المشنة، ينتقوا ما يعجبهن ثم تزن لهن". إدينى رطل يا خالتى "سيدة".. أوزنى لى رطلين جوافة.. يا شيخة اتوصى.. ويعيطها الأطفال قروشهم المعدودة، فتعطيهم ما يحبونه وأكثر.. تضاحك الجميع وقد يطلبون منها أحيانا أن ترفع عقيرتها بالنداء العذب فتفعل وهى سعيدة.
لم يكن "شوال" ينمو ككل الأطفال.. فقد كان دائما معتل الصحة، فتأخر ظهور أسنانه وتأخر فى المشي، وظل يزحف على كوعيه وركبتيه حتى بلغ الثالثة من عمره، وعندما بلغ الخامسة بدأ يقف ويستند بيديه على الحائط ويمشى ويخرج إلى الشارع، فيضحك منه العِيال ويشاكسونه ويقذفونه بالطوب: قائلين:" العبيط أهه.." لم يكن يبكى، كان ينظر إليهم باسماً.. لا يدرك ما يقولونه.. ويرتفع صوت الجدة مريم بالشتائم والدعاء عليهم.. وعندما تعود سيدة من سرحتها تحكى لها أمها ما حدث، فتحتضن ولدها، وتسمح له وجهه وتطعمه، وتذهب إلى أهاليهم تشكوهم ودموعها تسيل "يا سيدنا دا حتة العيل اللى طلعت بيه من الدنيا، فيطيب الناس خاطرها" وينهروا عيالهم.
ماتت الجدة فجأة وهى جالسة أمام الفرشة، وتركت ابنتها وحيدة لا تعرف كيف ستترك ولدها للصبيان يضربونه ويضايقونه!! ، فبدأتْ تعطيه عصا يجرى بها وراء من يضايقه. كان منظره يثير الرثاء والضحك وهو يهبط بساق ويطلع بالأخرى.. وقدماه مفرطحتان تصطدم إحداهما بالأخرى ورأسه الصغير ملتصق الأذنين، وشقته السفلى غليظة متدلية.. يخرج الكلمات بصعوبة كبيرة ويسيل لعابه على صدره. لم يكن الناس يرحمون ضعفه أو يحترمون خلقته التي لا ذنبَ له فيها.. فكان الكبار قبل الصغار يلاحقونه بالسخرية والضحك.
وكان لابد أن تتركه أمه لبعض الوقت أمام فرشه الفاكهة، وتذهب إلى الأسواق تبتاع ما تريد وهى توصيه أن يدافع عن نفسه وعن البضاعة، وتوصى جارتها "عزيزة " عليه وتضع أمامه الميزان وعلبة فارغة وتقول لها: اللى ياخد حاجة يا اختى يحط فلوسها فى العلبة وكل واحد وذمته.
عادت سيدة فى أحد الأيام تجر قدميها من التعب، فهرول إليها بعض الصبيان فى أول الشارع: يا خالتى سيدة.. الحقى.. العيال ضربوا " شوال" بالطوبة فى عينه.. ألقت سيدة ما على رأسها فانفرط على الأرض، وأسرعت وهى تضرب وجهها وصدرها، عملوها. ضنايا!! يلهو بالي يا ابنى..
وجدت المسكين ملقى على الأرض وعزيزة تغسل له وجهه، والدماء تناثرت على جلبابه.. وجانب وجهه أزرق وعينه مقفولة والدماء تسيل منها، حملته صارخة مولولة، وأسرعت فركبت عربة نقل صادفتها وذهبت إلى المستشفى الأميري فى المركز، فقد كان الأطباء يعرفونها، فطالما حملت أطايب الفاكهة إلى منازلهم، أدلخوا الفتى حجرة العمليات، ومر الوقت متثاقلا كئيبا، وعندما خرج الطبيب ربت على كتفها قائلا إنتِ عارفة ربنا يا "سيدة".. ده قضاء وقدر.. الحمد لله إن ربنا نجا له العين الثانية.. العين دي ضاعت خلاص.
بكت المسكينة بكاء مراً وهي جالسة على الأرض تشتكي إلى الله، وترثي حال ولدها الغلبان. حجزوا الصبى ثلاثة أيام تحت العلاج والمتابعة وأمه تنام على حصير بجوار فراشه لا يشكو، ولا يتوجع ولا يدرك عظم الخطب الذى ألم به. عادت الأم تسند ولدها على صدرها وقد وضعوا له الضمادات على عينه، وكلما مرت على الناس قالوا لها: " ألف سلامة على " شوال" يا "سيدة". لم تكن ترد، عقد الغضب لسانها، أدخلته الدار ووضعته فى فراشه وأطعمته.. ثم خرجت إلى الشارع، لم يسمعوا صوتها الجهوري منذ سنوات ولكنها فى ذلك اليوم استعادته، أخذت تدعو من كل قلبها وبكل حرقة على من فعل ذلك بفلذتها وضناها، والناس يقفون من بعيد ينظرون وقد اقشعرت أبدانهم وهى تقول: إلهى وانت جاهى يحرق قلب أمك عليك ياللى عملت كده فى ابنى الغلبان، يا أهل البلد مستكترين عليا حتة عيل يتيم عمره ما أذى حد!! لكن ان شاء الله حاخليه سيد الناس برضه ـ كانت إنسانة بسيطة ـ ولكن ثقتها فى ربنا بلا حدود. لم يكن المسكين يشكو شيئا أو يطلب شيئا، لم يعرف هذا القلب البريئ معنى الكراهية، ولم تتلوث هذه النفس البيضاء بالمطالب والشهوات، ولم تكف أمه عن حبه والحنو عليه وهو فى عينيها أجمل الناس، كانت تغلق بابها عليها بعد العشاء وتوقد لمبة الجاز، وتحضر الماء الساخن والصابون وتسغل له رأسه وجسده وتلبسه جلبابا نظيفا يتناولان عشاءهما وتأخذه في حضنها وتنام شاكرة لربها متوسلة إليه أن يحفظه لها ويبارك فيه ويبعد عنه ولاد الحرام، ويطعمها منه خيراً.
بدأت قوة "سيدة" تنهار كما ينهار الجبل تحت طرقات المعاول، لم يعد أحد يسمع صوتَها ولا أغانيها المميزة التى تنادي بها على الفاكهة، ولم تعد الطرقات تراها صيفا وشتاء تسير أميالا تحمل بضاعتها وتشارك فى المزادات التي تعقد فى الحدائق الكبرى، فالعناية بولدها والذود عنه، والحزن من أجله وإصرارها على تعليمه كي يكون رجلا يدافع عن نفسه ويساعدها فى تجارتها.. كل ذلك أصابها بالأمراض، وأضعف عافيتها، ولكنها كانت تناضل فى إصرار وهى تقول لنفسها : "دا ملوش بعد ربنا غيرى".
كبر الفتى وخط شنبه وأصبح رجلا يجلس أمام الدار يذود عن الفرشة وعن التجارة.. وقد تعود الناس على رؤيته جالسا لا يغادر مكانه حتى تعود أمه محملة برزقها.
فلم يعد أحد يسخر منه أو يشاكسه رحمة بأمه المسكينة التى طالما أطعمتهم أطايب الفاكهة وأعطت أطفالهم بلا مقابل.. وأصبح من المألوف أن تسمع أحدهم يقول له: عواف يا "شوال".. أزيك النهارده.. عاوز حاجة يا خويا؟! هدأت العاصفة ولم يعد منظره غريبا عليهم.. حتى تناقلت البيوت خبرا أغرب من الخيال.
فى أحد أيام شهر شعبان. خبر كما قالت "عزيزة" جارة "سيدة" لصديقتها أم إبراهيم "يساوى مليون جنيه".
- خير يا عزيزة!!
- " شوال" ابن سيدة!!
- مالُه؟ جرى له حاجة؟
- أمه خطبت له البنت "نوارة" بنت عبده السيد..
- خطبت لمين؟!
- قولي كلام غير ده!! مين حتتجوز القرد ده؟!! دي "نواره" وهى نوارة.. عيون خضرا زي البرسيم وشعر زي الذهب وجسم زي الغزالة.. يالهوي!!
كما تسري النار فى الهشيم.. سرى الخبر فى البلدة كلها، وخرجت النسوة يتحسسن ويتأكدن.. فهو خبر ولا كل خبر.
كانت "نوارة" بنت عبده السيد عروسة زينة، نشأت فى أسرة فقيرة تكافح من أجل لقمة العيش ، الأب يذهب إلى الدور مع الأنفار ويغيب بالشهر، والأم تملأ الماء على رأسها فى المنازل، والأخوة الذكور يعملون فى حقول الموسرين، ولم تجد نوارة طريقاً للرزق غير العمل فى بيت العمدة تتعرض كل يوم لمعاكسات أولاده الشباب، عاتبت "عزيزة" جارتها "سيدة" قائلة:
بقى نبقى جيران وأخوات يا "سيدة" وأعرف من بره خبر خطوبة " شوال" على "نوارة"؟. قالت "سيدة" والفرحة أكبر من احتمالها وعيناها تفيض بالدمع ماكنتش متأكدة إنهم حايوافقوا.. دا ربنا فتح لي طاقة القدر وقال اطلبى يا سيدة وأنا أعطيك.. النهاردة قراية الفاتحة يا عزيزة.. فاتحة ابني وحبيبى.
أصاب الناس هلعٌ شديد و" سيدة " تدعوهم لقراءة الفاتحة.. دارت الأحاديث: هو الراجل عبد السيد جرالُه حاجة فى نافوخُه؟! يجوز البنت اللي زي القمر للأهطل ده؟!! ويرد الآخر.. " لا حول ولا قوة إلا بالله تلاقي البنت مغمومة يا ولداه!! "
ما هو الفقر وحش.. تلاقي أبوها طمعان فى تحوشية العمر لسيدة..
ما هية دفيانة وصاحبة قرش
وتُعلق إحدى العجائز: " قال يا واخد القرد على ماله، يروح المال ويفضل القرد على حالُه وتعلق إحدى الصبايا.. اخص.. يا خرابي حايتقفل عليها وعليه باب إزاى؟!! دا أنا لو مطرحها كنت أموت نفسي.
دعت سيدة الناس، وفرشت أمام الدار وعلقت الكلوبات ووزعت الشربات.. قرأ عم شوال الفاتحة مع أبو العروسة وخرج العريس فى جلباب أزرق جديد، وطاقية صوف بيضاء ومداس يحاول جاهداً أن يبقيه فى أطراف أصابعه. كان الكل ينظر إليه متفحصاً متعجباً وكأنهم يرونه لأول مرة، ويمدون يديهم للسلام : "مبروك يا عريس" وهم يكتمون الضحك. وخرجت الأم إلى الناس وقالت بعنفوان ما تبقى من صوتها اسمعوا يا أهل البلد من النهاردة ابني اسمه محمود.. أمي الله يرحمها لما شافته ملفوف بالشوال بعد ما اتولد، حلفت لتسميه شوال علشان يعيش، لكن أنا كتبته فى الصحة محمود وادي شهادة الميلاد، خصيمه النبي من النهاردة اللي يقول له يا شوال. كانت مفاجأة أخرى للناس حاولوا استيعابها..
أخذت سيدة نوارة فى اليوم التالي وأمها وأقاربها وذهبوا إلى البندر لشراء الشبكة كانت نوارة صامتة سارحة لا يبدو على وجهها الجميل أي تعبير، ترد على أسئلة صديقاتها وتعليقات الناس قائلة: أنا راضية بنصيبى.. خلاص بقى.. هو يعنى ماله؟ ده جدع طيب وعمره ما أذى حد، تركتها سيدة تنتقى ما تحب من ذهب.. كردان وحلق وخاتم وغويشة.. وهى تقول لها: " نقي اللي يعجبك يا عروسة الغالى."
فى عيد الفطر انتهت "سيدة " من دهان المنزل باللون الأخضر، واشترت سريراً جديداً، وجددت المراتب والألحفة ومخدات برأس ستان أحمر، وكنبتين استامبولى وحصراً جديدة، وملابس جديدة للعروسين، وهى تملأ الدنيا رقصاً وزغاريد.
كان محمود يبدو مبتسماً فرحاً، يتلقى التهاني المشوبة بالتهكم من أهل البلد، يصفق ويرقص وهو يقول: "أنا بحب عروستي نوارة . نوارة حلوة قوي. ويحكي للناس عن كل ما اشترته أمه من مفروشات جديدة وملابس فرحاً مغتبطا.
فى يوم الدخلة لبست نوارة الثوب الساتان البمبي والطرحة البيضاء والشبشب الأحمر، فبدت كالبدر المنور، تحسر الناس فى داخل نفوسهم يقتلهم الغيظ والكمد، وكل شاب يتمناها لنفسه، ولكنهم يظهرون الفرحة قائلين: "مبروك يا أم العريس.." "مبروك يا محمود.. ". عقبال البكاري، فيداري أحدهم وجهه ويطق بالضحك من هذه العبارة. أحضرت الأم عربة كارو حملت عليها الشوار ولفت البلد كلها وسط الطبل والزغاريد. وطبخت للناس إوزتين وست دجاجات، وشكارة مكرونة ورقصت فى الشارع بالعصا وهى تقول: "هو أنا عندي كام محمود يا ناس.. سيبوني أفرح.." وفى آخر الليل، دخلت الدار مع ولدها وعروسه، وعندما لمحت القلق على وجه أم نوارة قالت لها: اطمئنى يا أم الغالية، دي فى عينية الاتنين، روحي يا ختي نامي، ثم أغلقت الباب.. وساد صمت!! لم يعرف أحد ولن يعرف ماذا تم فى هذه الليلة والليالى التالية بين محمود وعروسه، ولا ماذا كان دور الأم!!
توافد الأهل فى الصباح بفطير الصباحية وكلهم فضول ينظرون ويتسمعون، فلا يجدون إلا الابتسامة وكلمة الحمد لله عقبال عندكم دخلت أم نوارة فاحتضنت ابنتها ودار همس طويل.. وخرجت الأم راضية.
مضت الأيام وبدأت "نوارة" تجلس أمام الفرشة حتى تعود حماتها من الأسواق. يجلس بجوارها محمود وهو ممسك بالعصا ويبدو سعيدا، وأجبر الصمت والابتسام الذى تبدو فيه نواره الناس على الانصراف عنها والانشغال بأمورهم.
فى أحد الليالي بعد أن انتهت من أعمال الدار وعادت الحماة وباعت ما شاء الله لها أن تبيع، جلسوا حول الطبلية لتناول العشاء.. لاحظت سيدة أن نوارة ذابلة.. لا تمد يدها للطعام ولونها شاحب وتشكو من التعب، ألحت عليها فى السؤال: مالك يا بنتي؟ أنا أمك ياختي، يه حاجة واجعاكي؟ أوديكى للحكيم؟
قامت نوارة منتفضة وأزاحت الطبلية وقالت: أنا ريحة أشوف أمي ـ يابنتي مالك؟.. يوه صدري مكتوم
وعاوزة أشوف أمي ـ روحي يابنتى بس ما تعوقيش.
استقبلت أم نوارة ابنتها فى حضنها قائلة: وحشاني يا بنت كدة ما تسأليش عليا!! ازيك يا ضنايا
- مضايقة يا امه..
- حماتك زعلتك؟
- لا يا أمه.. ديه حنينة معايا قوي..
- جوزك جراله حاجة.
- يا امه استنى عليا اشم نفسى..
- طيب يا اختي.. اقعدي..
- أنا حامل يا امه
أسندت المرأة ظهرها للحائط وفغرت فاها وهى لا تصدق
- صحيح يا نوارة؟!
- هو ده فيه هزار يا امه..
- أزغرط يا ولاد!! ألف مبروك يا حبيبتى..
- يا أمه أنا خايفة ومرعوبة..
- ليه يا نواره؟!!
- ليه؟! ما أنت عارفه ليه! العيل يقوم يطلع لأبوه.. كنت اعمل ايه؟
وأخذت المرأة تطيب خاطرها وتطمئنها.. وتحكي لها عن حكايات مماثلة حدثت وقالت لها: "يا عبيطة.. كل حاجة كدة حاتبقى بتاعتك انت وعيالك.. حماتك دفيانة.. الدار والتجارة والفلوس أوعى لنفسك يا خايبة.
- يا امه أنا مايهمنيش كل ده.. أنا عايزة عيالي يطلعوا سلام.
عندما ظهرت أعراض الحمل على نواره.. بكت سيدة من كل قلبها وسجدت لله.. ونذرت نذرا: يوم ما تقومى بالسلامة يا نوارة حادبح خروف.. واعمل أكل للغلابة.. وأقري قرآن.
تهامس أهل البلد.. وخاضوا فى عرض نوارة
قال أحدهم:
- يا عم ده واد أهطل.. هو ده يخلف!!
- ربنا يستر ولايانا.. البت فيها الطمع..
- ما هى حماتها بتبعتها الأسواق.. حد عارف..
أما أكثرهم خشية لله فيقول:
- حرام عليكم.. إن بعض الظن إثم.. اتقوا الله.. يقول ذلك ونفسه تخالجها الظنون..
لم يكن الهمس ليظل خافيا طويلا.. فالإشاعة لها ألف قد تمشي به.. ومليون أذن تسمع بها.. ومليون لسان ينقلها.
بكت نوارة وأمها وحماتها بكاءً حاراً مراً. وكانت سيدة تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.. هم الناس مستكترين علينا الفرحة دايما ليه؟ إنصف المظلوم يارب.
ولكنها كعادتها فى الفترة الأخيرة، كانت قد استأسدت فى الدفاع عن مملكتها الصغيرة.. وفكرت طويلا. جلست طوال الليل قد وضعت خدها على كفها، وعندما طلع الصباح نادت من حولها، يا أهل البلد.. عاوزاكم كلكم.. تعالوا شوفوا لما ربنا ينصف المظلوم.
تجمع الخلق قبل الخروج إلى أعمالهم أمام دار سيدة يتساءلون.. عاوزة إيه؟ في إيه يا سيدة؟!! كانت قد أرسلت إلى عم عبد المعطي حلاق الصحة ومستشار الطب، وأمين أسرار العائلات، وقالت له: ادخل يا عم عبد المعطي اكشف على الوله.. البلد بتاكل فى عرضنا.. منهم لله.. أدخل يا عبد المعطي.. ادخل.. دخل الرجل وغاب لبعض الوقت.. والناس قلقة متعجبة.. فكل شئ فى حياة هذه المرأة كان يدعو للعجب!!
خرج الرجل أخيراً قائلا: ما شاء الله.. الواد صاغ سليم.. كل واحد يحط لسانه فى بقه.. بلد تخاف ما تختشيش...
مضت شهور الحمل على نوارة كأنها دهر. كانت مشاعرها الداخلية كموج البحر.. تقبل فتسلم أمرها لله كما سلمته وهى ترضى بأقدارها وتتزوج شوال.. وتدبر فترى طفلها مسخا مشوها تقذفه العيال بالطوب ويسخرون منه وتقاسى معه كما قاست حماتها.
كانت الليالي ترى وسادتها وقد بللها الدمع وتجلس نهارها ساهمة صامتة تصطنع الابتسامة حتى لا يشمت فيها الناس.. وكانت تسأل نفسها.. طيب رضيت بالجوازة دي ليه؟!
هل هو الهرب من الفقر؟! أو طمعها فيما قالته أمها عن ثروة حماتها؟!
هل حقيقي صعب عليها وشافت قلبه أبيض؟! ولا هو النصيب؟! أما أم نوارة فكانت تنظر إلى ابنتها التى تشبه القمر وتتحسر فى داخلها قائلة: ظلمناك يا بنتى.. لكن نصيبك حانقول إيه؟ أما سيدة فكانت كعادتها مسلمة أمرها لله.. تعتنى بزوجة ابنها وتقول يارب.
أحست نوارة بآلام الوضع.. وأرسلت سيدة للخالة زنوبة الداية وامتلأت الدار بأم نوارة وقريباتها، ومحمود يجلس بجوار حماه على باب الدار بنفس القلب الأبيض والنفس المستسلمة.. ينتظر.
وعندما انتصف النهار صرخ المولود، فتعالت الزغاريد وخرجت سيدة فاحتضنت ابنها وهى تقول: مبروك يا أبو محمد.. ولد يا أبو نوارة زي الفل مبروك يا خوايا.. ألف حمد يارب.. قام محمود يرقص فى فرح طفولي.. أنا خلفت ولد.. نوارة مراتي جابت محمد..أنا بقيت أبو محمد.. أنا بقيت أبو محمد.. أمي قالت كدة.
وشاء الله سبحانه أن ينزل الطفل ومعه بصمة الشرف وبراءة نوارة.. فقد كانت أذناه ملتصقتين مثل أبيه.. مما جعل البلد جميعا يندمون ويستغفرون الله من ظنونهم وشكوكهم.
كان محمود يجلس أمام الفرشة وولده فى حجره حتى تنتهي أمه من شغل المنزل وتعود نوارة من السوق، وتتابع مجئ المواليد فرزقهم الله ثلاث بنات فى جمال أمهن.. لزمت سيدة فراشها وأقعدها المرض..
فكان الأطفال يتلفون حولها يخدمونها ويدفئون فراشها.. تحتضنهم وتملأ عينيها من جمالهم وتسعد بشقاوتهم.. تحكي لهم الحواديت، وتعطيهم المصروف وترقيهم.. كبرت نوارة وأنضجتها المسئولية الكبيرة التى تحملتها، فهى أم لجميع أفراد أسرتها.. رحلت "سيدة" قريرة العين بعد أن سلمت كل أسرارها لزوجة ابنها.. وأوصتها بزوجها الطيب خيراً.. أصبح محمود يجلس بجوار زوجته وأطفاله.. يواصلون مشوار الأم.. ونوارة سعيدة راضية تحنو عليه، وتقول لكل من حولها.. والنبي ما حد زيه.. قلبُه طيب وغلبان وهو أساس الخير ده كله.. "دار ربنا مع المنكسرين جابر.. "
حدثت فى قريتنا
منذ ما يقرب من خمسين سنة
كان حر بوونه ساعة الظهيرة، والطريق بين الحقول يبدو خاليا صامتا حتی من شقشقة العصافير، والأرض تتنفس أمواجا من السراب يحسبه الظمان ماء، عندما لاح من بعيد شبح امرأة فارعة الطول تترنح إعياء، تحمل فوق رأسها مشنة ضخمة وبطنها قد تدلى حتى لامس ركبتيها يستره جلبابها الفضفاض الطويل، والمرأة فيما يبدو حُبلى تعانى المخاض، فقد تقلصت عضلات وجهها وتشنجت أصابعها التي تحمل المشنة، وتصببت بحوراً حتى التصق الثوب بصدرها وظهرها.
وما كادت تصل إلى ظل شجرة منحنية على قناة الماء، حتى خارت قواها وجلست القرفصاء وهى تلهث كالذبيحة. كان الأمر يبدو فى غاية الصعوبة، فهى لا تستطيع أن تحط المشنة المدسة بالعنب وقد نشرت عليها جانباً من طرحتها، ولا تستطيع أن تميل رأسها فتقلبها أرضا فهى رأس مالها وقد تحملت السير على قدميها منذ الصباح الباكر إلى المزارع المجاورة للبلدة وهى تحس بوجع فأمثالها لا يعرفون النوم فى الفراش حتى يجئ المولود السعيد.
نهرت الكلاب الراقدة فى الطين تحت الشجرة خوفاً على مولودها لاذوا بالفرار، انزلق شئ ما من رحمها واصدر صوتاً ضعيفاً، فشعرت بقواها تخور. وفى هذه اللحظة سمعت على الطريق خطوات دابة فتعلقت بالأمل كالغريق.
صاحت بكل ما تبقى فيها من عزم ( أنت يا خويا يالى ماشى.. يا جدع ياللى ماشى، إيدك معايا الله يسترك). نزل الرجل عن حماره واقترب فى حذر.. وقال مندهشاً، مين؟ سيدة ؟!!. عرفته المرأة فقالت فى وهن : " حططني يا عبد السميع. أسرع الرجل يحط عن رأسها المشنة ، وسمع همهمة المولود الضعيف فقال: " لا حول ولا قوة إلا بالله!! خذي الشوال ده لُفِّى فيه "حتة اللحمة" " أخذت الشوال وقالت فى توسل: " دور وشك الناحية الثانية وناولني حتة بوص. أسرع الرجل فقطع قطعة بوص من حرف الترعة وناولها إياها، فشفت طرفها بأسانها وقطعت الحبل السرى ثم تخلصت من المشيمة. ثم لفت المولود فى الشوال، ولاحظت أنه ذكر ووضعته على صدرها، وحمل الرجل المِشنة بصعوبة بالغة ووضعها على ظهر الحمار قائلاً: " يا خلق هوه انتِ مفترية يا ولية!! شايلة اللى فى بطنك وشايلة الشيلة دى وماشيه فى القيالة اللى يربطوا القرد فيها يقطع!! دا ربنا ساقنى ليكِ. اركبى ورا المشنة قاد الرجل الدابة فى حذر حتى وضعت "سيدة" الشوال فوق المشنة، وسندتها بذراعيها حتى أوصلها إلى باب دارها. عندما أحست أنها وصلت لبر الأمان، صاحت بصوت مبحوح " الحقونى يالى فى الدار". أطلت أمها.. وهى سيدة ربعة فى الطول، محنية الأكتاف، شديدة السمَار.. ولكنها تبدو قوية، فتعاونت مع الرجل حتى أنزل العنب وأوصلتها إلى الباب.. ودعت للرجل بعد أفاض فى شرح الموقف الصعب.. ناولته القلة يرطب حلقهُ، وأعطته صرَّة بها بلح وعنب. يأبى الرجل قائلاً: "بتشمينى يا أَمّ مريم؟!! أنا معملتش غير الواجب". قالت المرأة لا يا أخويا اسم الله عليك.. ده انت جدع وشهم دي حلاوة المولود.. إنت لفتوه فى شوال؟! والنبى لنسميه شوال". ارتمت المسكينة على الحصيرة وراحت كما قالت أمها "رأس فى رأس". أرسلت مريم إلى الخالة زنوبة الداية فقامت بما يلزم للأم.. وعندما فتحت الشوال لتلقى نظرة على سرة المولود، وتلبسة الجلباب الذى فصلته له أمه من ملابسها القديمة، شهقت قائلة: " بسم الله الحفيظ!! ". سألتها الخالة مريم: إيه إيه يا زنوبة؟ ". أجابت المرأة: " ولا حاجة يا أختى ولا حاجة.. هو حد يقدر يخلق ضافر!! " حملقت فيه المرأتان فى ذهول. كان المولود مسخا غريباً.. رأس مستطيل وصغير حدا، وعيناه نقطتان جاحظتان، وشفته متدلية وأطرافه أطول من المعتاد، ولا يبكى، ولكن يموء بصوت رفيع غريب، تحسرت الجدة وهى تلفة وتحمله حتى ترضعه ماء بسكر وهى لا تكف عن قول " سبحانك يارب غلبانة يا بنتى أخرة صبرك يا سيدة.. أفاقت سيدة من الحمى بعد ثلاثة أيام سألت عن طفلها وضعته أمها فى حجرها كى ترضعه وهى تقول معلش يابنتى كل اللى يجيبه ربنا حلو.. بختك قليل يا سيدة.
احتضنت سيدة فلذتها ونظرت إليه طويلا بعيون تسكب الدمع، وألقمته ثديها وهى تقول: الحمد لله.. والنبى ما حيبقى حد زيه أبداً.. بكرة تشوفى يا مَّه.
كان أول طفل يتنفس الحياة لسيدة. فهى عادة تفقد جنينها بسبب حمل الأثقال اتى تحملها والأسفار التى تقطعها على قدميها فى البر والبحر، سعيا وراء لقمة العيش. توفى زوجها وهي تحمل هذا الطفل فى بطنها، فلم يكن لها فرصة أخرى للإنجاب.
كانت "سيدة " أشهر تاجرة فاكهة فى البلد والبلاد المجاورة، وهبها الله طولا فارغا وقوة خارقة وصوتا جهوريا جميلا تنادي به على بضاعتها فى طرف البلد الشرقى فيسمعه من فى الغرب.. تبتدع الكلمات التى تصف بها الفاكهة، فهى تقول فى نغم كالأغانى: "زى بيض اليمام يا عنب.. يا جواهر بالمال يا طايب يا عنب".. وتنادى على البلد: "طاب واستوى وطلب الأكال يا بلح يا أبو عسلة يا بلح".
تسرح ببضاعتها وتدخل بيوت الموسرين بلا تكلف.. وتترك أمها أمام الفرشة وفى حجرها الطفل المسكين تلتف النساء حولها فتترك لهم المشنة، ينتقوا ما يعجبهن ثم تزن لهن". إدينى رطل يا خالتى "سيدة".. أوزنى لى رطلين جوافة.. يا شيخة اتوصى.. ويعيطها الأطفال قروشهم المعدودة، فتعطيهم ما يحبونه وأكثر.. تضاحك الجميع وقد يطلبون منها أحيانا أن ترفع عقيرتها بالنداء العذب فتفعل وهى سعيدة.
لم يكن "شوال" ينمو ككل الأطفال.. فقد كان دائما معتل الصحة، فتأخر ظهور أسنانه وتأخر فى المشي، وظل يزحف على كوعيه وركبتيه حتى بلغ الثالثة من عمره، وعندما بلغ الخامسة بدأ يقف ويستند بيديه على الحائط ويمشى ويخرج إلى الشارع، فيضحك منه العِيال ويشاكسونه ويقذفونه بالطوب: قائلين:" العبيط أهه.." لم يكن يبكى، كان ينظر إليهم باسماً.. لا يدرك ما يقولونه.. ويرتفع صوت الجدة مريم بالشتائم والدعاء عليهم.. وعندما تعود سيدة من سرحتها تحكى لها أمها ما حدث، فتحتضن ولدها، وتسمح له وجهه وتطعمه، وتذهب إلى أهاليهم تشكوهم ودموعها تسيل "يا سيدنا دا حتة العيل اللى طلعت بيه من الدنيا، فيطيب الناس خاطرها" وينهروا عيالهم.
ماتت الجدة فجأة وهى جالسة أمام الفرشة، وتركت ابنتها وحيدة لا تعرف كيف ستترك ولدها للصبيان يضربونه ويضايقونه!! ، فبدأتْ تعطيه عصا يجرى بها وراء من يضايقه. كان منظره يثير الرثاء والضحك وهو يهبط بساق ويطلع بالأخرى.. وقدماه مفرطحتان تصطدم إحداهما بالأخرى ورأسه الصغير ملتصق الأذنين، وشقته السفلى غليظة متدلية.. يخرج الكلمات بصعوبة كبيرة ويسيل لعابه على صدره. لم يكن الناس يرحمون ضعفه أو يحترمون خلقته التي لا ذنبَ له فيها.. فكان الكبار قبل الصغار يلاحقونه بالسخرية والضحك.
وكان لابد أن تتركه أمه لبعض الوقت أمام فرشه الفاكهة، وتذهب إلى الأسواق تبتاع ما تريد وهى توصيه أن يدافع عن نفسه وعن البضاعة، وتوصى جارتها "عزيزة " عليه وتضع أمامه الميزان وعلبة فارغة وتقول لها: اللى ياخد حاجة يا اختى يحط فلوسها فى العلبة وكل واحد وذمته.
عادت سيدة فى أحد الأيام تجر قدميها من التعب، فهرول إليها بعض الصبيان فى أول الشارع: يا خالتى سيدة.. الحقى.. العيال ضربوا " شوال" بالطوبة فى عينه.. ألقت سيدة ما على رأسها فانفرط على الأرض، وأسرعت وهى تضرب وجهها وصدرها، عملوها. ضنايا!! يلهو بالي يا ابنى..
وجدت المسكين ملقى على الأرض وعزيزة تغسل له وجهه، والدماء تناثرت على جلبابه.. وجانب وجهه أزرق وعينه مقفولة والدماء تسيل منها، حملته صارخة مولولة، وأسرعت فركبت عربة نقل صادفتها وذهبت إلى المستشفى الأميري فى المركز، فقد كان الأطباء يعرفونها، فطالما حملت أطايب الفاكهة إلى منازلهم، أدلخوا الفتى حجرة العمليات، ومر الوقت متثاقلا كئيبا، وعندما خرج الطبيب ربت على كتفها قائلا إنتِ عارفة ربنا يا "سيدة".. ده قضاء وقدر.. الحمد لله إن ربنا نجا له العين الثانية.. العين دي ضاعت خلاص.
بكت المسكينة بكاء مراً وهي جالسة على الأرض تشتكي إلى الله، وترثي حال ولدها الغلبان. حجزوا الصبى ثلاثة أيام تحت العلاج والمتابعة وأمه تنام على حصير بجوار فراشه لا يشكو، ولا يتوجع ولا يدرك عظم الخطب الذى ألم به. عادت الأم تسند ولدها على صدرها وقد وضعوا له الضمادات على عينه، وكلما مرت على الناس قالوا لها: " ألف سلامة على " شوال" يا "سيدة". لم تكن ترد، عقد الغضب لسانها، أدخلته الدار ووضعته فى فراشه وأطعمته.. ثم خرجت إلى الشارع، لم يسمعوا صوتها الجهوري منذ سنوات ولكنها فى ذلك اليوم استعادته، أخذت تدعو من كل قلبها وبكل حرقة على من فعل ذلك بفلذتها وضناها، والناس يقفون من بعيد ينظرون وقد اقشعرت أبدانهم وهى تقول: إلهى وانت جاهى يحرق قلب أمك عليك ياللى عملت كده فى ابنى الغلبان، يا أهل البلد مستكترين عليا حتة عيل يتيم عمره ما أذى حد!! لكن ان شاء الله حاخليه سيد الناس برضه ـ كانت إنسانة بسيطة ـ ولكن ثقتها فى ربنا بلا حدود. لم يكن المسكين يشكو شيئا أو يطلب شيئا، لم يعرف هذا القلب البريئ معنى الكراهية، ولم تتلوث هذه النفس البيضاء بالمطالب والشهوات، ولم تكف أمه عن حبه والحنو عليه وهو فى عينيها أجمل الناس، كانت تغلق بابها عليها بعد العشاء وتوقد لمبة الجاز، وتحضر الماء الساخن والصابون وتسغل له رأسه وجسده وتلبسه جلبابا نظيفا يتناولان عشاءهما وتأخذه في حضنها وتنام شاكرة لربها متوسلة إليه أن يحفظه لها ويبارك فيه ويبعد عنه ولاد الحرام، ويطعمها منه خيراً.
بدأت قوة "سيدة" تنهار كما ينهار الجبل تحت طرقات المعاول، لم يعد أحد يسمع صوتَها ولا أغانيها المميزة التى تنادي بها على الفاكهة، ولم تعد الطرقات تراها صيفا وشتاء تسير أميالا تحمل بضاعتها وتشارك فى المزادات التي تعقد فى الحدائق الكبرى، فالعناية بولدها والذود عنه، والحزن من أجله وإصرارها على تعليمه كي يكون رجلا يدافع عن نفسه ويساعدها فى تجارتها.. كل ذلك أصابها بالأمراض، وأضعف عافيتها، ولكنها كانت تناضل فى إصرار وهى تقول لنفسها : "دا ملوش بعد ربنا غيرى".
كبر الفتى وخط شنبه وأصبح رجلا يجلس أمام الدار يذود عن الفرشة وعن التجارة.. وقد تعود الناس على رؤيته جالسا لا يغادر مكانه حتى تعود أمه محملة برزقها.
فلم يعد أحد يسخر منه أو يشاكسه رحمة بأمه المسكينة التى طالما أطعمتهم أطايب الفاكهة وأعطت أطفالهم بلا مقابل.. وأصبح من المألوف أن تسمع أحدهم يقول له: عواف يا "شوال".. أزيك النهارده.. عاوز حاجة يا خويا؟! هدأت العاصفة ولم يعد منظره غريبا عليهم.. حتى تناقلت البيوت خبرا أغرب من الخيال.
فى أحد أيام شهر شعبان. خبر كما قالت "عزيزة" جارة "سيدة" لصديقتها أم إبراهيم "يساوى مليون جنيه".
- خير يا عزيزة!!
- " شوال" ابن سيدة!!
- مالُه؟ جرى له حاجة؟
- أمه خطبت له البنت "نوارة" بنت عبده السيد..
- خطبت لمين؟!
- قولي كلام غير ده!! مين حتتجوز القرد ده؟!! دي "نواره" وهى نوارة.. عيون خضرا زي البرسيم وشعر زي الذهب وجسم زي الغزالة.. يالهوي!!
كما تسري النار فى الهشيم.. سرى الخبر فى البلدة كلها، وخرجت النسوة يتحسسن ويتأكدن.. فهو خبر ولا كل خبر.
كانت "نوارة" بنت عبده السيد عروسة زينة، نشأت فى أسرة فقيرة تكافح من أجل لقمة العيش ، الأب يذهب إلى الدور مع الأنفار ويغيب بالشهر، والأم تملأ الماء على رأسها فى المنازل، والأخوة الذكور يعملون فى حقول الموسرين، ولم تجد نوارة طريقاً للرزق غير العمل فى بيت العمدة تتعرض كل يوم لمعاكسات أولاده الشباب، عاتبت "عزيزة" جارتها "سيدة" قائلة:
بقى نبقى جيران وأخوات يا "سيدة" وأعرف من بره خبر خطوبة " شوال" على "نوارة"؟. قالت "سيدة" والفرحة أكبر من احتمالها وعيناها تفيض بالدمع ماكنتش متأكدة إنهم حايوافقوا.. دا ربنا فتح لي طاقة القدر وقال اطلبى يا سيدة وأنا أعطيك.. النهاردة قراية الفاتحة يا عزيزة.. فاتحة ابني وحبيبى.
أصاب الناس هلعٌ شديد و" سيدة " تدعوهم لقراءة الفاتحة.. دارت الأحاديث: هو الراجل عبد السيد جرالُه حاجة فى نافوخُه؟! يجوز البنت اللي زي القمر للأهطل ده؟!! ويرد الآخر.. " لا حول ولا قوة إلا بالله تلاقي البنت مغمومة يا ولداه!! "
ما هو الفقر وحش.. تلاقي أبوها طمعان فى تحوشية العمر لسيدة..
ما هية دفيانة وصاحبة قرش
وتُعلق إحدى العجائز: " قال يا واخد القرد على ماله، يروح المال ويفضل القرد على حالُه وتعلق إحدى الصبايا.. اخص.. يا خرابي حايتقفل عليها وعليه باب إزاى؟!! دا أنا لو مطرحها كنت أموت نفسي.
دعت سيدة الناس، وفرشت أمام الدار وعلقت الكلوبات ووزعت الشربات.. قرأ عم شوال الفاتحة مع أبو العروسة وخرج العريس فى جلباب أزرق جديد، وطاقية صوف بيضاء ومداس يحاول جاهداً أن يبقيه فى أطراف أصابعه. كان الكل ينظر إليه متفحصاً متعجباً وكأنهم يرونه لأول مرة، ويمدون يديهم للسلام : "مبروك يا عريس" وهم يكتمون الضحك. وخرجت الأم إلى الناس وقالت بعنفوان ما تبقى من صوتها اسمعوا يا أهل البلد من النهاردة ابني اسمه محمود.. أمي الله يرحمها لما شافته ملفوف بالشوال بعد ما اتولد، حلفت لتسميه شوال علشان يعيش، لكن أنا كتبته فى الصحة محمود وادي شهادة الميلاد، خصيمه النبي من النهاردة اللي يقول له يا شوال. كانت مفاجأة أخرى للناس حاولوا استيعابها..
أخذت سيدة نوارة فى اليوم التالي وأمها وأقاربها وذهبوا إلى البندر لشراء الشبكة كانت نوارة صامتة سارحة لا يبدو على وجهها الجميل أي تعبير، ترد على أسئلة صديقاتها وتعليقات الناس قائلة: أنا راضية بنصيبى.. خلاص بقى.. هو يعنى ماله؟ ده جدع طيب وعمره ما أذى حد، تركتها سيدة تنتقى ما تحب من ذهب.. كردان وحلق وخاتم وغويشة.. وهى تقول لها: " نقي اللي يعجبك يا عروسة الغالى."
فى عيد الفطر انتهت "سيدة " من دهان المنزل باللون الأخضر، واشترت سريراً جديداً، وجددت المراتب والألحفة ومخدات برأس ستان أحمر، وكنبتين استامبولى وحصراً جديدة، وملابس جديدة للعروسين، وهى تملأ الدنيا رقصاً وزغاريد.
كان محمود يبدو مبتسماً فرحاً، يتلقى التهاني المشوبة بالتهكم من أهل البلد، يصفق ويرقص وهو يقول: "أنا بحب عروستي نوارة . نوارة حلوة قوي. ويحكي للناس عن كل ما اشترته أمه من مفروشات جديدة وملابس فرحاً مغتبطا.
فى يوم الدخلة لبست نوارة الثوب الساتان البمبي والطرحة البيضاء والشبشب الأحمر، فبدت كالبدر المنور، تحسر الناس فى داخل نفوسهم يقتلهم الغيظ والكمد، وكل شاب يتمناها لنفسه، ولكنهم يظهرون الفرحة قائلين: "مبروك يا أم العريس.." "مبروك يا محمود.. ". عقبال البكاري، فيداري أحدهم وجهه ويطق بالضحك من هذه العبارة. أحضرت الأم عربة كارو حملت عليها الشوار ولفت البلد كلها وسط الطبل والزغاريد. وطبخت للناس إوزتين وست دجاجات، وشكارة مكرونة ورقصت فى الشارع بالعصا وهى تقول: "هو أنا عندي كام محمود يا ناس.. سيبوني أفرح.." وفى آخر الليل، دخلت الدار مع ولدها وعروسه، وعندما لمحت القلق على وجه أم نوارة قالت لها: اطمئنى يا أم الغالية، دي فى عينية الاتنين، روحي يا ختي نامي، ثم أغلقت الباب.. وساد صمت!! لم يعرف أحد ولن يعرف ماذا تم فى هذه الليلة والليالى التالية بين محمود وعروسه، ولا ماذا كان دور الأم!!
توافد الأهل فى الصباح بفطير الصباحية وكلهم فضول ينظرون ويتسمعون، فلا يجدون إلا الابتسامة وكلمة الحمد لله عقبال عندكم دخلت أم نوارة فاحتضنت ابنتها ودار همس طويل.. وخرجت الأم راضية.
مضت الأيام وبدأت "نوارة" تجلس أمام الفرشة حتى تعود حماتها من الأسواق. يجلس بجوارها محمود وهو ممسك بالعصا ويبدو سعيدا، وأجبر الصمت والابتسام الذى تبدو فيه نواره الناس على الانصراف عنها والانشغال بأمورهم.
فى أحد الليالي بعد أن انتهت من أعمال الدار وعادت الحماة وباعت ما شاء الله لها أن تبيع، جلسوا حول الطبلية لتناول العشاء.. لاحظت سيدة أن نوارة ذابلة.. لا تمد يدها للطعام ولونها شاحب وتشكو من التعب، ألحت عليها فى السؤال: مالك يا بنتي؟ أنا أمك ياختي، يه حاجة واجعاكي؟ أوديكى للحكيم؟
قامت نوارة منتفضة وأزاحت الطبلية وقالت: أنا ريحة أشوف أمي ـ يابنتي مالك؟.. يوه صدري مكتوم
وعاوزة أشوف أمي ـ روحي يابنتى بس ما تعوقيش.
استقبلت أم نوارة ابنتها فى حضنها قائلة: وحشاني يا بنت كدة ما تسأليش عليا!! ازيك يا ضنايا
- مضايقة يا امه..
- حماتك زعلتك؟
- لا يا أمه.. ديه حنينة معايا قوي..
- جوزك جراله حاجة.
- يا امه استنى عليا اشم نفسى..
- طيب يا اختي.. اقعدي..
- أنا حامل يا امه
أسندت المرأة ظهرها للحائط وفغرت فاها وهى لا تصدق
- صحيح يا نوارة؟!
- هو ده فيه هزار يا امه..
- أزغرط يا ولاد!! ألف مبروك يا حبيبتى..
- يا أمه أنا خايفة ومرعوبة..
- ليه يا نواره؟!!
- ليه؟! ما أنت عارفه ليه! العيل يقوم يطلع لأبوه.. كنت اعمل ايه؟
وأخذت المرأة تطيب خاطرها وتطمئنها.. وتحكي لها عن حكايات مماثلة حدثت وقالت لها: "يا عبيطة.. كل حاجة كدة حاتبقى بتاعتك انت وعيالك.. حماتك دفيانة.. الدار والتجارة والفلوس أوعى لنفسك يا خايبة.
- يا امه أنا مايهمنيش كل ده.. أنا عايزة عيالي يطلعوا سلام.
عندما ظهرت أعراض الحمل على نواره.. بكت سيدة من كل قلبها وسجدت لله.. ونذرت نذرا: يوم ما تقومى بالسلامة يا نوارة حادبح خروف.. واعمل أكل للغلابة.. وأقري قرآن.
تهامس أهل البلد.. وخاضوا فى عرض نوارة
قال أحدهم:
- يا عم ده واد أهطل.. هو ده يخلف!!
- ربنا يستر ولايانا.. البت فيها الطمع..
- ما هى حماتها بتبعتها الأسواق.. حد عارف..
أما أكثرهم خشية لله فيقول:
- حرام عليكم.. إن بعض الظن إثم.. اتقوا الله.. يقول ذلك ونفسه تخالجها الظنون..
لم يكن الهمس ليظل خافيا طويلا.. فالإشاعة لها ألف قد تمشي به.. ومليون أذن تسمع بها.. ومليون لسان ينقلها.
بكت نوارة وأمها وحماتها بكاءً حاراً مراً. وكانت سيدة تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.. هم الناس مستكترين علينا الفرحة دايما ليه؟ إنصف المظلوم يارب.
ولكنها كعادتها فى الفترة الأخيرة، كانت قد استأسدت فى الدفاع عن مملكتها الصغيرة.. وفكرت طويلا. جلست طوال الليل قد وضعت خدها على كفها، وعندما طلع الصباح نادت من حولها، يا أهل البلد.. عاوزاكم كلكم.. تعالوا شوفوا لما ربنا ينصف المظلوم.
تجمع الخلق قبل الخروج إلى أعمالهم أمام دار سيدة يتساءلون.. عاوزة إيه؟ في إيه يا سيدة؟!! كانت قد أرسلت إلى عم عبد المعطي حلاق الصحة ومستشار الطب، وأمين أسرار العائلات، وقالت له: ادخل يا عم عبد المعطي اكشف على الوله.. البلد بتاكل فى عرضنا.. منهم لله.. أدخل يا عبد المعطي.. ادخل.. دخل الرجل وغاب لبعض الوقت.. والناس قلقة متعجبة.. فكل شئ فى حياة هذه المرأة كان يدعو للعجب!!
خرج الرجل أخيراً قائلا: ما شاء الله.. الواد صاغ سليم.. كل واحد يحط لسانه فى بقه.. بلد تخاف ما تختشيش...
مضت شهور الحمل على نوارة كأنها دهر. كانت مشاعرها الداخلية كموج البحر.. تقبل فتسلم أمرها لله كما سلمته وهى ترضى بأقدارها وتتزوج شوال.. وتدبر فترى طفلها مسخا مشوها تقذفه العيال بالطوب ويسخرون منه وتقاسى معه كما قاست حماتها.
كانت الليالي ترى وسادتها وقد بللها الدمع وتجلس نهارها ساهمة صامتة تصطنع الابتسامة حتى لا يشمت فيها الناس.. وكانت تسأل نفسها.. طيب رضيت بالجوازة دي ليه؟!
هل هو الهرب من الفقر؟! أو طمعها فيما قالته أمها عن ثروة حماتها؟!
هل حقيقي صعب عليها وشافت قلبه أبيض؟! ولا هو النصيب؟! أما أم نوارة فكانت تنظر إلى ابنتها التى تشبه القمر وتتحسر فى داخلها قائلة: ظلمناك يا بنتى.. لكن نصيبك حانقول إيه؟ أما سيدة فكانت كعادتها مسلمة أمرها لله.. تعتنى بزوجة ابنها وتقول يارب.
أحست نوارة بآلام الوضع.. وأرسلت سيدة للخالة زنوبة الداية وامتلأت الدار بأم نوارة وقريباتها، ومحمود يجلس بجوار حماه على باب الدار بنفس القلب الأبيض والنفس المستسلمة.. ينتظر.
وعندما انتصف النهار صرخ المولود، فتعالت الزغاريد وخرجت سيدة فاحتضنت ابنها وهى تقول: مبروك يا أبو محمد.. ولد يا أبو نوارة زي الفل مبروك يا خوايا.. ألف حمد يارب.. قام محمود يرقص فى فرح طفولي.. أنا خلفت ولد.. نوارة مراتي جابت محمد..أنا بقيت أبو محمد.. أنا بقيت أبو محمد.. أمي قالت كدة.
وشاء الله سبحانه أن ينزل الطفل ومعه بصمة الشرف وبراءة نوارة.. فقد كانت أذناه ملتصقتين مثل أبيه.. مما جعل البلد جميعا يندمون ويستغفرون الله من ظنونهم وشكوكهم.
كان محمود يجلس أمام الفرشة وولده فى حجره حتى تنتهي أمه من شغل المنزل وتعود نوارة من السوق، وتتابع مجئ المواليد فرزقهم الله ثلاث بنات فى جمال أمهن.. لزمت سيدة فراشها وأقعدها المرض..
فكان الأطفال يتلفون حولها يخدمونها ويدفئون فراشها.. تحتضنهم وتملأ عينيها من جمالهم وتسعد بشقاوتهم.. تحكي لهم الحواديت، وتعطيهم المصروف وترقيهم.. كبرت نوارة وأنضجتها المسئولية الكبيرة التى تحملتها، فهى أم لجميع أفراد أسرتها.. رحلت "سيدة" قريرة العين بعد أن سلمت كل أسرارها لزوجة ابنها.. وأوصتها بزوجها الطيب خيراً.. أصبح محمود يجلس بجوار زوجته وأطفاله.. يواصلون مشوار الأم.. ونوارة سعيدة راضية تحنو عليه، وتقول لكل من حولها.. والنبي ما حد زيه.. قلبُه طيب وغلبان وهو أساس الخير ده كله.. "دار ربنا مع المنكسرين جابر.. "