في منتصف النهار، تلقى صاحب كل "فرشة"، إنذارًا، بإخلاء الشارع المحاذي للسوق، اضطرب المكان، سادته الفوضى، وأقبل الباعة على بعضهم يتساءلون، وضج الشارع بهمهمات تذمر هامسة، الرجال دبت في أوصالهم رعشة الخوف "من بكرة" والحل إيه؟!. ونساء يجلسن فوق فرشاتهن، يجففن بأطراف أسمالهن، دموعًا تلسع خدودهن المتشققة في صمت، مطلقات وأرامل، ينتظرن عودتهن كل مساء، سلة مثقوبة، من طلبات لا تنفد للبيت والأولاد.
قض مضجعه رنات متتابعة من هاتفه المحمول، مد يده يتحسس سطح طاولة شاغرة بجوار سريره، التقط الهاتف. الرقم غير مدون على شاشته المضيئة، بعد طول تردد، تركه إلى أن أفرغ آخر زفراته، أعاده إلى طاولته، واستدار يستأنف نومه. لم يمهله زعيق الهاتف ليهنأ ولو بدقائق تغفو فيها عيناه، شعر وكأن طبولا تدق في قعر أذنه الوسطى، سحب الهاتف بعصبية وهو يتلمظ:
ـ نعم؟! فيه أيه؟!
سمع من يستعطفه بصوت، شجته بحة حزن ثقيلة، يرجوه أن ينفق بعض وقته بالمرور عليهم في السوق يتفقد أحوالهم، ويستنجد بشفاعته، عساها تصادف قلوبا حانية، بلا جدران صخرية، ترخي عتمتها على إحساسها، بالمنسيين في قاع الهوامش المحطمة.
تواعدا.. التقيا قبيل المغرب، شاب نحيف، يقف مرهقا خلف فرشته، ينادي على ما تبقى عليها من خضار فقد نضارته، خط الفقر حفرًا وأخاديد على وجهه الأسمر، لا تكاد تحمله قدماه المرهقتان، لا يفارقه التثاؤب المتكرر، عيناه محتقنتان من قلة النوم، يغالب حاجته إلى الراحة بعد قضاء نهاره أمام فرشته في شارع.
ـ تصدق علينا بزيارة بيتي الذي أسكن فيه.. لتسمع وترى!
مدق ضيق غير معبد، يمضغ العابرون دخانه الأسود، محشور بين ترعة زحفت الحشائش، وشجر الغاب على نصفها من جهة، وسور من شجر الفلاوة المتلاصقة، يطوق عددا من مزارع المانجو المتجاورة، من جهة أخرى. تسدل الأتربة والغبار ستائرها الثقيلة على عيون السائقين، تتقافز التكاتك وعربات الكارو فوق الحفر والمطبات، تتسابق في مسارات متعرجة، تتفادى بمشقة الصدام ببعضها، بلغت روحه الحُلقوم وفقدت سيارته نصف عمرها، تركها في كفالة أرض خلاء على أطراف القرية. دلف إلى طرقاتها وأزقتها المعتمة، يتفرس عيونًا غائرة، أعياها نفاد صبرها، في انتظار من يدس في يدها خبيئته، ووجوها يلكمها الفقر بقبضته القاسية، وأجسادا ينهش لحمها الناشف الجوع والمرض، وأطفالا تهرول في الأزقة حفاة ونصف عرايا، وصبايا واهنات، عدن لتوهن من الترعة المجاورة يحملن جرار المياه الملوثة والملابس المغسولة، ينشرنها على حبال معلقة بين واجهات الدور المتقابلة، البيوت تتلاصق وكأنها تتساند وتتدثر وتحتمي ببعضها من خوف تجهل مصدره، نصفها بلا أسقف.
دلف إلى بيت صاحب الفرشة: خمس غرف نصف مسقوفة، واحدة لأمه المريضة والبقية مقسمة بين أربع أشقاء متزوجين يتقاسمون الرزق بالتناوب على "فرشة" واحدة بالسوق.
رشف رشفتين من كوب الشاي.. نهض متثاقلا بتنهيدة يائسة.. سحبه من يده بعيدًا، نظر إليه بشفقة:
ـ الباشاوات لا ينظرون إلى قاع البئر.. إلا إذا!
وهمس في أذنه بكلام .. ثم استأذن وانصرف.
*** من مجموعتي القصصية "الفيلا رقم 5"
قض مضجعه رنات متتابعة من هاتفه المحمول، مد يده يتحسس سطح طاولة شاغرة بجوار سريره، التقط الهاتف. الرقم غير مدون على شاشته المضيئة، بعد طول تردد، تركه إلى أن أفرغ آخر زفراته، أعاده إلى طاولته، واستدار يستأنف نومه. لم يمهله زعيق الهاتف ليهنأ ولو بدقائق تغفو فيها عيناه، شعر وكأن طبولا تدق في قعر أذنه الوسطى، سحب الهاتف بعصبية وهو يتلمظ:
ـ نعم؟! فيه أيه؟!
سمع من يستعطفه بصوت، شجته بحة حزن ثقيلة، يرجوه أن ينفق بعض وقته بالمرور عليهم في السوق يتفقد أحوالهم، ويستنجد بشفاعته، عساها تصادف قلوبا حانية، بلا جدران صخرية، ترخي عتمتها على إحساسها، بالمنسيين في قاع الهوامش المحطمة.
تواعدا.. التقيا قبيل المغرب، شاب نحيف، يقف مرهقا خلف فرشته، ينادي على ما تبقى عليها من خضار فقد نضارته، خط الفقر حفرًا وأخاديد على وجهه الأسمر، لا تكاد تحمله قدماه المرهقتان، لا يفارقه التثاؤب المتكرر، عيناه محتقنتان من قلة النوم، يغالب حاجته إلى الراحة بعد قضاء نهاره أمام فرشته في شارع.
ـ تصدق علينا بزيارة بيتي الذي أسكن فيه.. لتسمع وترى!
مدق ضيق غير معبد، يمضغ العابرون دخانه الأسود، محشور بين ترعة زحفت الحشائش، وشجر الغاب على نصفها من جهة، وسور من شجر الفلاوة المتلاصقة، يطوق عددا من مزارع المانجو المتجاورة، من جهة أخرى. تسدل الأتربة والغبار ستائرها الثقيلة على عيون السائقين، تتقافز التكاتك وعربات الكارو فوق الحفر والمطبات، تتسابق في مسارات متعرجة، تتفادى بمشقة الصدام ببعضها، بلغت روحه الحُلقوم وفقدت سيارته نصف عمرها، تركها في كفالة أرض خلاء على أطراف القرية. دلف إلى طرقاتها وأزقتها المعتمة، يتفرس عيونًا غائرة، أعياها نفاد صبرها، في انتظار من يدس في يدها خبيئته، ووجوها يلكمها الفقر بقبضته القاسية، وأجسادا ينهش لحمها الناشف الجوع والمرض، وأطفالا تهرول في الأزقة حفاة ونصف عرايا، وصبايا واهنات، عدن لتوهن من الترعة المجاورة يحملن جرار المياه الملوثة والملابس المغسولة، ينشرنها على حبال معلقة بين واجهات الدور المتقابلة، البيوت تتلاصق وكأنها تتساند وتتدثر وتحتمي ببعضها من خوف تجهل مصدره، نصفها بلا أسقف.
دلف إلى بيت صاحب الفرشة: خمس غرف نصف مسقوفة، واحدة لأمه المريضة والبقية مقسمة بين أربع أشقاء متزوجين يتقاسمون الرزق بالتناوب على "فرشة" واحدة بالسوق.
رشف رشفتين من كوب الشاي.. نهض متثاقلا بتنهيدة يائسة.. سحبه من يده بعيدًا، نظر إليه بشفقة:
ـ الباشاوات لا ينظرون إلى قاع البئر.. إلا إذا!
وهمس في أذنه بكلام .. ثم استأذن وانصرف.
*** من مجموعتي القصصية "الفيلا رقم 5"
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com