أشرف الخضري - قصة زينب

الذئب قتل كلبنا الوحيد الذي يحرس البيت والبهائم، استدرجه حتى عبر إليه المصرف الذي يروي الأرض، وقتله من المحاشم.
أبي كان يتعمد المشى في الأماكن الموحشة حتى يلقاه، يومها وقفا أمام بعضهما البعض ، جدك ألقى إليه عامود ملبن كبير فالتصق بين أنيابه وانشغل فيه، ألقى عليه العباءة وقفز عليه؛ حاصره بداخلها بقوة وطعنه بالخنجر طعنات قوية متتالية حتى سمع صرخة عوائه الأخيرة الخاطفة، حمله إلى البيت كفارس مهزوم، شق بطنه وأكل كبدته نيئة وعلقه على التوتة أمام البيت.
في صباح اليوم المشؤوم الرجل الشائب أباظة أغطست رأسه فى ماء الطلمبة ،وضربته على رأسه بسطل اللبن، وجرسته أمام حريم العزبة، لكي يتوب عن الاحتكاك بالبنات والحريم، كنت أشعر وأنا أجذبه من شعره كأنني أمسكه من قرنيه، كانت قرونه حقيقية كالماعز.
جدك رحمه الله لم يكن يأكل من غيري أبدا، كنت ذراعه اليمين، كان أجمل رجل في العزبة، شعره أصفر ولون عينيه أخضر،طول وعرض وهيبة،كان الناس يسمونه النزيه.

القمر ليلتها كان بدرا، أخذت العشاء لجدك في الغيط مثل كل يوم، أذهب إليه بالعيش الطري المخبوز في فرن البيت، والجبنة والبيض والبصل، أجمع القشدة يوما بعد يوم وأصنع منها السمن البلدي والعجوزة، كنت أحب أن أراه وهو يشرب لأسمع زغردة الماء من شفاه القلة الفخار و جريان الماء البارد على رقبته وصدره بعد لقمة هنيئة ،وحينما يعيد القلة مكانها على شجرة النبق أحس أبي أطول رجل فى البلد.
“وقيد الطابونة ” والكوانين أصنعه بيدي من الأقراص التي أجمعها من روث الجواميس ، و قلاويح الذرة الشامية بعد أكلها نخزنها كالفحم.

كنت أغني ( يا أمه القمر على الباب ) وأنا أسير على حرف الأرض، شعرت بخطوات تتبعني، توقفت، إلتفت فلم أر أحدا، عيدان الذرة عالية ولها هيبة، انقبض قلبي لكن أبي على مرمى بصري فأحسست بالأمان ، أمام شجرة الجميز العامرة بالشهد، رأيتها بعيني!

ماذا رأيت يا أمي؟
أرانب ! أرانب كثيرة تلعب، قلت : ( رزق أرسله الله )، وضعت الصينية على الأرض، شمرت جلبابي الواسع وجعلت له حجرا مثل إناء، حاولت الإمساك بأرنب أو أكثر، أرانب بيضاء وسوداء ، ظللت أقبض على أرنب بعد الآخر وأضعه فى حجر جلبابي العميق، أمسكت أربعة أو خمسة لم تحاول الهرب مني، كاد قلبي الصغير ينفجر من الفرحة، أغلقت حجر الجلباب جيّدا، قعدت على قرافيصي وحملت صينية الأكل بيد واحدة ووضعتها على رأسي ومضيت إلى البيت، كنت أمشي خفيفة كفراشة دون أي شعور بثقل الأرانب في حجري.
عندما وصلت طرقت الباب بعجيزتي، سألتني جدتك – ماذا تحملين في حجرك يا زينب ؟
قلت لها أرانب يا أمه أرانب !
أمي لطمت خديها وصرخت ياااااااا مصيبتي.
ظللت طريحة الفراش عدة أسابيع، حلاق الصحة عجز عن معالجتي من الحمى الغريبة التي ظلت في جسدي، الشيخ مراون الكفيف جارنا قرأ سور قرآن كثيرة ،
الحاجة مريم أعدت لي حجابا وأمرت أمي بعمل ( تبييتة بعد تبييتة ) وقدمنا قرابين، ديوك ذبحتها أمّى وطلت وجهي وبطني بدمها الساخن، شموع أشعلتها، وضعتها مع حلوى وحمص ولبن وعسل وفول سوداني وملبس وورد أسفل السرير، ليالى كثيرة رأيت الموت بعيني ولكن الله أنجاني.

بعد ثلاثة أعوام من فرحي، رأيت امرأة عريانة تمشي فى صالة البيت باتجاه الحمام.
ضوء لمبة الجاز الوحيدة التي تضيء شقتنا هذه وهي ما تزال طوبا أحمر لم تجعلني أشك أنني أنظر بعيني إلى امرأة عارية فائقة الجمال، شعرها الذهبي يغطي ظهرها كله ويستر عجيزتها تماما.
كنت أرضع أخاك ضياء، لم أنطق بحرف تجمدت عيناي عليها وصوت أنفاسي يتسارع ونبضات قلبي تنتفض ورعشة تهز جسمي كله، قالت لي بلهجة واضحة ( لا تنظري لي! ) كنت متيبّسة ككوز ذرة تحمص في الشمس،كنت مشلولة لا أستطيع تحريك أصبع أو رمش، فوهة اللمبة الجاز أخذت تفيض بالهباب كمدخنة فرن كبيرة، الدخان الأسود ظل يتعاظم حتى أظلم البيت، عندما أفقت لم أجد ضياء على صدري، أخذت أفتش في أركان البيت كالمجنونة وأنا أبكي ( والنبى يارب ) ، ظللت أبكي وأتوسل، طلبت السماح، نحيبي الهادر هز حيطان الشقة دون أن يسمعني أحد، فتشت تحت السرير، بحثت عن أخيك في الحمام، فتحت الدولاب ضلفة ضلفة وأخرجت ثيابي وثياب أبيك،ولم أجد لأخيك أثرا، قعدت على الأرض وأخذتك في حجرى وأنا أبكي وأملي في ربنا لم ينقطع، بعد ساعة أو ساعتين ، الدخان تلاشى، وذابت العتمة، سمعت صوت بكاء أخيك باهتا وضعيفا ،تتبعت الصوت ، وجدت ضياء محشورا بين كتف الدولاب والحائط ، أخرجته برفق ضممته في صدري وظللت أبوسه وأبكي وأنا آخذ أنفاسه في أنفاسي قبل أن أهوى على الأرض ساجدة لله .


[HEADING=2]قصة زينب [/HEADING]
[HEADING=2]سبتمبر 2017[/HEADING]



[HEADING=2]مجموعة في ثقب بيضة.[/HEADING]
[HEADING=2][/HEADING]


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى