رأيت عند باب النصر، رجلًا يمشي على مهلٍ، وحيدًا ليلًا، يحمل تحت إبطه كتابًا، سمعت من يقول، إنه خضعت له أصوات الفرنجة، يتبعه المشعلجي، والشوارع والحواري والأزقة مطفأة، تتعقبه جرذان تعتاش على جرايا القلعة، تسترق السمع وتراسل السلطان، اقتربت منه أتفرسه مختفيًا وراء سور بدر الجمالي، سمعت جنديًا مملوكيًا يلهج باسمه بصوت تكتنفه اللجلجة: إنه قاضي المالكية!، لم أهتم! فما أكثر القضاة، والظلم ظلمات، تركض في شوارع المدينة، مجرى الدم في العروق.
كشر وعبس وتدلت شفتاه غيظًا وغضًبا، وهو يهذي بكلام لم أفهمه، خلته درويشًا أو مجذوبًا. استدعيت شجاعة مرتبكة، واستوقفته ثم سألته بأدب: مَن أنت يا سيدي؟!
حدّق بي هازئًا: يا غلام ارحل لسبيل حالك، وعُد من حيث جِئت، وتقلب أنت وقومك في ذل الشقوق المظلمة.
تفجّر الغيظ في صدري عيونًا، واصطنعت على وجهي أمارات الجفاء والترفع.. وارتقيت حجرًا منقوشًا عليه بالهيروغليفية، حتى علت أنفي أنفه، فاستنشقت إذ ذاك عبق أشبيلية، وشربت من عيون حضرموت، وسمعت أهازيج المبتهلين بمسجد الزيتونة، فانفلق الحجر من تحتي، وانبَجَسَتْ منه جيف التعالي وأكاذيبه، أما هو فقد رأيته وكأنه قد استطال عنقه ومد ظله إلى هناك، حتى أضاء المشعلجي القناديل المطفئة في سقف كاتدرائية نوتردام، أما أنا فقد عثروا عليَّ، في صحراء الجيزة، أسامر أبو الهول، وأمضغ القات تحت ظله القديم، وأدخن لفائف خدر الماضي اللذيذ.
على مقهى ريش، أقبل إلى طاولتي، رجل أبيض الوجه، أشقر الشعر وعيناه زرقاوان، سحب كرسيًا وجلس قبالتي، قال إنه مؤرخ نمساوي، اسمه جوزيف فون هامر، ثم سألني أين يجد مقبرة مونتسكيو العرب، طال سكوتي، وحدقت بعينيه المتلهفتين مستغربًا، فمدَّ يده بورقة وأشار بإصبعه إلى أربع كلمات: باب النصر، مقابر الصوفية، حملت الورقة وطفت بها الطاولات المجاورة، سألت محفوظ ودنقل وإدريس والطاهر عبد الله وجاهين وكامل الشناوي وغيرهم، ثم عدت إليه عاقدًا ما بين العينين متنهدًا هازًّا رأسي معتذرًا له: لم يعرفه أحد!
غادر المقهى مستقبلًا ميدان طلعت حرب، نادى على سيارة أجرة، ناول السائق ذات الورقة: باب النصر، مقابر الصوفية وانطلقا. هناك لم يجد إلا الأوناش الغبية والحفارات العمياء، وقد أنهت لتوّها مهامها بنجاح.
كشر وعبس وتدلت شفتاه غيظًا وغضًبا، وهو يهذي بكلام لم أفهمه، خلته درويشًا أو مجذوبًا. استدعيت شجاعة مرتبكة، واستوقفته ثم سألته بأدب: مَن أنت يا سيدي؟!
حدّق بي هازئًا: يا غلام ارحل لسبيل حالك، وعُد من حيث جِئت، وتقلب أنت وقومك في ذل الشقوق المظلمة.
تفجّر الغيظ في صدري عيونًا، واصطنعت على وجهي أمارات الجفاء والترفع.. وارتقيت حجرًا منقوشًا عليه بالهيروغليفية، حتى علت أنفي أنفه، فاستنشقت إذ ذاك عبق أشبيلية، وشربت من عيون حضرموت، وسمعت أهازيج المبتهلين بمسجد الزيتونة، فانفلق الحجر من تحتي، وانبَجَسَتْ منه جيف التعالي وأكاذيبه، أما هو فقد رأيته وكأنه قد استطال عنقه ومد ظله إلى هناك، حتى أضاء المشعلجي القناديل المطفئة في سقف كاتدرائية نوتردام، أما أنا فقد عثروا عليَّ، في صحراء الجيزة، أسامر أبو الهول، وأمضغ القات تحت ظله القديم، وأدخن لفائف خدر الماضي اللذيذ.
على مقهى ريش، أقبل إلى طاولتي، رجل أبيض الوجه، أشقر الشعر وعيناه زرقاوان، سحب كرسيًا وجلس قبالتي، قال إنه مؤرخ نمساوي، اسمه جوزيف فون هامر، ثم سألني أين يجد مقبرة مونتسكيو العرب، طال سكوتي، وحدقت بعينيه المتلهفتين مستغربًا، فمدَّ يده بورقة وأشار بإصبعه إلى أربع كلمات: باب النصر، مقابر الصوفية، حملت الورقة وطفت بها الطاولات المجاورة، سألت محفوظ ودنقل وإدريس والطاهر عبد الله وجاهين وكامل الشناوي وغيرهم، ثم عدت إليه عاقدًا ما بين العينين متنهدًا هازًّا رأسي معتذرًا له: لم يعرفه أحد!
غادر المقهى مستقبلًا ميدان طلعت حرب، نادى على سيارة أجرة، ناول السائق ذات الورقة: باب النصر، مقابر الصوفية وانطلقا. هناك لم يجد إلا الأوناش الغبية والحفارات العمياء، وقد أنهت لتوّها مهامها بنجاح.