د. سليمة مسعودي - محمد أركون وتحرير العقل الإسلامي.. قراءة نقد ثقافية في فكر محمد أركون

في ذكرى وفاة المفكر الكبير محمد أركون رحمة الله عليه :

الفصل الرابع من كتاب جدل السياقات والأنساق، الصادر عن دار ميم للنشر، 2019 ، والمعنون ب :
جزء من الدراسة:


تمهيد :
لقد اهتم محمد أركون بإعادة قراءة التراث ، واستقراء الواقع الإسلامي المعيش باعتباره منتميا إلى إليه ،وباعتباره تجسيدا لخطاب معرفي وثقافي مميز، يشكل تمظهرا مهما للخطاب الثقافي المجدد، لذا تبنى مشروعه الكبير " نقد العقل الإسلامي " الذي يبحث في أسباب التصدعات الثقافية والمآزق الحضارية التي يعيشها هذا العقل ،عن طريق تفكيكه وممارسة الحفر الأركيولوجي في منظوماته الثقافية وتكويناته ،منطلقا من داخل هذا العقل باعتباره أحد أفراده ، لأنه عرى الكثير من القضايا المركزية الاستشكالية في الوعي الإسلامي ،و قاربها على حقيقتها، بعيدا عن سطوة النزعة الدوغمائية الأرثوذكسية للخطاب الديني التفسيري السائد، وبعيدا عن إملاءات السلطة السياسية التي دأبت منذ القديم على تطويع الخطاب الديني لما يخدم مصالحها ، حيث عمل على تفكيك واقع التفكير الإسلامي ، وحفر في تاريخانية المعرفة الدينية التي أسست للعقل السائد بكل منظوماته ،من أجل إخراجه من شتى المآزق التي يتخبط فيها. لذا فقد آلى على نفسه أن يتبنى مشروعه الكبير " نقد العقل الإسلامي" متوسلا بمنهج الدراسات التطبيقية ،الذي يعتمد على محاورة القضايا المركزية للراهن والواقع الإسلامي ،وفق تحليل علمي دقيق ،ينفلت من قبضة الأرثوذكسيات والدوغمائيات المتصلبة القديمة ،من أجل بناء نموذج واقعي يصلح للحياة ويتماشى مع تاريخانية وإنسانية النصوص الدينية ،منطلقا من داخل هذا العقل باعتباره أحد أفراده ؛ يقول هاشم صالح : فليس صحيح القول بأنه مستشرق كما يزعم بعضهم للنيل منه ،إنه جزائري منخرط حتى النخاع في هموم العالم الإسلامي وقضايا يريد أن يجد لانسداداته واختناقاته حلا " .
تعنى هذه الدراسة بإلقاء الضوء على الخطاب الأركوني ومنهجه ومقارباته وقراءاته، عبر محاورة شتى القضايا التي يطرحها وذلك عبر جملة من المحاور أهمها: مشروع تحرير الوعي الإسلامي وسوسيولوجيا المعرفة الاستشراق، الإسلام المعاصر والعولمة ،نقد العقل الديني ومفهوم العقل الاستطلاعي .
مشروع تحرير الوعي الإسلامي وسوسيولوجيا المعرفة :
منذ نهاية الستينيات من القرن العشرين بدأ التفكير بجدية في وعي جديد للعقل الديني، وعي قائم على استشكال القضايا المركزية والسياسية ،وإضاءة الزوايا المظلمة ،وفك السياجات الدوغمانية المغلقة ،والتفكير في اللامفكر فيه داخل هذا الخطاب ،عبر التأسيس لعقل منتج للفكر ومشروعات العقلانية النقدية والإبستيمولوجية ،التي تستهدف الكشف عن البنى الذهنية العميقة داخل هذا العقل، وعبر المحاورة التاريخية والقراءة الاستشكالية لنصوص التراث والحفر الأركيولوجي في طبقاتها، وممارسة التحليل التاريخي لها عبر منطق التفكيك والتأويل.
ومن أهم مؤسسي هذا الوعي محمد أركون بما يطلق عليه مشروع "نقد العقل الإسلامي" وهو مشروع تاريخي أنثروبولوجي ،يعمل على استشكال الأسئلة الأنثروبولوجية المركزية لكل مرحلة تاريخية، متسائلا عن أهم المفهومات التي تتضمن الأحداث التاريخية والخلفيات الفكرية والفلسفية والإيديولوجية، والتي توجهها وتتحكم فيها، كالدين والدولة والمجتمع والمقدس والحلال والحرام والضمير واللاشعور والمعرفة التاريخية والفلسفية والعلمية. هذا وقد ضمّن مشروعه ضِمن مجموعة من الكتب التي كانت خلاصة رحلة بحث وتفكيك وحفر أركيويوجي في كتب التراث من جهة، واستقراء الراهن ضمن جهة أخرى.
لقد استطاع محمد أركون تطوير آليات قرائية وأدوات وعي علمية في نقد العقل الديني ،وجملة من المصطلحات والمفاهيم التي كانت تنتمي إلى سياقات معرفية متعددة: تاريخ، فلسفة، سياسة، الديانات، سيوسيولوجيا ،من أجل تطويعها في قراءة علمية واعية للنص الديني من جهة، وللموروث العربي من جهة، ولآراء المستشرقين ومواقفهم من جهة أخرى. ودعا إلى إعادة النظر في مختلف المكونات الثقافية ،التي شكلت سياقات المعرفة والإيديولوجيا والفكر والحياة، وإعادة قراءتها بمنظور نقدي تقييمي موضوعي، وبكل علمية وموضوعية، بعيدا عن عقلية المسلمات ،التي تجترح المقولات القديمة لتؤسس عليها فكرا لا يتماشى ومختلف التغيرات والتطورات التاريخية ،ولا يستطيع أن ينسجم مع مختلف السياسات الثقافية للإنسان المسلم المعاصر، ما أدى إلى قطيعة حقيقية معرفية وكيانية أنطولوجية بين الإنسان والخطاب الديني السائد كخطاب تفسيري أرثوذكسي مسيج بسياجات دوغمائية، تمنع العقلانية في التناول والقراءة، ما أوصل إلى الانسداد التاريخي والانغلاقات الدينية ،التي فجرت الكثير من الأزمات الثقافية والسياسية والاجتماعية.
يأتي مشروع محمد أركون في نقد العقل الإسلامي،استجابة لما يتطلبه الراهن الحضاري من ضرورة تجديد هذا العقل، وإعادة النظر في الخطاب الديني كخطاب مؤنسن ،جاء ليتماشى ومنطق الحياة الإنسانية في التغير والتطور.
لقد استطاع محمد أركون أن يضع يده على الكثير من الانجراحات الفكرية، التي خلفتها العقليات الأرثوذكسية الدوغمائية في شتى مناحي الحياة، منذ البدايات الأولى التي شكلت الخطاب الديني كقراءة إنسانية للنص الإلهي، أغلقت هذا النص على أفهامها التفسيرية المرتبطة بلحظتها التاريخية ومعرفيتها المحدودة، ويعتمد محمد أركون على ضرورة تحاشي المسلمات والمغالطات التاريخية والمقولات الجامدة في عملية البحث: "فهو لا يهدف من خلال نقده للعقل الإسلامي الكشف عن خطأ بعض المعارف والأفكار، أو تبيان صواب معارف أخرى، كما لا يهدف إلى تصنيف المذاهب والقيادات والعمل على نقضها، بل إنه يهدف إلى كشف آليات اشتعال الخطاب وتحليل الأنظمة الفكرية، وفحص أسس التفكير" .
يرى محمد أركون ضرورة الحاجة إلى نقد العقل الديني ،وتحرير الوعي الإسلامي في الخطابات الدوغمائية ،ومن الروح الاستلابية للماضي وتقديس الخطاب الفقهي التفسيري، وهذه الحاجة ليست فلسفية طوباوية ،بقدر ما هي حاجة يطرحها الواقع الإنساني الإسلامي ،الذي أمسى متخبطا بين الدين كخطاب تفسيري دوغمائي ماضوي جاهز ومنغلق، ارتبط بزمن الفقهاء الذين أسسوا تفاسيرهم استجابة لمرحلتهم الحضارية وشروطها التاريخية والثقافية، وبين الدين كمطلب إنساني ،يلبي اهتمامات الإنسان واحتياجاته عبر التاريخ والمكان، وبتغير الثقافات وصيرورة المعارف، فالحياة الإنسانية قائمة على منطق الصيرورة التي فطر عليها الإنسان ككائن عاقل مفكر، وهذا ما يقوم على تغير المعرفة الإنسانية والتجديد فيها، وتجديد الحياة بها، وهو منطق لا بد من الإصغاء إليه والاستجابة له، خصوصا وأن النص الإلهي يحمل في ذاته قابلية الانفتاح على تاريخانية المعرفة الإنسانية، عن طريق قابليته للتأويل، علما أن لفظة التفسير في النص القرآني لم ترد إلا مرة واحدة، في حين وردت لفظة التأويل لأكثر من مرات عشر، وعلما أن القرون الهجرية الثلاثة الأولى لم توظف مصطلح التفسير في قراءاتها للقرآن، بل وظفت مصطلح التأويل، وسارت عليه، ولم يرد مصطلح التفسير في الخطابات الدينية إلا ابتداء من القرن الرابع، حيث عد التأويل إساءة لقداسة النص ،وزيغا عن مقاصده ودلالاته.
يؤمن محمد أركون بالحاجة إلى تحرير الوعي الإسلامي وتجديد الخطابات الدينية، لأن الواقع المعيش يدعو إلى ذلك، وطبيعة الإنسان ككائن متغير متطور تدفع إلى ذلك، خصوصا في عصر العولمة السياسية والثقافية، على أنه قد نقد أيضا العقل الغربي الانتهازي في رأسماليته البشعة وتضحيته بالمبادئ الإنسانية التي ينادي نفاقا بها، ويعمل على اغتيالها باستمرار ،عبر انتهاك حقوق الإنسان في بلدان العالم الثالث.
أما تركيز محمد أركون على الخطاب الديني أكثر من غيره ،فلوعيه العميق بدور هذا الخطاب في حياة الإنسان وبناء أنظمته المختلفة ،إذ: "يمثل الدين في وعي وحركة الإنسان أحد أهم العوامل التي تسهم في إرساء الأنظمة الاجتماعية وسيرورة الثقافة ؛ فهو من جهة يقدم نموذجا معرفيا لإدراك الوجود وتفسير العالم، ومن جهة أخرى يحدد القواعد ومناهج السلوك التي تؤطر مختلف العلاقات الإنسانية" .
لقد استطاع أركون بالتحليل التاريخي والحفر الأركيولوجي أن يستشكل مختلف القضايا الاستراتيجية في هذا العقل، ويربطها بسياقاتها ومكوناتها التاريخية ،متجاوزا المذهبيات العنيدة والقناعات الامتثالية داخل الأعماق التراثية،عبر ممارسته صدم السائد والمعتاد والمسلم به ،وتفكيك الانغلاقات الفكرية وبلاغة التراكمات الثقافية، وعبر التحليل النقدي الراديكالي، ولذلك كان مفكرا مثيرا للجدل، في تطبيقه المناهج العلمية على النص القرآني ،وعلى العقل الإنساني المفسر له: "لقد حرر الإسلام في ذاته عندما وصل بالتحليل العلمي إلى أصل الأصول- أي إلى النص القرآني نفسه- حيث طبق عليه أحدث المناهج الفكرية، فأضاءه بشكل غير مسبوق، وانكشفت عندئذ عظمة القرآن وعبقريته وتاريخيته الجزئية في آن، إنه أكبر حفار أركيولوجي في تاريخنا الفكري" .






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى