د. سامي عبد العال - الهَرْش الديني .. في حساسية الإعتقاد

إحدى علامات ( مرض الفكر ) أنْ يتحسس الإنسانُ معتقداته خوفاً من الآخر, على غرار ما يتحسس ( قفاه ) حذراً من تلقي لطمةٍ مفاجئةٍ كاد يتوقعها من مجهولٍّ. وبخاصة إذا كان الآخرُ مختلفاً دينياً له معتقداته وطقوسه وحياته الخاصة. والتحسُس نوعٌ من " الحكْ المتواصل " في جلد المعتقدات ( جلد القفا – الرأس ) بحثاً عن ثباتها ومنعاً لاقتحامها ودرء الشبهات حولها.


وكأنَّ المختلف دينياً سيدفع " الحاكَّ " إلى اختبارات قاسيةٍ فيما يمتلك من إيمان. وباللهجة المصرية الدارجة يُقال: فلان "هارش " فلانا،ً أي أنَّه يعرف تفاصيل حياته ويُدرك جيداً ما ينتوي فعله ويفكر فيه، وماذا يضمر بالضبط. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قد يقتفي (هذا الفلانُ ) أثرَّ ( ذاك العلان ) ترقباً لأفعاله ومتابعةً لحركاته وسكناته. ماذا أكل، ماذا شرب، كيف سارَ، كيف تحدث، ماذا كان يقصد؟!! ولذلك يُقال أيضاً: " اللي على راسه بطحة يحسس عليها "... في محاولةٍ لبث الرعب من الاتهام المسبق لكل من يقابلنا.

ومن عطايا اللغة العربية أنَّ معنى ( الهَرْش ) بين الناس هو الإفساد بينهم، فيما يوقع الضرر دافعاً إلى حالة من الصراع والتغالب. يقال: هَرَّشَ فلانٌ بين هؤلاء و أؤلئك.. أي فتن بينهم بما يوجب إساءة الظن والعراك. والثقافة العربية تنقل المستوى المادي من المعنى الخاص ( اهترشت الديكة واهترشت الكلاب: أي تقاتلت والتحمت ببعضها البعض ) إلى مستوى رمزي هو إيقاع الفتن والتلاسن والشد والجذب واستعراض القوى ومغالبة المواقف. والتّهرُش نوع من الاحتكاك والتحرش الذي ينم عن إساءة التصرف وعدم ترك الآخرين وشأنهم.

هذا بالتحديد ما يجرى في مضمار " الكهنوت الديني الشعبوي" داخل المجتمعات العربية. إنَّه أحد أشكال ( التبجُح المراوغ ) تحت رداء الفضائل والوصاية والتذكير بالاخلاقيات والحفاظ على دين المجتمعات وتقاليدها. تجد أحدَّهم منهمكاً إلى درجة الاستغراق التام في ممارسة هذه المهمة بكل نشاطٍ ودأبٍ كما لو لم يمارسها من قبل. وباستمرار المبررات موجودة: نحن نعيش في بيئات إسلامية لها قيمها وتراثها وحياتها الخاصة... فهل تريدون ( أيا هؤلاء ) القضاء على هوية الأمة وحضارتها؟! أتدعون للفحش وشيوع الرذيلة بين المؤمنين والمؤمنات الغافلات؟ وما الذي يضركم أيها المعترضين، فلسنا نحن العرب المسلمون بدعاً في هذا الجانب، بل مجتمعات العالم كله تحرص أشد الحرص على قيمها وتاريخها؟!! وأن الغرب الملحد الكافر يريد تعرية حياتنا وعيشنا من رداء الفضائل الذي لا نمتلك غيره.

وعلي المنوال ذاته يتحسس كل فرد طوال تنقلاته ومواقفه جميع المقدسات وكأنها بالمقابل تدعوه للهرش في مواضعها الجسدية والمعنوية. ليتغذى الكهنوت الديني من (عيون الناس ونظراتهم وخطاباتهم اليومية ) واقفاً على الحدود الوهمية بين الأفراد. حيث لا يسمحون لبعضهم البعض اشتراكاً حراً في الحياة العامة دون ملاحقة. وبالطبع في المقابل لن يتبلور مفهوم ( الشخص العمومي ) الذي لا ينبغي التفتيش في أفكاره وملابسه وعقله ووجدانه. وأنه طالما ملتزم بالقيم والقوانين العمومية، فليس من أحد (كائنا من كان ) التفتيش في شكله وضميره وما يحمل من أفكار. لأنَّ تلك المساحة المشتركة غدت نهباً للمتطفلين. وقريباً أو بعيداً، ستكتشف بنفسك أنَّ شعوباً بأكملها قد تحولت إلى " ظاهرة تطفل" لزج.

" التطفل اللزج " اقتحام لخصوصية الفرد بما لا يليق بكيانه المادي ولا المعنوي ولا بما يجب احترامه من آدميةٍ وحريةٍ ينبغي التمتع بهما دون تدخل. وإذا كان التطفل ممجوجاً، فما بالنا بكونه تحريضاً للتضيق على الاختلاف الفكري والديني. وما بالنا إذا كان مدعوماً من عادات وتقاليد وتفسيرات دينية دافعة إلى الحذر من الآخرين!! بحيث قد يعيش الإنسان في بيته ويشعر أنَّ جميع الناس يتحرشون به ويطلعون على أدق أسراره.


والمعنى هنا هو أفظع إحساس قد يصل إلى الإنسان المختلف دينياً. لأنك تضعه تحت الاستفهام المباشر، أي تحت التساؤل عما يعتقد كما لو كنت تخاطبه تكراراً مراراً: لماذا أنت مختلف عما أؤمن به؟ وأنَّ اعتقادك يسبب لي حساسيةً من نوع مقصودٍ. وأن ما تقوم به من تصرفات يغاير ما نقوم به نحن المختلفون عنك من أعمال. وأنت تضعنا في عملية التفاتٍ متواصل إليك لكونك لا تنتمي إلينا؟ وهل وراءك شيء سري يمكن أنْ تخبأه ثم تفاجئنا به أم لا؟ وقبل جميع ذلك أنت لا مكان لك تلقائياً بيننا إلاَّ حين نسمح لك ولغيرك بذلك؟ ولن تجد ترحيباً دائماً كأنك شخص من عالم مغاير، فضلاً عن أن ذلك الوضع إحساس يكرس التمايز الديني، ويفتح قوسين حول وضع الأقليات بلا طائل.

هكذا يبلغ المناخ الثقافي في الشرق العربي الإسلامي درجةً بعيدة من الهوس الديني الشعبوي. ليتمَّ التعامل بأدوات الدين الخاصة وصولاً إلى كونه مادة لصياغة الآراء والأفكار والعلاقات والأحاسيس والخواطر والأزياء أيضاً. وبخاصة أن المناخ السابق يمثل صراعاً ضروساً إزاء أصحاب الأديان الأخرى، وهو الصراع الذي اعتبره الإسلاميون المؤدلجون حياة أو موتاً. رغم أنَّهم كمتطرفين هم الذين اشاعوا هذا الهوس والتشدد في المواقف منه، وأتاحوا خطباً منبرية ومتلفزة ومقولات وكتيبات تدعو صراحة للتعامل( للهرش والتحرش ) المتوجس مع المسيحيين واليهود والمرتدين والعلمانيين والكفار. ولم يكفوا عن عمليات الفرز الديني أثناء اللقاءات والأعمال العامة في المؤسسات والمدارس والشوارع والمتنزهات والحدائق الجماهيرية.

لا يفوتنا الخطب المنبرية الشفاهية التي نشرها فقهاء الظلام ( وما أكثرهم ) عبر الأحياء والقرى والعشوائيات والمدن الشعبية والضواحي اللصيقة بها. وأضحت الخطب علكاً يومياً يمضغه المارة والجالسون على المقاهي وأصحاب الحوانيت والبائعون. خطب تحث مثلاً على تحسُس الإيمان كلما قابلنا مسيحياً. لا تقرؤه السلام ولا تلتفت إليه وإذا سمعت ( عطساً ) منه إياك أنْ تقول له: يرحمكم الله بل قل له: هداكم الله. ولا تظهر له مودة ولا ليناً حتى لا تنال غضب السماء. ولئن مرَّ الموقف العابر مع أصحاب الأديان بسلام، فلابد من ( عملية مسح وجرد ) لأفكارنا وقناعاتنا الدينية حتى ندرك ماذا نقصَ، وماذا سُرق، وماذا بقي، وأين الخطر، وهل ترك أثراً أم لا، وماذا عن المرة القادمة؟

وقد اعتبر بعضهم أنَّ مصافحة غير المسلم تنزع الطهارة وتلحق النجاسة وتستوجب الإستغفار. والمسألة بهذا الهرش تضرب بجذورها البعيدة في ( الصورة الشعبوية ) من التراث الإسلامي، حتى أنَّ بعض الفقهاء القدامى كانوا يسيرون في الطرقات العامة وهم مغلقي العينين، مخافة النظر إلى غير المسلمين. وعندما سئلوا عن ذلك قالوا: إنَّه عمل احترازي من صُلب الشريعة لكيلا تقع أبصارُنا على ما يغضبُ الله!! وأنّ غضَّ النظر عن ذلك المشهد يحول دون الانزلاق نحو المهالك!! تطبيقاً لفحوى الآية القرآنية( غير المغضوب عليهم ولا الضالين..).

وامتداد الفكرة ذاتها نجده في فوبيا التعامل الراهن مع الآخر في المجتمعات العربية الإسلامية. لقد قال الاخوان فترة حكمهم لمصر: إنَّهم لن يتوجهوا إلى الاقباط بالتهنئة ولا بالتعزية ولا بالمصافحة ولا بالسلام مهما يكن الثمن. وفي أول ظهوره على كرسي الرئاسة رفض الرئيس الإخواني آنذاك( محمد مرسي) الذهاب إلى الكاتدرائية القبطية لتهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد. وقد عبر أتباعه عن ذلك بكل غلظة أثناء الحوارات وبرامج التوك شو وفي كلماتهم الملقاة شمالاً ويميناً. وكان السلفيون ومازالوا يذهبون المذهب نفسه في اعتباره المسيحية مجرد كذب في كذب وتحريف وراء تحريف. وأنَّ المهادنة مع اتباعها مهادنة مرحلية برجماتية ليست إلاَّ. ولو دار الزمن دورته ثانية، فلن يكون مصير المسيحيين المصريين غير الطرد خارج البلاد.

إنَّ كل عملية فرز ديني تنتهي بوضع المسيحيين خارج الدولة والمجتمع المصري. على الرغم من كونهم أهل مصر السابقين على القادمين من العرب. وهم أسباب تنوع شعبها وثرائه كجزء لا يتجزأ من نسيجها الحي. والتنوع هنا ليس مجرد كم لا قيمة له، لكنه طاقات مهدرة تحت خطابات الإقصاء والتخويف والفرز. كما أن كل مراحل النهوض الوطني في مصر لم تستثن أحداً من عناصرها، لأنَّ ذلك يعني انقسام المجتمع على نفسه وهذا لم يحدث في أحلك الظروف.


عكس ذلك التنوع كان يصب في صالح " الكهنوت الشعبي " كأخطر أنواع السلطات الدينية. وهو ينجرف بحكم التدين السطحي المرتبط بالمظاهر نحو العنف والتعاطف مع الجماعات والتنظيمات الإسلامية. بل لقد استغلت هذه التنظيمات هذا الكهنوت في تدعيم وجودها ونشر أفكارها المتطرفة بين الناس العاديين. وعندما كان يدخل أحد الأفراد تنظيماً إرهابياً ما، فإنه بحكم التعبئة اللاشعورية لمثل تلك (الحساسية المفرطة ) يصبح أكثر شراسة من رفقائه في التنظيم. ويغتاش على مخزون الكراهية في التعبير عن ولائه للإسلام كما يعتقد.
ذلك لأسباب كثيرة تخص هذا ( الكهنوت الديني الشعبوي):


أولاً: لكون تصرفات هذا الكهنوت شديدةَ العمومية، وبالتأكيد لا يستثني أحداً من المُساءلة والتفتيش والملاحقة. لأنَّه لصيق الصلة بنمط الحياة القائم على الحضور الشفاهي لأفراد المجتمع وعناصره. فلو لم يكن هناك شيء ليفعله الفرد، فلا يوجد أمامه غير متابعة الآخرين ومراقبة معتقداتهم. والعمومية قد تعني أنه مشاع بين الناس، يقوم به من يعن له ملاحقة الأفكار والآراء والشخصيات. وأكبر الأمثلة على ذلك، هو تأليب وتحريض فقهاء السلفية الرأي العام على بعض الكتاب والمثقفين. وهم يستندون في ذلك على الكهنوت الشعبي كرأس حربةٍ تجاه الفكر الحُر بالمقام الأول.

ثانياً: يوجد الكهنوت مادياً في أي مكان يخص المجتمع ويمارس سلطاته وقتما شاء. فليس بين الدين وبين غيره من مجالات أي فاصل. ولذلك سنجد خلطاً بين المعالجة الدينية لقضايا الاعتقاد وغيرها من قضايا العلم والإجتماع والإقتصاد والسياسة. وأحياناً لا تنحل المشكلات بهذه الطريقة أو تلك دون خلط، وقد تعطي فرصة لركوب ( الكهنوت الشعبوي ). وبخاصة أن الكهنوت في مجال السياسة يتيح للمتملقين أنْ يستعملوا مفرداته وهيجانه الشعبي للإستيلاء على السلطة.

ثالثاً: إذا لم تكن أنت ممتثلاً للكهنوت الديني الشعبوي، سيفترض أنك خارج عليه لمجرد إبداء إعتراض أو فعل غريب عن الشائع. والخروج عندئذ هو خروج عن الحياة ذاتها وقد يؤدي بك إلى التهلكة. كما حدث مع عمليات الإغتيال للأدباء والكتاب، وهي عمليات دالة على المساحة الأوسع من الكهنوت لا على مجرد ترجمته إلى فعل فقط.

رابعاً: يقتص الكهنوت منك مباشرة وبشكل غير مباشر معاً، لأنَّه يشعرك بالإزدراء والحصار اليوميين تبعاً للثقافة الجارية. فلو اعترضت ستكون أنت موضوعاً للتحرش والنبذ، وليس بعيداً أنْ تسمع خطاباً عاماً باطنه الرجم بالكلمات وظاهره الهدوء والحكمة. أما قصاصه منك بشكل غير مباشر حين يتم تصنيفك بكونك غير مرغوب فيك وإن قلت طوال الوقت عكس ذلك.

خامساً: يتزايد الكهنوت باستمرار من وقت لآخر، لأنَّه قرين العادة وحبيس التكرار والإلحاح ويترسخ بالتقاليد. وهي أشياء تأتي خفية وقوية إلى درجة إغراق الإنسان في المستنقع الطائفي أو في المواقف المتطرفة والإرهابية تجاه الأديان الأخرى. ولذلك من السهولة بمكان ( شحن الرأي العام ) في الحالات التي تتوافق مع السلطة ومع النيل من الآخر المختلف دينياً أو سياسياً.

سادساً: كل دجما شعبوية أكثر عنفاً مما نتوقع، لأنها تضع على حياتك العامة "وصمة اجتماعية" كأنها ختم مقدس لإمكانية المرور أو التوقف أو حتى الترخص تجاه الأمور في المجال العام. ولذلك ليس يبرأ أي إنسان مما يوصم به من ألقاب وعبارات بسهولة. حتى قيل في الأمثال الدراجة ( العار أطول من العمر )، والوصمة التي يصدرها الكهنوت الديني نوع من العار الذي يلحق بالأشخاص والأفكار والرموز على السواء.

سابعاً: إنَّ شرور أجواء التوجس والريبة والإتهام والحساسية الدينية تأتي قبل أية مواقف أو أفعال. فالمختلف سيجد نفسه متهماً دون ذنب، ويصبح مستباح العرض والشأن والخصوصية والكيان. ولذلك فإنَّ أصحاب الأديان الأخرى في بعض المجتمعات المسلمة يشعرون بهذا الأمر، سيجدون أنفسهم مدرجون على لائحة الإتهام بلا مقدمات لمجرد أنهم مختلفون وينتمون إلى تراث فكري وديني آخر.

ثامناً: أساس الكهنوت الديني الشعبوي هو ضرورة الدفع المتواصل على سلوك الطريق نفسه لمن يؤمن به وينخرط فيه واجتذاب آخرين إليه. وفي هذا الإطار، قد ينقلب حتى على اتباعه حين يتكاسلون عن ممارسة مهامهم الرقابية. فالفرد يجب أن يعلن الولاء الكامل له. والمعنى من جهة أخرى أن الأقليات تحاول لأغراض التعايش أن تلتزم بثقافة الأغلبية تملقاً وتزلفاً حتى في التفاصيل الصغيرة، بينما في حياتها الخاصة تذهب نحو إتجاه مغاير تماماً. وهنا سيكون التعايش مشكلة رخوة مثارة باستمرار، وتكون أبسط القضايا قمينة بإثارة أعتى العواصف الطائفية والمذهبية.

تاسعاً: يتمايل الكهنوت الديني الشعبوي مع السوق السياسية الاجتماعية، ويتلون عارضاً ألاعيبه وحيله الخطيرة بالمجان. سلطة مجانية لمجرد أن يُظهر أحدهم (بالانحياز له ) تعجباً من حالة فلان أو من موقف علان. ولذلك فإنه من السهولة بمكان تملق الرأي العام واستعماله في الأنظمة السياسية المستبدة، لأن الكهنوت الديني هو مفتاح السر في المسألة. فقد حفر هذا الكهنوت خنوع الفضاء العام وأوجد ثغرات بينية لا يمكن ردمها تماماً.

عاشراً: يتوسل الكهنوت الديني الشعبوي بالأخلاقيات والقيم الجارية زاعماً حراسته لها. بينما هو ينتعل كل حياد وعدالة ومساواة لصالح الاقصاء والغلبة والمكيدة. لأن الكهنوت يقلب الإنحيازات إلى جانب أخلاقي يلوح بالاتهام به إزاء من يشاء. وذلك من قبيل التهديد والوعيد، فإذا كان من غير الممكن إثناء أهل الأديان الأخرى عن مواقفهم، فليس أدنى من ملاحقتهم أخلاقياً بتهم الخروج عن القيم والتقاليد. لأن أختام (الوصمة والمعايرة) تأتي من هذا الباب الواسع.

حادي عشر: يقف الكهنون الديني الشعبوي ضد التسامح والحوار وقبول المختلفين، بل يمنع تلك الأجواء المفتوحة - إن وجدت- من تدعيم المجتمع المتعدد والمتنوع. هناك مثل شعبي معبر يقول( صباح الخير يا كنيسة.. اللي في القلب في القلب). وهو عبارة تؤكد أن الكهنوت صارم وحاد المواقف، ويبدو متساهلاً في الظاهر، لكنه يضمر كراهية لمن لا يرضى عنه ويظل يناصبه العداء طوال الوقت.

ثاني عشر: يقوض سلطة الدولة وفضائها التداولي، لأنه غرائزي وشهواني ويميل إلى تشكيلها في صور إقصائية عنيفة. بدليل أن دول الربيع العربي تحولت إلى فوضى عارمة باسم الكهنوت الديني الشعبوي. وهو ذاته قد تحول إلى أداة نهب وسرقة للأموال والعقارات وممتلكات الغير. ولم يكن أحد ليتوقع هذه الفوضى العارمة في مجتمعات تدَّعى الطهرانية والإخلاقيات.

ثالث عشر: ينشر الكهنوت الديني الشعبوي الجهل على نطاق واسع، فشيوخ الجماعات المتطرفة يحظون بمكانة وسطوة ضخمة دون معايير حيادية. أي أنهم يقمون بكل مهام البطولة الشعبوية المفقودة في حياة الناس والتي يجدونها عوضاً عن ذلك في الدين، وهم المثال الخفي الذي ينتصر لما تفتقر إليه بعض المجتمعات من عدالة ومساواة ورفعة.

رابع عشر: يغذي الكهنوت الديني الشعبوي النعرات المذهبية ويقتل الإبداع ويربط الإرادة الفردية بغرائز الجموع وتكتلها نحو التخلف والجمود أحياناً. لأنه يضع المعايير لكل اعناصر المجتمع ويرفض فكرة الفوارق الفردية. هو يقبل الكتل، تحرك الجموع وتماهييها في كيان كلي غائم تحت خطوطه الصارمة.

محصلة ذلك كله تعكس هشاشة الوضع العام أمام التنوع الثقافي والديني في المجتمعات العربية الإسلامية. لأن سلطة الغوغاء هي التي تحدد مصير الأفراد والحريات والأوزان المعطاة للأديان والعلاقات مع أصحابها ورصد ممارساتهم اليومية. وبالتالي يصبح ركوب كتل الجماهير والحشود هو الوسيلة لبلوغ المآرب السياسية والتنكيل بالمخالفين. وعلى أثرها يغدو المجتمع دائرة كبيرة من "الغمز واللمز" حتى ظهرت أشاراتها أمام البصر ذهاباً وإياباً.

وهو ما يجعل حياة الناس كابوساً يفتش في ضمائرهم وإيمانهم تحت سقف النفاق واخفاء ما يجب إظهاره. ولذلك مهما حاول العرب التخلص من جماعات وتنظيمات وتراث الارهاب، فالمناخ المغلق أمام الحريات الفردية وتباين المعتقدات واختلاف الرؤى وتمايز الفوارق الفردية سيولد أنماطاً غريبة من العنف الديني القائم على الكهنوت قبل أن يحل في تنظيم أو جماعة. ونحن نظل سنوات وسنوات: نتساءل ما السبب؟ وكيف نتجنب ذلك؟ بينما الأسباب والجذور كامنة عبر ثقافة الكهانة في ظل مجتمعات حاضنة للإقصاء بالتاريخ والتقاليد.

وبالتالي ما لم يتم تنظيف وتطهير هذا " القاع المظلم " من ثقافة الكهنوت الشعبوي والهرش الديني وحساسيات الاعتقاد، لن يأتي الأمل في حياة مفتوحة للجميع، ولن يكون العمل العام إلاَّ تبديداً لجميع الجهود. فالاستثمار في بناء الإنسان الحر كتقنية لتأسيس المجتمعات المفتوحة لهو أقصر الطرق للاعتراف بالتنوع وممارسته دون حساسية. إنه الضمان المستقبلي لقبول الآخر وترسيخ التعايش والإندماج على صعيد أبعد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى