د. محمد شحاتة - جماليات الواقع والذكريات بين الاتصال والانفصال.. قراءة في رواية "شارع العزب" للروائي القاص أ./ شريف محيي الدين

شريف محيي الدين أديب من الطراز الرفيع، لا يكتب إلا وقد تتقاطر مشاعر الشجن وانحناءات الأحاسيس في ثنايا الكلمات، متمازجا بدراما الحدث النابض والتشويق المتطلع، في إطار فكري متبلور بجماليات الأساليب الأدبية وبدقائق فنون النص النثري وتقنيات الكتابة الحديثة، فهو عندما يكتب الرواية فإنما يكتب الفكر والتفاصيل، ثم يبني الوقائع الدرامية في ثنايا تلك التراجيديا والأشخاص في تلاحمية الحديث بين اشتظاء للزمان بصور بارعة في أبعاده الماضية والآنية والمستقبلة، وكذلك في أبعاده لدى القارئ من حيث الزمن المعيش في الرواية أو الزمن المستغرق لقراءتها أو الأزمان المتشظية بالاستدعاءات على حسب الحدث، بتقنية الفلاش باك، وذلك حتى تتكامل في أزمان الحوارات والأماكن والوقائع، فتخرج الرواية في حالة نابضة بين الواقع المتشابك والماضي بحنينه، والمستقبل الحالم، والخيال المحلق في مرارات الألم وحرارة الأمل.

وتعد رواية شارع العزب نموذجا لهذه المعادلة الفريدة والشائقة، فالكاتب في البداية لا يفصح للقارئ عن كامل بوتقته السحرية، أو أنه يكشف عن مكنون سياقات النص أو الحكي، أو أن يصرح بمراده بصورة مباشرة، لكن يتبع أجمل أساليب الفن القصصي في الأدب بمهارة وابداع خلاب، ولغة رصينة جميلة عربية فصيحة سهلة، فهي فصيحة في السرد، وتضفرها بالعامية الراقية في بعض الحوارات بين الأشخاص، وبهذا وفيه وبينه يقول كل شيء، من خلال اللاشيء بالمباشر، هو يبسط الأحداث ويهتم بالتفاصيل، وتلعب الأشخاص أدوار بطولات تصنع الحدث ومرامي التشويق، فالكاتب يهمه الحدث المؤدي إلى الفكرة ويبلوره بأساليب الجماليات واستدعاءات الصورة الذهنية لشخصيات قصه وحكيه.. ويعرج إلى قضايا اجتماعية وثقافية وحضارية، ويطرحها على المتلقي طرحا فنيا فريدا وماتعا.

ورواية "شارع العزب"، في حقيقتها نص روائي فريد، وقلما ينسج على منواله قاص، لأنه مع قدر إبداعه، فإنه زلق خطر، يحتاج إلى تمكن وبراعة فوق العادة من الروائي، ولعل هذا ما يتمتع به الكاتب، إذ أن الرواية ليست نصا روائيا متصل السياق والوقائع والأحداث، بل هو متوالية قصصية، تتلاحم وتتشابك في القصص القصيرة لتكون رواية واحدة. وهذا يستتبع يقظة فنية من الروائي غير عادية، فهو يكتب قصصا كل منها مستقل في حدثه وسياقه وأشخاصه، ثم يجعل من كل منها حدثا أو جزءا من حدث روائي أكبر، في سياق واحد أكبر هو الرواية الأم.

وهذه التقنية الفنية الفريدة، تقلدها الكاتب بحرفية فنية أكثر من رائعة، وتثير قضايا التقنيات الفنية الدقيقة في إنشاء النص الإبداعي، والتي لا يتقنها إلا أصحاب المواهب الفذة، والإمكانيات الأدبية الفائقة، وهي قضية التماسك السياقي بين الاتصال والانفصال القصصي، وقضية الاحتباك والانفكاك الحدثي، وقضية استدعاء الشخصيات الحقيقية، وقضية أدب التراجم بين التوثيق والفن.

أما قضية التماسك السياقي بين الاتصال والانفصال القصصي، فمقتضاها المحافظة على تماسك السياق ومعناه، وعدم شرود ذهن المتلقي عن نص الرواية، والعمل على تواصل الحالة الذهنية للمتلقي وقدرته على تصور الأحداث ومعايشتها، وذلك رغم انتقال الكاتب من نص إلى آخر في السياق ذاته، أو عبر انتقاله إلى سياق آخر في قصة أخرى في قصص المتوالية داخل الرواية. فإن الانتقال من حوار إلى حوار أو من حدث إلى حدث داخل القصة الواحدة قد يجد الكاتب من الروابط الفنية واللغوية ما يعينه على تواصل الفكرة مع المتلقي، أما الصعوبة ففي الانتقال إلى سياق آخر في قصة أخرى، وهنا الاختبار الحقيقي للمبدع، إذ لا تعينه الروابط اللغوية، وعليه أن يعتمد على براعته في رسم الصورة الذهنية عند المتلقي بما تتسع معه لسياقات الأحداث السابقة في القصص السابقة، وكذلك الحلقة الداخلة في المتوالية.

وقد برع كاتبنا في تفعيل هذه التقنية الفنية العالية المستوى، فحافظ على الانفصال في كل قصة، لدرجة أنك تقرأها وتتمتع بها، دون الحاجة أن تقرأ التي تليها أو التي تسبقها، مثل قصص: (النجفة، و نهى وشرين، والألم، وعودة ريم). وفي الوقت ذاته نجده حافظ على التماسك السياقي العام للرواية بالاتصال السياقي وتتالي الأحداث وتلاحقها، حيث أقام جسرا دراميا بين تلك القصص وغيرها من قصص المتواليه، بحيث إن قرأت كل واحدة تشعر بأنها تتمة للتي تسبقها، أو أنها تمهيد لازم لما تليها.

وأما قضية الاحتباك والانفكاك الحدثي، فمقتضى الاحتباك إثبات الأحداث في السرد أو الحوار، وحذفها من سرد أو حوار مقارن، في السياق، بحيث أن الحدث الذي ثبت، في الحوار، يدل على المحذوف في الحوار أو السرد الآخر. أما مقتضى الانفكاك هو انفصال الحدثين أو الحوارين. وذلك مثل ذكره لقصية أبيه، وشراء السيارة، وسلطتي الأب والأخ الأكبر، والحادث الأليم، وشوقه لأخيه، ثم ذكره للموت وأثره. نجدها في قصص (نهى وشرين، والسلك والفيشة، وسيارة أبي)، فنجده يحدث انفكاكا بين الأحداث، ليشعر المتلقي بمشاعر وجدانية خاصة بكل حدث، ثم يحتبك في الصياغة بحيث تتكامل الأحداث والحوارات بعضها مع بعض، وما لم يذكره في موضع يدل عليه الموضع الأخر حتى تكتمل صورة أكبر وأكثر اتساعا وأدق في التفاصيل.

وأما قضية استدعاء الشخصيات الحقيقية، مثل: (أ.د./ محمد زكريا عناني، و أ./ جابر بسيوني، و أ./ محمد الفخراني ... وغيرهم) وهم شخصيات اجتماعية وعلمية وأدبية فريدة وعالية القيمة وعلمية معروفة ومشهورة، وهو بهذا الاستدعاء للشخصية الحقيقية في سياقه الأدبي محاط بثلاث دوائر حمراء يستتبعها ثلاث دوائر استيعابية.

أما الدوائر الحمراء هي تلك المتعلقة بتناول الشخصية في الرواية، فالدائرة الأولى أن يتناولها على وجه الحقيقة، وبذلك يخرج بعمله من سياقه الأدبي، ويلجه في سياق السير الذاتية التوثيقية، مما يفقد العمل جماله الأدبي، وغالبا لا تتوافق الشخصية الحقيقية ومعطياتها مع النص الأدبي ومستلزمات الحدث الأبي وسياقه. والدائرة الثانية أن يتناول الشخصية تناولا أدبيا محضا دون أي مراعاة لحقيقية الشخصية وأطارها المميز لها، بما يؤدي إلى تفسخها وتمييعها، بل قد يفقد مصداقيته لدى المتلقي الذي على درية بتلك الشخصية. أما الدائرة الثالثة وهي دائرة الإبداع المتميز، وهي التي اختارها كاتبنا، حيث استدعى الشخصية بما تحمله من صورة ذهنية في ذهن المتلقي، وما تمثله من قيمة وعلم، ثم هو يضع مخيلته الفنية داخل هذا الإطار ويتمدد فيه، ويضيف فيها ويتعمق بخياله، دون أن يصل لدرجة تفسخ الشخصية، ودون أن يحافظ على تمثالها في الواقع، ثم يبني الخيال على ملامح الواقع، بحيث لا يمكن إبدالها بغيرها، ولا يمكن الاستغناء عنها وجزها من العمل الفني.

أما الدوائر الاستيعابية فهي دائرة المبدع، ودائرة المتلقي الذي لا يعرف الشخصية الحقيقية المستدعاة ، ودائرة المتلقي الذي يعرف تلك الشخصية. فالمبدع أعمل ذهنه واستعمل فسيفساء البناء النصي الفني في التمدد الخيالي للعمل الفني المنفك في القصة، والمحتبك في الرواية. وبالنسبة لدائرة المتلقي الذي لا يعرف الشخصية ، فإن أجواء الخيال والسياق وحقيقة الشخصية في العالم الخارجي يصنع فحوى السياق، وهو مثل هالة تحيط بالشخصية في سياقها الأدبي، فيخاطب وجدان المتلقي ويوجهه نحو مرامي الاستدعاء، بل قد يكون حافزا له كي يبحث عن حقيقة تلك الشخصية والتعرف عليها. أم بالنسبة للمتلقي العارف بالشخصية في العالم الخارجي، فإنه وبمجرد مطالعته للرواية يدخل في لاوعي المبدع، ويشاركه الصورة الذهنية عن الشخصية، وينساق معه في تمدده الإبداعي المتخيل للشخصية داخل الرواية. وهذا ما أبدع فيه الكاتب في سياق فني جمالي رائع.

وأما قضية أدب التراجم بين التوثيق والفن، فإن الكاتب يكاد يكتب ترجمة، وهي بلا نزاع ترجمة أدبية، ليست علمية توثيقية تفتقر إلى الحقيقة والوثائق، وبالتالي ينسب إليها الخلل من هذه الجهة.

أما الإبداع الأدبي في التراجم لدى كاتبنا فإنه يتسم بسياقه الفني، المتكئ على الأساليب الجمالية الأدبية، والتمدد في فضائيات الخيال، مرتبطا في الوقت ذاته بالأطر الأساسية لهذه الترجمة، في بناء من فسيفساء الحوارات الدرامية وحبكة الحدث وتشويق الحكي.

الرواية شائقة وإبداعية بامتياز، والكلام فيها من حيث البنائيات الفنية للنص ولفنيات القص فيها يطول، هذا بجانب التناول التحليلي للحوارات والأحداث المتشابكة والمتصل المنفصل، ولعلنا نحتاج كثر من مناسبة وأكثر من ندوة لتناولها بما تستحق، ولو في الحد الأدني. غاية الأمر أننا فعلا كسبنا عملا فنيا راقيا في مكتبتنا العربية، نهنئ به القارئ العربي، ونهنئ الكاتب المبدع أ./ شريف محيي الدين، على هذا الإنجاز الرائع.

وللحديث عن هذه الرواية الرائعة بقية

د./ محمد شحاتة

ناقد وشاعر – عضو اتحاد كتاب مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى