إيمان فجر السيد - رؤية إنطباعية لنص القاص ياسر جمعة "لغةٌ واحدةٌ لا تكفي"، ورؤية إنطباعية مقتضبة

النص:

رآها وهو في طريقه إلى عمله، كانت تضم شجرةً في جانب الطريق، تضمها خائفةً وتتحدث إليها بلغاتٍ ثلاثٍ؛ عربيةً وإنجليزيةً وألمانيةً، تتحدث بها في مزجٍ عجيبٍ في كل جملةٍ، وكأنَّ لغةً واحدةً لا تكفيها، لذا توقف مثل الآخرين واقترب، كانت في ثوبٍ ممزقٍ لا يستر جسدها النحيف.. الكهل، وكان شعرها الأشيب المتسخ يخبئ معظم وجهها الملتصق بجزع الشجرة الضخم، والناس حولها يضحكون.. نعم يضحكون، مما جعلها ترتجف ويعلو صوتها بجملها العجيبة هذه فبدت مشوهةً تماماً.
هل كانت تسبهم، أم ترجوهم أن يبتعدوا؟
اقترب أكثر كي يقف حائلاً بينها وبينهم وينهرهم، غير أنها فزعت ودفعته، وقع، تعالى ضحكهم الصاخب وأخرجوا هواتفهم ليصوروا، قام مشجوج الجبين ليمنعهم، لم يستطع، كان ضحكهم الهستيري قد دفعها إلى الرعب التام، ساد الهرج، راحت تقذفهم بما تطوله يدها من الحجارة، تهشَّمَ زجاج سيارةٍ كانت تمر على مقربةٍ، انفجرت الدماء غزيرةً من رأس أحدهم وسالت على وجهه، تضاعف عدد الناس وكذلك الصخب، نفدت الحجارة التي كانت حولها، فراحت تتجرد من ثيابها وتقذفهم بها، وقبل أن تركض مبتعدةً لتغيِّبها الشوارع الجانبية والزحام، عرفها؛ إنها معلمته الأنيقة في المرحلة الابتدائية، تلك التي كانت تشجِّعه على الرسم والكتابة، وتقرأ له نصوصه بصوتها الحنون!
هل هي؟
يقينه أنها هي اعتصر قلبه.
ما الذي أوصلها لهذه الحال؟
عاد ليطبب جرحه ويبدل ثيابه سريعاً كي يلحق بالعمل، ولكنه لم يفعل، ما إن دخل شقته ووجد أن زوجته قد ذهبت إلى عملها، جلس في المقعد القريب من الباب، ثم قام وجلس في المقعد الذي تفضل زوجته الجلوس فيه، ثم قام ودخل غرفة النوم، وقف أمام دولاب ثيابها طويلاً، وما لبث أن أخرج قميصها الموڤ وجلس على الأرض مستنداً على السرير وراح يتشممه ويبكي.. يبكي ويتذكر: كان يأتي إلى المدرسة قبل الموعد بثلاث ساعاتٍ، ينتظر في ركنه المعروف خلف المدرسة وهو ينفخ في كفَّيه استجلاباً للدفء حتى يتوافد زملاؤه، يقدمون له كراريسهم ليكتب لكلٍّ منهم واجبه الذي تكاسل عنه بسبب اللعب، بأجر خمسة قروشٍ أو عشر، وأحياناً ساندوتش فول أو نصف، وكان يفعل ذلك أيضاً في حصة الرسم، التي كانت غالباً ما تخلو من المدرسين ومثلها حصة الألعاب، كانوا يجمعون له كراريس الرسم ومعها الأجر، كلُّ على قدر استطاعته، ويوزعون أنفسهم للمراقبة خارج الفصل وفي الطرقة إلى أن ينتهيَ، ظل يفعل ذلك حتى ارتابت أمه فيه، رغم حاجتها لما يساعدها به في إعالته وأخويه الأصغر وأبوه طريح الفراش، فذهبت إلى معلمته هذه لتسألها إن كان هناك أحدٌ من التلاميذ يشكو من سرقة نقوده، فما كان من المعلمة، التي كانت أربعينيةً ذات وجهٍ عشرينيٍّ وجسدٍ مشدودٍ في هذا الوقت، إلا أن تتبَّعتْ حكايته حتى استجلتْ أمره، فتقرَّبتْ منه وعملت مسابقة في الرسم والكتابة، بينه وبين زملائه، كي تكافأه، إن فاز، بالمال والحلوى والفاكهة، كانت تقدمها له وعيناها تلمع بالسعادة لتفوقه وكأنها أمه.
هل هي من كانت تمده بقصص الأطفال الملونة بعد ذلك، أم أبوها؟
كانت قد تغيَّبتْ أياماً فذهب إلى منزلها القريب من المدرسة ليطمئن عليها، استقبله أبوها مرتدياً بجامة مقلمة وكأنه يعرفه، بل كان يعرفه بالفعل، الآن يدرك ذلك وقد تذكر أنه ما إن فتح له الباب وسأل عنها، بشَّ وجهُهُ القديم وقال:
- أهلاً أهلاً بالفنان الصغير.
بالطريقة ذاتها التي كانت معلمته تقولها بها، ثم قاده إلى صالونٍ شاهق الفخامة مثل الذي كان يراه في الأفلام القديمة، ليبدأ بينهما حديثٌ ظلَّ يتشعَّب، وقد توالت الزيارات لأسبابٍ كانت تتجدد دائماً، في وجود معلمته أو عدم وجودها، حيث كانا يعيشان وحيدَين بعد تجربة زواجٍ من مُعلمٍ زميلٍ لها لم تدُم طويلاً.
هل كانت عقيماً مثلي؟
هبشه هذا الخاطر بمخالب قاسيةٍ في قلبه فقام، سقط القميص الموڤ دون أن ينتبه، شعر أنه يود أن يرى زوجته، أراد أن يخبرها أنه يحبها، أنه ممتنٌ لوجودها في الحياة، فتح باب شقته وهو يمسح دموعه، لم ينتظر المصعد، نزل على السلالم قفزاً، وبقيَ يبحث في الشوارع عن معلمته، وهو يسأل كل من يقابل بعد أن يصفها له، حتى وجد نفسه، آخر النهار، عند قبر أمه، وهناك جلس وراح يتكلم.. يتكلم عن معلمته وما جرى لها، وعن زوجته وتقبِّلها له على الرغم مما به، وعن الأيام التي بدَّلتْ وجهها.


--------------------------------------

رؤية إنطباعية للنص
بقلم / إيمان فجر السيد

القدرة على الإقناع فنٌ لا تكفيه طريقةُ سردٍ واحدة، ولا زمانٍ أو مكانٍ واحدٍ لكن قد تكفينا شخصيةٌ واحدةٌ تقلِّبها الأحداث وتتقلَّب معها، فترغمنا على متابعة مجريات القصة باندماجٍ كاملٍ، وقد لاذ بطل النص بمعلمته طفلاً وبزوجته رجلاً وبأمه باحثاً عنها في كل نساء حياته حتى بعد موتها!

ما من عشوائيةٍ تحرف النص عن مساره رغم تعدد الأحداث والتلاعب في الأزمنة بل نجد أنفسنا أمام قصةٍ مميزةٍ قد سردها القاص بطريقةٍ جديدة ومبتكرة تتشابك فيها الشخصيات والأحداث بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام، فقرأنا في كل زمن قصة وفي كل مكان حكاية، تحكمنا في كل منها درجة حرارة الحدث وارتفاعها أو انخفاضها تبعاً لمشهديته ومناخ سرده الذي أتى مشوقاً حتى في البرد الذي يُجمِّد الأنف ويحرق الرئتين.
وبين حدثٍ دافئٍ وآخرَ باردٍ
تتكاثر الأحداث وتتناسل المواقف مع الذكريات منصهرةً بالحاضر.
وبذا تمكن القاص من إقناعنا بشدة بل وإمتاعنا بطريقته المختلفة في السرد بل والنابضة في الحياة كعادته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى