إيمان فجر السيد - قراءة أدبية لنص القصة القصيرة (اسمها) للقاص: ياسر جمعة

القاص: ياسر جمعة

(اسمها)

أيقظَتْهُ وهي تلومُه لأنَّه لم يسألْها حتى الآن عن اسمها، كان قد مرَّت شهورٌ منذ وجدها نائمةً بجوار صندوق القمامة، اعتدل وبقايا النوم والدهشة يُلوِّنانِ وجهه الطفولي:
"إيه!".
مسحتْ ضحكتها التي رنَّتْ ما علقَ بوجهها من غضبٍ، ابتسم لعينيها السوداوين اللَّامعتين وقال:
"صحيح اسمك إيه؟".
ولمسَ خدَّها بأطراف أصابعه، أبعدتْ يدَه، ورسمتْ الغضب المصطنع على وجهها مرَّةً أخرى، وقالت:
"مش هقول".
"والنبي والنبي".
"لأ".
"عشان خاطري".
"هات لي شكولاته الأول".
تلفَّتَ حولَهُ، كانت شوارعُ ما بعدَ الفجرِ خاليةً تمامًا، ومع ذلك قام، فقالت:
"خلاص، لمَّا المحلات تفتح، ياسر.. يا ياسر".
لم يردْ عليها، فكادت أن تقوم هي الأخرى وتلحقْ به، ولكنَّه توقَّف على مقرُبةٍ وراح يتبوِّل، ثمَّ عاد إليها.
في هذا الصباح حكتْ له أنَّها ما زالت تذكرُ عائلتها، خاصةً أمها، التي كانت تُغنِّي لها دائمًا، تغني وهي تحملها وترقص بها في منزلٍ نظيفٍ، أغاني عن كل شيء.. عن الحروف والسماء والعصافير، وعن الطعام، كلُّ أنواع الطعام، حكَتْ له أنَّ أمها فجأةً صمتتْ، وبدأت تتركُها وحدها وتنام كثيرًا، وآخر مرَّةٍ رأتـها فيها، كانت تحمل طفلًا وتنظر إليها وتبتسم، حكتْ له أنها لم تكن هي ابتسامة أمها التي تعرف، فقد كانت ابتسامةً شاحبةً، وكذلك كانت أمها شاحبةً جدًا وهزيلةً، وكان حولها كثيرون يتحدَّثون فيما بينهم بأصواتٍ عاليةٍ، وبعد ذلك وجدتْ نفسَها تعيش مع من عرفت فيما بعد أنها جدُّتها، جدُّتها التي لم تكن تتكلَّم معها إلا نادرًا، مع أنها كانت دائمًا ما تتكلَّم مع نفسها.
"كانت أوقات تقول لي ياماما، فأضحك وأقول لها نعم يا بنتي، وأغنِّي لها".
يلاحظُ الحزن الشفيف رغم الابتسامة في وجهها المتسخ، فيتذكَّر أنها حكتْ له سابقًا عن أنها لم ترَ أمها أبدًا، وأنَّ مَنْ كان يغني لها ويحملُها ويتمايلُ بها، في حكاياتها السابقة، كان أبوها ذا الشارب الكثِّ والرائحة التي كانت تجعلها تنام ما إنْ تستقرَّ في حضنهِ.
"كنت بغني لها أغاني ماما".
أضافت، فلمسَ خصلةً من شعرِها الأسود الناعم، وقال:
"غني لي".
"لأ".
"والنبي".
وقبل أنْ يُكرِّرَها قامت مبتعدةً عنه بجسدها الصغير.
"يللا، الصبح طِلع".
ولكنَّها عادت ومدَّتْ كفَّها إليه، بسط كفَّه، جذبَته، فرأى، بعين خياله، كفَّا كبيرةً جدًا تُفلت كفًّا صغيرةً عمدًا في وسط طريقٍ مزدحمٍ.



.............

قراءتي الأدبية


عندما يكون خيال الكاتب موحيًا يفقد القارئ قدرته على المحاكمة لأنَّنا نرى السرد هنا عمليةً متشابكةً مرتبطةً سيكولوجيًا بالحلم متفاعلًا مع
الذاكرة والإدراك متأثّرًا بالصور الآفلة والأحداث الماضية مُدركًا العواطف التي عاشتها بطلة النص الذي انتهى...
ولمّا نعرف (اسمها) بعد!

ينطلق بنا الكاتب مباشرةً من قلب الحدث:
أيقظته وهي تلومه...
وعندما نسترسل في القراءة نجد أنّ النص يتحدّث عن طفلَين من أطفال الشوارع ضالَين
لا أهل لهما ولا مأوىً
مُصوّرًا لنا مشاهد صغيرة من تشرّدهما من خلال جمله الوصفيّة والمشهديّة التي اتّخذت من عاملَي الزمان والمكان سقفًا لها :
(لقد مرت" شهور" مذ وجدها نائمة " بجوار" صندوق القمامة)

أمّا أزمنة السرد فلقد نجح القاص في التلاعب بها مرواحًا بين الزمنين الحاضر والماضي فنراه يعود بنا إلى الزمن الماضي تارةً وتارةً أخرى يتمترس في الزمن الحاضر مستعدًا للعودة بنا إلى الوراء، ولا يلبث أن يغادر الماضي ليعيدنا إلى الوقت الراهن من الحدث، فنرى السرد مثل سلم نتسلق درجاته صعودًا وهبوطًا برشاقةٍ، فيخبرنا بترتيبها الزمني أثناء سرده، كما يخبرنا عن حدَثَين ماضيين أو أكثر حدَثا في نفس الوقت بأحداثٍ متوازيةٍ قد تسبَّب حدوث أحدهما بحدوث الآخر عبر تقاطع الأحداث لإعداد المشهد ذاته أثناء شرح حدثٍ ما... مرّ بالذاكرة تقابلًا مع الحدث الرئيس، ملقيًا الضوء عليه بشكلٍ غير مباشرٍ لإيضاح خلفيّة القصة، وقد نسجها عبر خطوةٍ إلى الوراء وخطوةٍ إلى الأمام معتمدًا على الأطياف....
(الأم، الجدة، الأب)
التي تمرّ بذاكرة بطلة النص أثناء سرده
دامجًا الأزمنة بترابطٍ رهيبٍ مُرتّبًا صوره وأحداثه بوعيٍ لافتٍ مّما جعل النص شيقًا.

استطاع القاص إنجاح دور البطولة للطفلين المشرَّدَين، وإضفاء لمساتٍ شاعريةٍ رقيقةٍ وبريئةٍ بينهما تسودها الرحمة والإنسانية والعطف والشعور بالآخر.....

نلاحظ أنّ القاص اتّخذ ظاهرة تشرّد الأطفال بؤرةً للحدث.
هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة التي تُعتبر من الظواهر المنتشرة في الوقت الحاضر، بعد أن تفشّت آفات الفقر والجوع نتيجة طغيان الحروب أو نتيجة التفكّك الأسري أو نتيجة موت أحد الأبوين أوكليهما دون أنْ نجد معيلًا أو كفيلًا لهم....
الأمر الذي يدفع الطفل للخروج إلى الشوارع ليحيا حياته الخاصة المليئة بالمجون والانحراف.

عبر خيال الكاتب الذي اجتاح خيال أبطال النص عابرًا الواقع....
نقف أمام قطعةٍ سرديّةٍ مترفة الجمال تتشظّى صورَها إلى مراحل حياتيّة إجتماعيّة عديدة استلهما من أرشيف ذاكرة البطلة بعد أن نشأت في عقل الواقع من الحارات المصرية إلى حارات الذاكرة الممزوجة بالماضي، فتنتقل من خيال الكاتب النادر إلى خيال القارئ الحصيف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى