د. سيد شعبان - الطيب صالح وليا!

على غير عادتي نمت مبكرا، زارني طيف رجل طويل يتعمم بشال أبيض يرتدي عباءة حمراء من صوف الغنم، يتوكأ على عصا من أبنوس، يفتر فمه عن ابتسامة طيبة، في مجلسه تحضر بنت مجذوب لكنها لاتردد غير أورادها تمسك بمسبحة ذات تسعة وتسعين حبة، تهيم في ملكوت علوي، يقال إنه الطيب صالح، اعتدل في جلسته ثم نهاها أن تأتي بنزقها مرة أخرى، من بعيد مولانا الحنين يتمايل يمنة ويسرة في خلوته، جاء ضو البيت راكبا حماره، حسنة بنت محمود تقف خلف الباب، ينسدل شعرها وتتراقص رمانتا صدرها، يبهت مصطفى سعيد ذلك الذي غزا بنات الروم في عقر ديارهن، مايزال أثر الماء على ثيابه حيث ألقى بنفسه في النهر يظن أنه يتطهر من دنس ما اقترف، أجمع حبات من تمر نخلة على الجندول، هل ترى الطيب صالح كان وليا من أولياء الله الذين عبروا الحياة تاركين فيها الحب بذورا لما يحن بعد غرسها؟
من بعيد تتعارك فتيات شقراوت إنهن قتيلات هوى مصطفى سعيد يحضرن مجلس الطيب صالح، يختصمن مصطفى سعيد، يمسك مولانا الطيب عن الكلام، يسرح بخياله بعيدا، لقد انتهى موسم الهجرة إلى الشمال، عاد زمن الأولياء بما يحلو منهم الدعاء والتماس البركة، لم يحاول أحد بعده أن يدون وقائعه، أعواد البخور والعنبر والند وسرير من أبنوس مطعم بالعاج يرتج من عراك وصخب يمنعني حياء تعلمته من مولانا أن أذكره، أسد محنط عند مدخل الحجرة، ستائر مخملية ذات ألوان حمراء، لم يبح مصطفى سعيد بسره لحسنة بنت محمود!
مضى وترك لها الصغيرين يبحثان عن أب غرق في النيل قبالة كرمكول!
ما أشد ما ندمت على قولي بأن الطيب صالح كان مدلسا، تلك مقولة تبين عدم صدقها، لقد صار من أولياء البلاد الطيبة.
ينتبه إلى حضوري، يهبني ورقة وقلما، يشير بسبابته ناحية ضو البيت، يتمتم بدعاء مبارك، يجري سن قلمي على وجه الورقة، لم أعد ذلك المنسي الذي كتب عنه ذكرياته لقد ارتفع ذكره حين ذكره، في بلاد تحتسي القهوة وتقرأ الصحف وتتجاذب أطراف الحديث، يهبونك الود والحب، آنست نارا، أسرعت إليها قبست منها، مولانا الحنين هناك يقطر ريقه شهدا، تدور رأسي، أنطرح أرضا يدثرني الطيب بعباءته، في حنو تجذبني بنت مجذوب، أراها تشبه أمي أنام على رجلها، تشدني حسنة بنت محمود، تراني طفلا!
يضحك الطيب يشير إليها أن تدنو من مجلسه، يعطيها مفتاح حجرة مصطفى سعيد السرية، تهرول مسرعة تحضر مسبحة طويلة وسجادة صلاة وجلبابا أبيض، يكتب مولانا الحنين كتابا، تزغرد بنت مجذوب، لقد زوجني الطيب حسنة بنت محمود!
لم يكتف بهذا وهبني صرة مملوءة بجنيهات ذهبية مما كان يدفع به كتشنر إلى الدراويش محاولا خداعهم؛ لم يخونوا أوسعوه بحرابهم دوى الرصاص فهوى ابن الشقراء، أخذ برأسي يجرني إليه، أعاذني بالله ثلاثا من شر حاسد إذا حسد، ومن سوء ما تفعل النسوة في المدينة، توجه إلى القبلة ورفع يديه يدعو ربه!
حين ذاك أخبرت أمي فقالت: يابني الروح تسرح في ملكوت الله، تذكرت أبي هل تراه التقى الطيب صالح في العالم الآخر فالموتى يتزاورون.
ربما يخبره بأنني متيم به.
تدق ساعة بيج بن بصوت آسر تخبر رغم ما حدث: هنا لندن، أتحسس ذراعي الأيسر لقد تلقيت لقاح كورونا وللعجب كان من هناك، يبدو أننا سنظل ندور في ساقية الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس!
رايات خضراء ونجوم وهلال تعلو بيرق بيد درويش يمتطي صهوة جواد عربي!
مقام مولانا الطيب صالح في تلك البلاد الطاهرة، نيلان يحوطانه وأشجار الجميز العتيقة طعام للدراويش الذين يطفون بالأولياء، جاء من بعيد حيث عاصمة الضباب، مقامه بالقرب من خلاوى السودان حيث جبل البركل أعلاه الشمس تشرق!


* نشر في جريدة أخبار اليوم السودانية




1631610005078.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى